قبل ثلاثة أيام من الانتخابات الإسبانية (2004) وقعت «تفجيرات مدريد» الشهيرة المنسوبة إلى «تنظيم القاعدة»، ليتمكن اليساري خوسيه لويس ثاباتيرو (صاحب الانتماء الماسوني العلني) من الفوز بشكل غير متوقع بالانتخابات، على خصمه (الحليف الموثوق للولايات المتحدة الأمريكية) خوسيه ماريا أثنار. وقد كان من قراراته المبكرة، قرار بسحب القوات الإسبانية من العراق. وخلال جولات من الانتخابات الأمريكية كانت رسائل ابن لادن أحد المؤثرات التي لم يكن بالإمكان تجنب تأثيراتها في مزاج الناخب الأمريكي.

الحالتان المذكورتان جزء من واقع تغيرت فيه العلاقة بين الجغرافيا والسياسة، فالعولمة الثقافية حملت أفكارًا ومنتجات وأنماط تفكير ومعايير، عبر البحار والمحيطات، فيما حمل الإرهاب المعولم أخطارا لم تكن قبل عقود قليلة لتصل إلى شمال البحر المتوسط أو غرب المحيط الأطلسي، لكنها وصلت وانفتح باب منذ الحادي عشر من سبتمبر/أيلول (2001) لم يغلق حتى الآن.


الانتخابات الأمريكية: الإرهاب والراديكالية والإسلام

اليوم تشهد ساحة السياسة الأمريكية معركة يتواصل الجدل حولها بعد أن أسهمت في تشكيل المشهد الانتخابي الأمريكي الأخير، وهي معركة تتجاوز في دلالاتها وتأثيراتها المستقبلية حدود السجال اللغوي والجدل المعرفي؛ إنها: «معركة الإسلام الراديكالي». ومنذ طرح الخطاب الأمريكي السؤال العريض: «لماذا يكرهوننا؟» عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر، والجدل مستمر وبناءً على كل تباين في الإجابة عن السؤال تتباين البدائل والوسائل، فالخيارات تبدأ نظرية وتترتب عليها نتائج عملية قد تبلغ حد التناقض.

ومعركة «الإسلام الراديكالي» بين الرئيس المنتهية ولايته باراك أوباما والمنتخب دونالد ترامب ستتحول إلى منعطف له توابعه في داخل الولايات المتحدة الأمريكية وخارجها. وجاء المنعطف الذي فتح باب السجال خشنًا في يونيو/حزيران 2016 عندما ارتكب عمر متين (الأفغاني الأصلي) جريمة أورلاندو التي قتل فيها العشرات في هجوم على نادٍ للمثليين. دونالد ترامب لم يفوت الفرصة ودخل في مواجهة عنيفة ذهب فيها لاتهام الرئيس بالتعاطف مع «داعش»، آخذًا عليه الامتناع عن استخدام تعبير «الإسلام الراديكالي» في وصف التهديد الذي تواجهه البلاد. وفي بيان صادر عن حملته الانتخابية، قال ترامب: «رفض الرئيس أوباما، بشكل مخزٍ، حتى أن يقول الإسلام الراديكالي، ومن أجل هذا السبب وحده يجب أن يتنحى».

باراك أوباما في خطابه الشهير الذي ألقاه قبل سنوات في جامعة القاهرة (2009) وكانت حجته كما قال لصحافي أمريكي: «كنت آمل في أن يثير خطابي نقاشا، ويوفر مساحة للمسلمين لمواجهة المشاكل الحقيقية التي يواجهونها، مشاكل الحكم وعدم إجراء بعض تيارات الإسلام الإصلاح الذي يساعد الناس على تكييف عقائدهم الدينية مع الحداثة». ورفض أوباما وصف «تنظيم الدولة» و«تنظيم القاعدة» بالإسلام، وذلك على عكس ما تذهب إليه معظم الدوائر البحثية والإعلامية الأمريكية. ويرى أوباما أن تصنيف هذه الجماعات ووضعها في خانة «الإسلام» حتى لو كان «الراديكالي» منه يضفي عليها شرعية دينية لا تستحقها.

ويؤمن باراك أوباما بأن هذه التنظيمات اختطفت الإسلام، وهو كرر مقولة «أمريكا ليست في حرب ضد الإسلام». لذا، حرصت إدارة أوباما على الابتعاد عن استخدام مصطلحات: «إسلامي» أو «جهادي» أو «ديني» في وصفها للجماعات الإرهابية. وعندما شهدت واشنطن مؤتمرا نظمه البيت الأبيض بعنوان: «مكافحة التطرف العنيف» (2015) رفض أوباما ضغوط الجمهوريين والقوى اليمينية المطالبة بضرورة الإشارة لـ «الإرهاب الإسلامي» في عنوان المؤتمر وجلساته، وفي الخطاب الرسمي الأمريكي.

وخطورة الحديث عن الإسلام الراديكالي هنا متعددة الأوجه؛ فهو من ناحية سيجعل الولايات المتحدة لأول مرة في تاريخ مواجهتها مع الإرهاب تصنف العقائد الدينية إلى معتدلة ومتشددة؛ ما يعني أن تصبح في «مواجهة عقائدية» لا سابقة لها في تاريخ العلاقات الدولية، وستحول «الحرب الدينية» من ذكرى إلى واقع.

يضاف إلى ذلك أن الراديكالية موقف عقلي/ نفسي له نظائره في المسيحية واليهودية، واثنان على الأقل من رؤساء الولايات المتحدة (رونالد ريجان وجورج بوش الابن) يمكن وصفهما بـ «الراديكالي»، هذا فضلاً عن العديد من الشخصيات والحركات الأمريكية المسيحية واليهودية. وتصور أن تخوض دولة – فضلاً عن أن تكون الدولة الأكبر في العالم – حربا مع فئة بسبب قناعاتها منعطف في تاريخ العلاقات الدولية. والارتكان إلى هذا التعبير كإطار للفهم قد يبرر لاحقًا خوض معارك لإجبار مرجعيات دينية على إدخال تغييرات على عقائد دينية.


وماذا عن راديكالية الآخرين؟

من ناحية أخرى، ستكون التفرقة بين «الإسلام الراديكالي» وأي نظير مسيحي أو يهودي سببًا وجيها للاقتناع بأن أمريكا في حرب مع الإسلام، وهو ما حذر باراك أوباما من عواقبه مرات. ويضاف إلى ما سبق أن تعريف ظاهرة الإرهاب نفسها سيصبح مفتقرا للدقة، وافتقاره للدقة ليس مجرد إشكال منهجي معرفي، وستترتب عليه بالضرورة سياسات خاطئة.

فالإرهاب كظاهرة مركبة ترفده روافد عديدة، وفي الخطاب التحليلي في الغرب مساهمات تبلغ الغاية في الأهمية تشمل دراسات باحثين مثل البريطاني دافيد أندرس الذي يربط الإرهاب بالثورة الفرنسية، وبالتحديد «حقبة حكم الإرهاب»، ومواطنه تيري إيجلتون الذي يرى أن «تنظيم القاعدة» ابن شرعي للحداثة، والفرنسي أوليفيه روا الذي يرى الإرهاب ثمرة «أسلمة الراديكالية»، وليس «الإسلام الراديكالي».


ترامب: تهديد «الإسلام الراديكالي»

معركة «الإسلام الراديكالي» بين الرئيس المنتهية ولايته باراك أوباما والمنتخب دونالد ترامب ستتحول إلى منعطف له توابعه في داخل الولايات المتحدة الأمريكية وخارجها.
في واحدة من تغريدات ترامب أشار إلى أن «أسلوب حياتنا مهدد من الإسلام الراديكالي، وهيلاري كلينتون لم تكن قادرة حتى على نطق هذه الكلمة».

في حملته الانتخابية استعمل المرشح الجمهوري دونالد ترامب مصطلح «الإسلام الراديكالي» وكرره كثيرًا. ويرى كثيرون أن ترامب وأمثاله لا يكترثون بتداعيات استخدام المصطلح على الأمن القومي الأمريكي مصالحها القومية محليا وعالميا. «البيت الأبيض» اعتبر أن هذا الخطاب يفتقر إلى المسؤولية لأنه يعادي فئة بأكملها من المجتمع، فضلاً عن إضراره بمصالح الولايات المتحدة لأنه يخدم دعاية تنظيم الدولة الإسلامية ويشيع الانقسامات.

وفي واحدة من تغريدات ترامب أشار إلى أن «أسلوب حياتنا مهدد من الإسلام الراديكالي، وهيلاري كلينتون لم تكن قادرة حتى على نطق هذه الكلمة». وتهديد أسلوب الحياة هنا يعني شيئًا مغايرا تمامًا للمخاطر على أمن الولايات المتحدة، والمشار إليه هنا المواطنون الأمريكيون المسلمون!

والحديث عن «أسلوب حياة» أمريكي يهدده الإسلام الراديكالي انقلاب تاريخي في الخطاب الأمريكي عن «الذات»، وهو أقرب إلى قاموس العلمانيين الأوروبيين الذين يرون الهوية – بالأساس – نمط حياة رموزه محددة سلفا، فيما الذات الأمريكية كانت دائمًا فخورة بتعدديتها ومنفتحة على مساهمات الآخرين في «نمط الحياة»، وخلال ما يزيد عن قرن كانت «بوتقة الصهر» الأمريكية أيقونة تختصر الكثير من معالم التعددية والاستعداد لقبول الآخر الديني والمذهبي والعرقي والإثني والثقافي، والنظر إلى مساهمته في الحياة الأمريكية كمصدر ثراء لا كعامل تهديد.

وبالتالي فإن حديث ترامب هو في الحقيقة رد فعل على التحول الملحوظ الذي شهده تأثير «الواسب White Anglo-Saxon Protestant). ويقصد بالواسب البيض المسيحيون البروتستانت من ذوي الأصول الأنجلوسكسونية بوصفهم الجماعة الأكثر تعبيرا عن هوية البلاد. وهذا النزوع يبدو كما لو كان استخدامًا «مسيسًا» لمفهوم «الإسلام الراديكالي» – مع استثمار الخوف غير المسبوق من الإرهاب – لتحقيق أهداف لا صلة لها بمكافحة الإرهاب.