في أول رد فعل عملي على قرار الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بضم أربعة أقاليم أوكرانية إلى بلاده رسمياً، نجحت كييف في تحرير أول مدينة داخل نطاق هذه المناطق، الأمر الذي يمثل ضربة موجعة للمشروع التوسعي الروسي، بما يعنيه من إهدار لأهمية خطوة الضم التي اقترنت بكثير من البروباجاندا، والتهديدات الصارمة التي تعتبر أي مساس بتلك المناطق المضمومة توًا بمثابة مهاجمة أراضي روسيا نفسها.

المقاطعات الأربع التي ضمها بوتين تقع كلها في شرق أوكرانيا، اثنتان متصلتان بالأراضي الروسية، واثنتان في جنوب شرقي أوكرانيا، وهي بالترتيب من الشمال: لوجانسك، دونتسك (يشكلان معًا إقليم الدونباس المظلل بالأخضر في الخريطة)، زابوريجيا، خيرسون.

بدأ الهجوم الأوكراني المضاد منذ مطلع سبتمبر لكنه نجح في الأيام الأخيرة في استعادة بلدة ليمان الاستراتيجية في دونتسك، كما توغل الأوكرانيون عميقًا في خيرسون.

السيف أصدق إنباءً من الخطب

لم تعر القوات الأوكرانية التهديدات والخطب الروسية اهتمامًا فالغريق لا يخشى البلل، فشنت هجومًا أجبر القوات الروسية على الفرار من مدينة ليمان الاستراتيجية في إقليم دونيتسك بالدونباس، واعترف المتحدث باسم وزارة الدفاع الروسية بخسائر قواته وهزيمتها، وأقر أيضًا بأن القوات المهاجمة تفوقها في العدد والعدة، وسحب بوتين قواته من المدينة لتجنيبهم الوقوع في الأسر، بعد أن تحولت إلى أهداف سهلة عاجزة عن حماية نفسها وفقدت القدرة على مواجهة الهجوم الأوكراني.

وتعود أهمية مدينة ليمان إلى موقعها الاستراتيجي المشرف على تقاطع طرق رئيسي على نهر سيفرسكي دونيتس، مما جعلها نقطة إمداد رئيسية للقوات الغازية، وبالتالي تم حرمانها من إمكانات كثيرة تحتاجها لمواصلة الحرب في الشرق الأوكراني، بخاصة في دونيتسك، وهي قريبة أيضًا من لوجانسك، مما يعني أن لنتائج هذه المعركة تأثيرًا كبيرًا متوقعًا على سير المعارك اللاحقة في الشرق.

وقد شنت القوات الأوكرانية هجومًا حاولت فيه تطويق الآلاف من عناصر القوات الروسية داخل المدينة قاطعة عنهم خطوط الإمداد، ولجأ الروس إلى الفرار من الحصار الوشيك، بينما واصل سلاح المدفعية الأوكراني اعتراض طريق هروبهم الوحيد، وبعد خسارة معركة ليمان شن الطيران الروسي غارات انتقامية عنيفة على المنطقة.

مأزق بوتين وخيارات الضرورة

يزداد موقف الجيش الغازي سوءًا بمرور الوقت؛ فبعد سبعة أشهر من بدء الغزو تسيطر موسكو اليوم على مساحة أقل مما كانت متاحة لديها في الفترة الأولى للغزو، ويسير منحنى عمل قواتها في الاتجاه الهابط لا سيما بعد نجاح كييف في استعادة منطقة إيزيوم الشهر الماضي خلال هجوم مضاد أدى إلى دحر الروس في عدة معارك وتقليص خطوط إمدادهم، ورفع الروح المعنوية للأوكرانيين وإنعاش الآمال في الانتصار، والعكس صحيح بالنسبة لجيش الغزاة.

واضطرت موسكو لإصدار قرار التعبئة العسكرية الجزئية، وهو قرار حاولت طويلًا عدم اللجوء إليه، لكن ذهبت إليه مضطرة بعدما استطاعت كييف انتزاع مناطق مهمة الشهر الماضي، وأظهرت القصور العددي الكبير لدى الروس، لذا يحاول الجيش الأوكراني كسب الوقت واهتبال فرصة تراجع خصومهم لكسب أكبر قدر من الأراضي قبل دخول القوات الاحتياطية الروسية إلى الخدمة.

ومع شعور الروس بالمأزق وعجزهم عن حسم الأمور لصالحهم في ساحات المعارك، بدأوا في البحث عن بدائل أخرى كالتهديد باستخدام السلاح النووي بشكل تكتيكي، مصداقًا لما ردده نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، ديمتري ميدفيديف، وكذلك حديث بوتين الأسبوع الماضي، عن نيته استخدام «كل الوسائل المتاحة» لحماية وحدة أراضي دولته.

وهو مصطلح بات اليوم يشمل مناطق أوكرانية وهي خيرسون، وزابوريجيا، ولوجانسك، ودونيتسك، التي صادق بوتين على ضمها، الجمعة، وأعلن أن سكانها انضموا إلى وطنهم الأم، وأن مناطقهم ستظل جزءًا من روسيا إلى الأبد.

لكن تهديدات بوتين تعوزها المصداقية وبالتالي لا تحقق هدفها المعلن وهو ردع الغرب عن دعم أوكرانيا بالسلاح والمعلومات والتدريب وغير ذلك من أشكال المساندة، فقد اعتبر وزير الدفاع الأمريكي، لويد أوستن، أن التهديدات النووية الروسية «غير مسؤولة»، مشيرًا إلى أن هذا الكلام «ليس النوع الذي نتوقع أن نسمعه من قادة الدول الكبيرة»، وتعهد باستمرار دعم كييف حتى تستعيد كامل أراضيها.

ورغم إعلان روسيا ضم أربع مناطق أوكرانية رسميًا إلى حدودها، فإنه من المتوقع أن تعاني الأمرين في السيطرة على هذه المناطق بسبب عمليات المقاومة الشعبية والهجمات العسكرية للجيش الأوكراني وسيولة الأوضاع؛ حيث لا توجد خطوط حدود معروفة تحظى بالاحترام، بل تتغير الأوضاع على الأرض بسبب التطورات الميدانية بين عشية وضحاها، كما أن الوضع الداخلي في روسيا تأثر بشكل سلبي وشاعت روح التململ وعدم التفهم لهذه المغامرة العسكرية التي يخوضها الجيش ضد دولة جارة تربطها أواصر القربى بالشعب الروسي الذي لم يجد أية فائدة تعود عليه من جراء هذه الحرب الطويلة المكلفة للغاية، وبدأ القادة يتبادلون الاتهامات عن الهزائم العسكرية.

ويحاول بوتين المأزوم الخروج من معركة أوكرانيا بأي مكسب ملموس بعد ما اتضح له أن الأفق غير واضح والزمن لا يسير لصالحه، وأن مكاسبه قابلة للتبخر في أي وقت، لذلك يحاول تجميد الوضع الراهن وتقنينه في المناطق التي توجد فيها قواته، أو بعبارة أخرى ترجمة المكاسب الميدانية السابقة إلى الحد الأدنى مما يمكن الاحتفاظ به من الأراضي، لحفظ ماء وجهه ومواراة إخفاقاته وتبرير التضحيات والخسائر الضخمة التي تحملها شعبه جراء هذه المغامرة، لكن الانتصارات الأوكرانية الأخيرة تقف حجر عثرة أمام تنفيذ خطط بوتين.

كما أن التراجع في سير المعارك في أوكرانيا يزيد من احتمال وقوع اضطرابات في أعماق روسيا؛ فمنذ إعلان وزير الدفاع الروسي، سيرجي شويغو، قرار استدعاء 300 ألف مواطن للقتال في أول تعبئة جزئية لجنود الاحتياط منذ الحرب العالمية الثانية، اندلعت الاحتجاجات في جميع أنحاء روسيا رغم القوانين الصارمة المناهضة للاحتجاج، وتم اعتقال المئات، ورصدت المجموعات الحقوقية إحراق تسعة مراكز تجنيد، مع التذكير بأن الحملة بدأت قبل معركة ليمان أي أن الأمور تبدو الآن أكثر سوءًا.

كما تصاعد الحديث عن توترات طائفية بعدما اتضح أن حملة التجنيد الإجباري تركز بشكل مكثف على تجميع أبناء الأقليات العرقية، الذين يشكلون خمس سكان البلاد، لإرسالهم إلى المحرقة الأوكرانية في مقابل التغاضي عن كثير من أبناء العرق الروسي قدر الإمكان بهدف تجنب إثارة غضب سكان المدن الأثرياء، وهي ملاحظة كانت حاضرة منذ بداية الحرب حيث تم رصد نسبة وفيات عالية جدًا بين الأقليات المسلمة كالشيشانيين مثلًا.

 ومؤخرًا لوحظ تصاعد وفيات أبناء الأقليات العرقية من مناطق داغستان وبورياتيا وكراسنودار في القوقاز أكثر بكثير من الوفيات من موسكو مثلًا، ولذلك نشطت مجموعات على وسائل التواصل الاجتماعي لتوعية المواطنين بطرق الفرار من التجنيد والسفر خارج البلاد، والدول التي يمكن لهم السفر إليها دون تأشيرة، وجمع البيانات عن حملة التجنيد الإجباري، وقال الرئيس المنغولي السابق، تساخياجين البجدورج، إنه «منذ بداية هذه الحرب الدموية، عانت الأقليات العرقية التي تعيش في روسيا أكثر من غيرها.. تم استخدامهم كعلف للمدافع».