حتى منتصف التسعينيات من القرن العشرين، كانت هناك حساسية وتخوفات من وصف المسكنات الأفيونية في الوصفات الطبية؛ وذلك بسبب المخاطر العالية للإدمان على هذه الأدوية، فكان يقتصر الأمر على وصفه لمرضى السرطان ذوي الآلام الشديدة.

حتى جاء عام 1996 وأطلقت شركة «بيردو فارما» Purdue Pharma المملوكة لعائلة «ساكلر» Sackler، والمشهورة بالأعمال الخيرية والتبرعات الكبيرة في الولايات المتحدة، حيث أنتجت الشركة دواء أوكسي كونتين OxyContin، المحتوي على المادة الفعّالة أوكسيكودون Oxycodon الأكثر فعالية من المورفين.

بدأت الشركة في الترويج للعقار الجديد، واتبعت استراتيجية «شرسة» في الترويج له، Aggressive Marketing Behaviour، باعتبار أنه يساعد في تسكين الآلام بشكل كبير، ويمكن استخدامه ليس لمرضى السرطان فقط، بل لمرضى الآلام المزمنة؛ مثل آلام المفاصل وآلام الظهر المزمنة وآلام العمل اليدوي.

كما روجت إلى كون الدواء آمناً ولا توجد منه مخاطر إدمانية، وأن الشركة اتخذت التدابير الكافية لمنع إساءة استخدام الدواء أو إدمانه، وأنه قد حان الأوان لتغيير نظرتنا ناحية المسكنات الأفيونية.

وتحت مظلة التأمين الصحي، لم يكن في حسبان مستخدمي الأوكسي كونتين أنهم سيتحولون يوماً ما إلى مدمنين على هذه المادة، ومنهم منْ مات جرّاء جرعة زائدة، التي تزيد قوتها على قوة الهيروين أو المورفين من 50 إلى 100 مرة، بل إن كثيراً من هؤلاء تعاطوا الهيروين عندما عجزوا عن توفير هذه المادة اللعينة.

روّجت الشركة للدواء بأنه العلاج الذي «يبدأ به المريض ويظل معه»، وأصبح بالفعل كالحبوب السحرية لمرضى الآلام المزمنة، بل واستخدمته فئات أخرى؛ إمّا بدافع تقليل الإحساس بالألم، أو الحصول على بعض الطاقة، أو السهر والقدرة على أداء عمل إضافي. وصرّحت باستخدامه هيئة الدواء والغذاء في أمريكا FDA، واعترفت به، لكن التحقيقات الفيدرالية أثبتت لاحقاً أن الشركة قدّمت رشاوي كثيرة لتسويق المنتج الجديد؛ بدءًا من موظف هيئة الدواء والأغذية، الذي تعاقد لاحقاً مع الشركة نظير راتب سنوي 400 ألف دولار، وكذلك مندوبو المبيعات، والأطباء المتحدثون. وكان الغرض هو تقليل التحسس من الاتجار في الدواء، وتقليل المخاوف من إدمانه.

أطلق الأوكسي كونتين العنان لمجموعة من الأدوية المماثلة، التي يُطلق عليها المسكنات الأفيونية، وأشهرها الفنتانيل، وأدوية كثيرة مماثلة. وأصبحت تُكتب في مئات ملايين الوصفات الطبية كل عام، حتى عانت الولايات المتحدة مما وُصف بالـopioid crisis أو أزمة المواد الأفيونية.

كان عدد الوفيات -سنوياً- جرّاء استخدام هذه المنتجات عشرات الآلاف، ووصل العدد في عام 2018 إلى حوالي 64 ألفاً، بإجمالي وفيات حوالي 500 ألف، إضافة إلى ملايين الأشخاص الذين يُعانون من اضطراب الإدمان بسبب المواد الأفيونية، للدرجة التي جعلت دونالد ترامب يعلن حالة الطوارئ إزاء هذه الأزمة الأفيونية.

أعلن ترامب عن تشكيل لجنة تحقيق برئاسة حاكم ولاية نيوجرسي، حيث تم فتح تحقيق في أكثر من 40 ولاية مع كبرى شركات الأدوية، حول وجود شبهات تواطؤ وإغراق للسوق، لدرجة أن ترامب صرّح وقتها بأن إدمان المخدرات أصبح أكبر مُسبِّب لوفاة الأمريكيين، أكثر من حوادث المرور والسلاح، وقال إن 11 مليون أمريكي أساءوا استخدام الحبوب المهدئة.

في عام 2016، أدانت التحقيقات شركات كبرى، ودفعت هذه الشركات تعويضات ضخمة، منها جونسون أند جونسون. كما أُدينت شركة ماكنزي للاستشارات، وغيرها. أما شركة «بيردو فارما»، المتسبب الرئيسي في هذه الأزمة؛ ورغم أنه قد تم إدانة الشركة في عام 2007، ودفعت تعويضات بنحو 600 مليون دولار، إلا أن الشركة عاودت النشاط سريعاً من 2009 حتى عام 2019، وحقّقت إيرادات من دواء أوكسي كونتين بنحو 35 مليار دولار، بإجمالي أرباح نحو 10 مليارات دولار لعائلة ساكلر المالكة للشركة.

انتهت التحقيقات عام 2019، وأقرّت الشركة بالذنب بإحدى المحاكم الاتحادية في نيويورك التي كانت تنظر القضية؛ حيث اعترفت الشركة بأنها مذنبة في تهم الاحتيال وانتهاك قانون الغذاء والدواء، وتهم انتهاك القانون الفيدرالي لمكافحة الرشوة.

في حيثية الاتهام، قال نائب المدعي العام «جيفري روزن»:

لقد أسهمت في إساءة استخدام المواد الأفيونية الموصوفة طبياً، وتحولت إلى مأساة وطنية من خلال زيادة حالات الإدمان والوفيات.

مساعد المدعي العام الأمريكي الأول لمنطقة نيوجيرسي قالت:

اعترفت شركة بيردو بأنها قامت بتسويق وبيع منتجاتها من المواد الأفيونية الخطرة لمقدمي الرعاية الصحية، على الرغم من وجود أسباب تدعوها للاعتقاد بأن هؤلاء الأشخاص الذين يقومون بصرف هذه الوصفات الطبية قد يسيئون استخدامها.

الادعاء اتهم الشركة بأنها كذبت على إدارة مكافحة المخدرات بشأن اتخاذها تدابير لعدم إدمان هذه المادة، وبشأن الاحتيال في زيادة كميات المنتجات المسموح لها ببيعها من هذا الدواء، والاحتيال بصرف عمولات لمقدمي الخدمات لتشجيعهم على وصف مزيد من الوصفات الطبية.

قالت المدعي العام الأمريكي لمقاطعة فيرمونت أن الشركة قدمت أرباحها على أرواح وحياة الناس، وأفسدت العلاقة بين الطبيب والمريض، عن طريق رشوة الأطباء بكتابة مزيد من الوصفات الطبية من هذه المادة.

الشركة ضلّلت أجهزة المكافحة بشأن عدد الوصفات الطبية المقدمة منها، وقالت إن هناك طلباً متزايداً من المرضى ومن الأطباء لهذه المادة، واستغلت هذا في تصنيع كميات كبيرة من المادة.

اعترفت الشركة بأنها دفعت مبالغ مالية لاثنين من الأطباء المتحدثين في جامعة بيردو، لحث الأطباء الآخرين على كتابة مزيد من الوصفات الطبية، ودفعت لإحدى شركات السجلات الصحية الإلكترونية، مقابل التوصية بطلب منتجات الشركة من المسكنات الأفيونية.

بحسب شروط اتفاق الإقرار بالذنب؛ الشركة تم تغريمها نحو 3.5 مليار دولار، كغرامة جنائية، إضافة إلى ملياري دولار أيضاً تدفعها الشركة لحكومات الولايات والحكومات المحلية. وفِي النهاية اتفقت الشركة على إعلان إفلاسها، ودفع 2.8 مليار دولار لتسوية مسئوليتها الجنائية، وأن يتم تحويل الشركة إلى شركة منفعة عامة.

في 17 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، وافقت محكمة الإفلاس في المنطقة الجنوبية لنيويورك على الشروط المالية للقرار العالمي مع الشركة، وتضمن القرار شرط توقف الشركة عن العمل في شكلها الحالي، والخروج بدلاً من ذلك من الإفلاس كشركة ذات منفعة عامة (PBC) أو كيان له مهمة مماثلة مُصممة لصالح الجمهور الأمريكي، وأن يتم توجيه عائدات الشركة الجديدة نحو برامج مكافحة المواد الأفيونية الحكومية والمحلية.

برغم معارضته المعلنة لخطة الإفلاس، قال المدعي العام لولاية نيويورك «ليتيتيا جيمس»:

إن الأموال التي أسهمت بها شركة ساكلر ستفيد بعض الشيء.

وقال أيضاً:

لا توجد صفقة مثالية، ولن يُعوِّض أي مبلغ من المال على الإطلاق مئات الآلاف الذين فقدوا حياتهم، أو ملايين الأبرياء الذين أصبحوا مُدمنين، أو عدد لا يُحصى من العائلات التي مزّقتها هذه الأزمة؛ أزمة المواد الأفيونية، ولكن هذه الأموال ستُستخدم لمنع الموت والدمار نتيجة انتشار وباء المواد الأفيونية.

الخلاصة؛ أن الخطورة لا تأتي فقط من عصابات الاتجار بالمخدرات أو حتى المافيا الدولية؛ بل لا يقل ما فعلته هذه الشركة من احتيال ورشاو وفساد عن المافيا في شيء؛ حين تكون شركة دواء كبرى مافيا دولية.

كتبه د. عبد الرحمن حماد – الرئيس التنفيذي لمستشفى إيوان للطب النفسي.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.