منذ سنوات والمؤسسات الصحية سواء كانت محلية أو دولية تعمل على محو الوصمة المرتبطة بالطب النفسي وتشجيع الجمهور على التوجه إلى الطبيب النفسي حال تشكلت لديهم أي شكوك حول صحتهم العقلية، وتشجيع أو اصطحاب أولئك المشكوك في إصابتهم من الأقارب أو الأصدقاء. ترتبط تلك الحملات بالحديث عن «وباء نفسي عالمي»، وهو حديث سابق حتى على ظهور جائحة فيروس كورونا المستجد كانت قد بدأته ورقة علمية أصدرتها طبيبتان نفسيتان مرموقتان (نضال مقدم وفيرونيكا توتشي) عام 2016، ثم اكتسب جدية أكبر عندما بدأت الصحة الأمريكية تناقش رسميًا «وباء أفيوني» يجتاح الولايات المتحدة في شكل ارتفاع عدد الوفيات السنوية نتيجة الجرعات المرتفعة من مشتقات الأفيون (المورفين، الكودين، الهيروين، الترامادول).

تبدو تلك الحملات إيجابية بالتأكيد، غير أنها تتحاشى تناول أسباب صعود ذلك الوباء النفسي في شكل ارتفاع معدلات الإصابة بالاكتئاب ومتلازمة ما بعد الصدمة والقلق وحتى الفصام، فضلًا عن زيادة نسب الانتحار والإدمان، وهو ارتفاع لا يمكن تفسيره بفرط التشخيص فحسب كما يحاول أحد الاتجاهات النقدية في الطب النفسي أن يفسرها. يتعلق هذا التحاشي ببعد أيديولوجي مضمر في خطاب الطب النفسي تلتقي فيه مصالح حقل الطب النفسي نفسه مع مصالح المؤسسات السلطوية والرأسمالية.

ارتبط انفجار اضطرابات الصحة العقلية والنفسية بالتحولات الاجتماعية الحديثة، وهي تحولات يرتبط كثير منها بالمنظومات الرأسمالية كطبيعة العمل الاستغلالية، علاوة على غياب الاستقرار في العمل ما يجعل الإنسان في حالة قلق مستمر من المستقبل، بخاصة مع غياب أو تراجع دور الدولة في الرعاية الاجتماعية، وكذلك ظهور أشكال جديدة من العمل قليل المكانة التي لا تقدم لصاحبها الإشباع المعنوي الضروري من العمل. من ناحية أخرى، تتزايد الضغوط الاستهلاكية التي تخلق حاجات جديدة يوميًا في حياة الإنسان من دون أن تمكنه من إشباعها، وهي ضغوط يضاعفها أزمة معنى ومعايير يتسبب فيها اضمحلال الأدوار التي كان يلعبها الدين وحاولت أيديولوجيات حديثة أن تؤديها محله، والخواء السياسي الذي يهيمن على المجال العام.

تؤدي أزمة المعنى والمعايير إلى حيرة مزمنة أمام أسئلة الصواب والخطأ والكيفية التي يجب أن تعاش وفقًا لها الحياة العاطفية والاجتماعية، فيعود التساؤل عن الأشكال الصحية للعلاقات العاطفية والحقوق والواجبات فيها، وتبقى الإجابات في هذا الإطار محدودة النفع بسبب نسبيتها حيث تتذرع بحكمة مبتذلة هي أن الصحي ما يتفق عليه الطرفان، وهي إجابة أقرب إلى لا إجابة، حيث إن كلا الطرفين ليس لديه عروض محددة للطرف الآخر يمكن أن تقام تسوية وفقًا لها.

إضفاء السحر على الطب النفسي

تمثل تلك الوضعية المضطربة التي تظهر في انفجار الاضطرابات النفسية تهديدًا للمؤسسات بالتأكيد. أمام هذا التهديد، لعب الطب النفسي دورًا إنقاذيًا عبر محاصرة تلك الاضطرابات في جذورها الفردية والعضوية (الفسيولوجية) وعزلها عن السياقات الاجتماعية. تلاقت تلك المصالح منذ مطلع القرن مع تأسيس الطب النفسي لأول مرة كحقل مستقل على يد السويسري أدولف ماير في الولايات المتحدة الذي حلم بأن يحظى الطب النفسي بالتقدير العلمي والاجتماعي كسائر اختصاصات الطب البشري.

في سبيل تحقيق حلمه بنيل التقدير العلمي، تبنى ماير «السيكوبيولوجي»، أي وجهة النظر القائلة بأن الصحة العقلية قائمة بأسرها على العمليات البيولوجية، وهي وجهة النظر التي كانت قد وجدت مكانها في الولايات المتحدة في نفس الوقت تقريبًا على يد وليم جيمس. عنى ذلك من بين أشياء أخرى إمكانية التأكيد باستمرار على أن الاضطراب النفسي يمكن اختزاله إلى أسباب عضوية، كاضطراب في نسبة بعض الموصلات الكهروكيميائية في المخ، وهو ما يعني منح براءة نظرية للأسباب الاجتماعية.

أدولف ماير
أدولف ماير، أحد رواد الطب النفسي

من جهة أخرى، حلم ماير بأن يلعب الطبيب النفسي دورًا فعالًا خارج المصحة، وهو ما يضمن له المكانة الاجتماعية، وكذلك التمويل السخي لبرامجه العلمية عبر إقناع المموّلين بالخدمات الجليلة التي يمكن أن يقدمها لهم الطب النفسي. في هذا كتب ماير عام ١٩٠٧:

هدف السيكولوجيا القائمة على أساس بيولوجي هو مساعدة الإنسان على العثور على مكانه المناسب في النسيج الاجتماعي. إن ذلك يساعد على تبني الرؤى البناءة عوضًا عن الدعاية الهدامة القائمة على الوعي الطبقي … حيث إننا نحلم حقًا بالترتيب الصحيح القائم على الضبط الذاتي الذي يحقق الاعتدال والرضا ضمن نظام إبداعي وليس ضمن نظام ثوري عنيف.

استمرت نزعتا ماير في جمع مصالح مؤسسات الدولة ورأس المال في «طوببة المجتمع» (Medicalizing Society) (التعبير للباحثة الأمريكية زولا كار، واستخدمه كذلك بيتر كونراد)، أي تحويل المشكلات الاجتماعية إلى مشكلات ذات طبيعة طبية عضوية يجب التعامل معها فقط في هذا الإطار، ومصالح الطب النفسي في «إضفاء السحر عليه» (Enchanting Psychiatry) عبر نيله الاحترام العلمي كحقل قائم على معرفة طبيعية تجريبية، ونسبة قدرات علاجية شاسعة للطبيب النفسي في التعامل مع كافة الشئون الحياتية للإنسان، بحيث إن الطبيب النفسي صار يلعب الأدوار الاجتماعية التي كانت مجالًا لرجل الدين والكاتب والصحفي وحتى كبار العائلة والأصدقاء الحكماء، في توجيه الإنسان في قراراته الحياتية التي تتعلق بعمله وعاطفته وزواجه وتربيته لأبنائه (يستحق هذا الشق الأخير مقالة مستقلة).

تقدمية «المشاهير»

في 2013، حققت النزعة السيكوبيولوجية كسبًا كبيرًا عندما أعلن المعهد الوطني للصحة العقلية (NIMH) في الولايات المتحدة عن مشروع لإعادة تصنيف الأمراض النفسية والعقلية يحل محل «الدليل التشخيصي والإحصائي» (DSM)، وهو المرجع الأهم للممارسة الطبية النفسية حول العالم وتصدره رابطة الطب النفسي الأمريكية (APA) التي كان ماير من بين روادها الأوائل بالطبع. يقوم المشروع الجديد، «معيار الحقل البحثي» (Research Domain Criteria)، على إعادة تصنيف الاضطرابات النفسية والعقلية وفق أسسها البيولوجية عوضًا عن التصنيف القائم على الأعراض في الدليل التشخيصي والإحصائي الذي انتقده مدير المعهد واعتبره مفتقدًا للدليل.

لعبت كذلك الثورة في صناعة الأدوية النفسية منذ السبعينيات، وعلى رأسها الجيل الثاني من مضادات الاكتئاب التي اشتهر من بينها بروزاك Prozac وحاز مكانة شعبية واسعة، دورًا في تحويل الأدوية النفسية إلى حل سحري، وأضحت تستخدم وكأنها أحد أنواع الخمور لمواجهة الفشل الدراسي أو المهني أو العاطفي، وللمساعدة على الانخراط في الحياة الاجتماعية ومواصلة العمل تحت الضغوط.

أما إضفاء السحر على الطب النفسي فقد صار واحدًا من الأفكار التقدمية التي تبنتها النخب والمشاهير، مثله مثل قضايا الجندر والعنصرية والأقليات. تجرّد تلك القضايا من أبعادها السياسية والاقتصادية، لتبقى قضايا ثقافية مجردة يمكن للمشاهير تبنيها و«تمثيل» أدوار نضالية عبر الدعوة إليها، من دون أن يمثل ذلك أي تحدٍ لمؤسسات السلطة ورأس المال التي يبقى هؤلاء المشاهير على علاقة وثيقة بها (يعود الفضل للمنظرة اليسارية الأمريكية نانسي فريزر في تناول ذلك الخطاب الذي تسميه «النيوليبرالية التقدمية»).

مسلسلات من نوع «خلي بالك من زيزي» و«ليه لأ» هي نموذج لهذه النيوليبرالية التقدمية، ففي الأول تقدم مشكلات نفسية لأبطال العمل ذات جذور محض أسرية، وربما ترتبط بالثقافة الرجعية، بينما تبقى السياقات الاجتماعية والمادية غائبة تمامًا عن شخصيات درامية تتمتع بمستوى متوسط أو فوق المتوسط من تلك الناحية. أما «ليه لأ» فيحتفي بقدرة فتاة على تحدي ضغوط والدتها، بينما تتمتع تلك الفتاة ومن حولها برفاه مادي يسمح لها بهذا التحدي والاستقلال، ويجعل الضغوط التي تتعرض لها في الواقع أقرب إلى أحلام بالنسبة لأغلب الفتيات المصريات.

يمكن بعد ذلك لبطلة مسلسلات من ذلك النوع أن تدعو جمهورها بأريحية لزيارة الطبيب النفسي والاعتماد على نصائحه عوضًا عن نصائح الأم أو الأصدقاء. وهي نصيحة جيدة تشكر لها من جهة إزالة الوصمة عن الطب النفسي، لكنها تشجع بقصد أو من دون على تحويل الطبيب النفسي إلى مصلح اجتماعي.

تنطوي تلك الدعوة كذلك على تصور نظري خطير للإنسان كشيء بسيط خاضع للمعرفة العلمية، وهي رؤية إلى جانب تشييئها للإنسان، تؤدي إلى افتراض خطأ عمليا، وهو أن بإمكان العلم أن يحدد للإنسان القرارات الصحيحة في حياته، وكأن الحب والزواج مثلا هو محض خيار عقلاني يمكن إخضاعه لتحليلات عصبية تحدد الشريك المناسب، وأن الميول الدراسية أو المهنية للإنسان يمكن إدارتها وفقا لإمكاناته الفردية. يجمع هذا التصور بين الطموح الحداثي للسيطرة والتبسيط، والنزوع ما بعد الحديث لافتراض أن الإنسان مرن تماما أمام محاولات التعديل النفسي.

أمينة خليل
أمينة خليل في مقابلة مع إذاعة نجوم FM

نقد الطب النفسي لا هدمه

لقد ولدت النزعة النقدية تجاه «طوببة المجتمع»، والطب النفسي على وجه الخصوص، منذ الستينيات مع كتابات ميشيل فوكو وحركة معاداة الطب النفسي Anti-Psychiatry التي تزعمها أطباء نفسيون كتوماس شاش وفرانكو بازاليا. لكن تلك النزعة سقطت في إنكار حقيقة المرض النفسي وأصوله العضوية وأهمية العلاجات الدوائية وغير الدوائية في مواجهته، وكانت لها نتائج كارثية ليس فحسب على المرضى الذين تأثروا بها إلى اليوم، بل كذلك على الاتجاهات النقدي في الطب النفسي التي صارت موصومة بتبني ذلك العداء المختل للطب عمومًا والطب النفسي خصوصًا، بينما في الواقع، ظلت الممارسة الطبية النفسية تعتمد كأي ممارسة على مقاربة براجماتية تدمج البيولوجي والدوائي من جهة بالنفسي والمعرفي والسلوكي من جهة أخرى في محاولة السيطرة على الاضطراب النفسي والعقلي والقضاء عليه أو تحجيمه.

حركة العداء للطب النفسي في الستينات
حركة العداء للطب النفسي في الستينات

لا يعني نزع السحر عن الطب النفسي العزوف عن علاج الاضطرابات النفسية والعقلية وتطوير الطب النفسي، أو تحدي المشاريع العلمية ذات الإنجازات العظيمة في فهم البنى العصبية وآثارها السلوكية والنفسية، وإنما يعني فحسب الالتفات إلى الأسباب غير الفردية والعضوية لانفجار ذلك الوباء النفسي، ونبذ التقدمية الزائفة التي تدعو إلى الذهاب إلى الطبيب النفسي فقط، بتقدمية نضالية تدعو إلى الذهاب إلى الطبيب النفسي بجانب الإسهام في المعركة ضد المؤسسات والترتيبات السلطوية والاقتصادية التي تسببت في هذا الاضطراب أو في زيادته، كما الإسهام في تطوير ثقافة تواجه أزمة المعنى والمعايير.

كما أن نقد تقدمية المشاهير لا يعني تبني موقف معاد للنسوية والحركات التقدمية في حد ذاتها، وإنما يعني تجذير تلك التقدمية لربط القهر الثقافي بالقهر السياسي والاقتصادي في سبيل خلق «تقدمية نضالية»، لا تحاول منح النساء من الطبقات العليا رفاهية اجتماعية أكبر، وإنما تحاول تعزيز بيئة اجتماعية داعمة للنساء وحقوقهن.

إن البروزاك مثلًا دواء مهم بالتأكيد، لكنه ليس حلًا سحريًا لمشكلاتنا الاجتماعية، وإنما هو علاج لحالة مرضية لا يفترض أن تصيب شرائح واسعة من المجتمع، ولا أن تكون إصاباتها تلك حال حدوثها طويلة الأمد. يحمي البروزاك كثيرًا من الموظفين المضغوطين والمجروحين عاطفيًا من الانتحار، لكن في ظل مجتمعات تعاني كل هذا القدر من الاختلال المادي والثقافي، فإن البروزاك ليس هو الحل، ولن يحمينا إلى الأبد.