أمرٌ غريبٌ غيرُ مألوف لقارئٍ أن تُغويه مقدّمة كتابٍ دون باقي محتواه؛ على أهميّة هذا المحتوى وتنوّعه واتّساع مراميه ومشاربه. هذا عينُ ما حدَث معي ولا زال يحدُث معي، مع “مقدّمة” كتاب (أفكار خارج القفص) للمفكّر والمترجم والناشر المصري عبد الرحمن أبو ذكري، الذي صدر عن دار “تنوير” للنشر والإعلام.

في المرّة الأولى التي اقتنيتُ الكتاب، قرأتُ مقدّمته المكثّفة وتوقّفت مُتخَمًا، على نيّة أن أُكمِل بقية محتوى الكتاب في جلسة تالية. في الجلسة التالية بدأتُ في تصفّح المحتوى على التوازي وفقًا لبعض توجيه المؤلّف في المقدّمة، وبعد عدّة صفحات وجدتُني أعودُ تلقائيًا ولا إراديًا لمقدّمة الكتاب، أقرؤها بشغفٍ غيرَ الشغف الأول، ولا يقلّ عنه.في المرّتين لم أجرؤ على أن أخطّ في تلك المقدّمة قلَمًا، ردَعتني بكارتُها الناصعةُ عن أن أفعل. غير أنّي لمّا اقتنيتُ نسخةً جديدة من الكتاب بعد أن استعارَ الأولى منّي أحدُ أساتذتي، جرُؤت على مالَم أفعله في المرّاتِ الأُوَل، وأعملتُ قلَمي في المقدّمة موشّيًا ومخطِّطًا ومعلّقًا، كانت قراءتي الثالثة للمقدّمة. في المرّة التالية، عُدتُ للكتاب بعد أن قرأتُ عنه مقالاً واستمعتُ لتسجيل ندوة ناقشَتْه، وقرّرتُ أن أكمل تصفّحي لمحتوى الكتاب متجاوزًا مقدّمته. لكن غلبَت عليّ غوايتي الأولى، ووجدُتني أعودُ للمقدّمة أطالعُها بشغفٍ متجدّدٍ، وتكافؤني هي بدورِها ببكارتِها المتجدّدة.

* * *

لا يوجد كاتبٌ حَقٌ يكتبُ بسهولة، في الكتابة الحَقّةِ من المكابدة ما فيها، أيًا كان الفنّ أو الإطار الذي تنتظمه أو تنتظم فيه هذه الكتابة. ولا تخلو الكتابة على هذا النحو من مستويين: الأول ظاهرٌ يقرؤه كل من يجيدُ القراءة، والثاني خفيٌّ باطنٌ يَشهَدُه أولئك الذين يكابدون القراءة. وهذا الخفيّ الباطن يُودِعه الكاتبُ قبسًا من ألمِه، وقطعةً من رُوحِه، وصُورةً من رؤيَته، ونُسخةً من إيمانه، ولا يَشهدُ كلّ ذلك إلا مَن كابد فِعل القراءة مرّة من بعدِ مرّة حتى يطّلع على كل ما أتيح له ممّا أودَعه الكاتبُ ما كتبَ.

غير أنّ الكاتبَ الحقّ لا يكتبُ شَفرةً أو يُنشِئُ طَلسَمًا؛ وإنما يُقدّم يدَ العون لقارئه بقدرٍ ما، ويترُك له البقيّة كي يجتهد في إكمال طريقه في المكابدة والاستيعاب والاستكشاف. من هنا كانت فكرة “الفهارس”. يقول محمود شاكر – رحمه الله-: (مفتاح كل كتابٍ فهرسٌ جامع؛ فاقرأ الفهرس قبل كل شيء). لكنّ طريقة شاكر في الفهارس كانت تفصيليةً جامعة، موضوعيّة وموضعيةً في آنٍ واحد، مفتاحًا دقيقًا لمغاليق ما اكتنزه الكاتب في كتابه؛ على خلاف المعتاد من الفهارس أن تكون موضعيةً فقط، كمفتاحٍ صدئٍ أثرَم.ما فائدة المقدّمات إذًا؟إذا كانت الفهارسُ مفتاح الكنز، فالمقدّمات خارطته ومَكمَن سِرّه. وما أكثر الكنوز التي يُستغنى بخارطتها عن مفتاحِها.الفهارسُ دليلٌ باردٌ لكلّ مَن يستطيع القراءة، والمقدّماتُ هاديةٌ دؤوبٌ لأولئك الذين يكابدون القراءة. الفهارس دليل المبتدئ، والمقدّمات دليل المجتهد. وعادةُ المقدّمات القيّمة أن تُغني عن الفهارِس؛ وعند التأمّل بينهما تجدُ أن الفهارس مُسوخ المقدّمات.والعناية بالمقدّمات هي (طريقة الحكماء الأوائل وغيرهم؛ لا تكاد تجد لهم كتابًا في طبٍ أو فلسفةٍ إلا وقد ضُبِطَت مقالاته وأبوابه في أوّله، بحيث يقف الناظر الذكيّ من مقدّمة الكتاب على ما في أثنائه من تفاصيله)، كما يقول نجم الدين الطوفي في شرح مختصر الروضة.وأولئك القرّاء الذين يتجاوزون المقدّمات إلى محتوى الكتاب، يتخبّطون في سراديب مُظلِمة صنعَتها أفهامهم داخل هذا المحتوى، ويتعثّرون بعقباتٍ ظنّوها من الكاتب بينما هي في حقيقتها أورامُهم العقليّة الخاصّة. وقد عاينتُ بنفسِي مأساةَ أحدِهم وقد أفرغ نفسه زمَنًا للردّ على محتوى أحد الكتُب المُضِجّة الحديثة، وجمع ردوده بعدها في كتاب.. فداحةُ هذه المأساة أنّ كل ما كتبه مردودٌ عليه بما سطره مؤلّف الكتاب الأوّل في مقدّمته المُحكَمة، ولو كان كلّف نفسه عناء قراءة تلك المقدّمة واستوعب منهجيتها لَما أضاع وقته فيما فعل.وفي كتاب “أبو ذكري” الذين بين أيدينا، استغناءٌ بالمقدّمة عن الفهرس، فضلا عن أنّ شكل المحتوى لا يلائمه وجود فهرس. وقد اعتنى بهذه المقدّمة عنايةً لافتةً تنضَح بالعُمق والمكابدة.

* * *

أروعُ ما في كتب السِيَر الذاتية والمذكّرات والرحلات: أنها تمنحه في ساعات، ما حصَل عليه الآخرون في سنين.

في مقدّمة الكتاب، التي لن نجاوز الحديث عنها في هذا المقال، يصفُ عبد الرحمن أبو ذكري كتابه بأنه (كتابٌ عن الحياة في ظلال الوحي كفلسفةٍ ومنهج مطّرد)، ويصف أفكاره وتأمّلاته وملاحظاته وتدويناته واقتباساته التي ضمّنها كتابه، بأنها تعكس “مسيرة” تطوّر رؤيته وتاريخانيّة ذاته، وتمثّل “الرحلة” التي تغيّر فيها موقفه من بعض القضايا وصولا إلى مواقفه النهائية.اللافتُ هنا أنّ الكتاب ليس سيرةً ذاتية أو مذكّراتٍ أو كتاب رحلات بالمعنى الفنيّ لكلٍ من ذاك؛ إلا أنه يفعل نفسَ فِعلِها، يمنحُك في ساعاتٍ ما حصل عليه مؤلفه في عشر سنواتٍ من المكابدة الفكرية والروحيّة، يقدّم لك “بعضَ” عصارة هذه السنوات العشر وخلاصتها، ويكفي هذا للدلالة على قيمة الكتاب، فـ(الكتب الجيدة هي الجوهر المصفّى للعقول الممتازة، والتحسين لمعارفها وثمرة سفرها الطويل) كما يقول ماركيز دي فوفنارج.يُرجع أبو ذكري عدم تمكّنه من نشر “كل” عصارة هذه السنوات العشر إلى أسبابٍ ثلاثة:الأول: قناعته بطوباوية ذلك الوهم المُغري بأن ينشر كلّ ما اختبَر.الثاني: إيثاره استخدام بعض الأفكار التي اكتمل نضجها واستقل نسقها في كتب وأبحاث قادمة.الثالث: تخلّيه عن أفكارٍ أو استبقائها في طور المراجعة والتطوير.إذا لم يكُن للكتاب الجديد غرضٌ معتَبر وإفادةٌ فارقة لدى قارئه، فلا داعي لكتابته من الأساس، فـ(آخر ما يحتاج إليه هذا الكوكب المسكين، هو كتابٌ جديد)، حسبَما تهكّم لورانس بلوك. وفي ثنايا مقدّمة كتابه، يشير أبو ذكري إلى أن غرضه من الكتاب هو أن يفيد القارئ في بناء مقدرته المنهجية التفكيكية والبنائية، ويعلّمه التفكّر، ويساعده على تكوين ملكة للنظر والنقد والحُكم، كل ذلك بطريقة غير مباشرة.ولأنّ كانِزَ الكنز هو الأعلم بسُبُل الوصول إليه، يقدّم المؤلّف نصيحته بأفضل طريقة لقراءة شذرات كتابه، وذلك بقراءتها على التوازي (لتحقيق قدرٍ من التكامل بين الأفكار واستكشاف اطّراد نسقها، ومن ثمّ الإفادة منها منهجيًا)، وعلى التوالي (لإدراك الطبيعة الإنسانية المركّبة ومقدرتها الفطريّة على الانتقال بين الموضوعات المختلفة والمتنوّعة ما استوى منهجها في النظر).لكنّ أكثر ما في هذه المقدّمة صِدقًا وحرارة، وتجاوبتُ معه حدّ الانصهار، هو حديث المؤلّف عن الفائدة التي استفادها لنفسه أثناء عمله على جمع وتنقيح مادّة الكتاب. لقد اكتشف حقيقة ذاته ككاتبٍ مجذوب ملتزمٍ بالكتابة طريقًا وحيدًا لاكتشاف الذات والوجود، شغوفٍ بالكتابة شغفَ الظامئ إلى الكشف، يجعل من ذاته سِقاءً يتجسّد بحياته وحرارته بين الصفحات، في حالةٍ عابرةٍ متجاوزةٍ يتّحد فيها الإنسان بالإيمان، والكاتب بالمكتوب، واللغة بالموضوع؛ الذات بالمعنى، والفاعل بالمفعول، والأداة بالمضمون.. حالة ينتشي فيها الكاتب متشبعًا بـ”فعل” الكتابة، وينتشي لها القارئ متشبعًا بـ”ناتج” هذه الكتابة من المقولات والأفكار.لافتٌ جدًا إصرار “أبو ذكري” على التأكيد على أن الكتابة عنده (جَمعٌ بين العمل الفني والعمل الفلسفي… لذا، فاللغة في كتاباتي لا تنفصل لا تنفصل عن الموضوعات التي أتناولها بها في الغالب الأعمّ، فهي ليست مجرد قوالب مصمتة بل تكوينٌ فنّي حيّ أكابده مكابدتي للأفكار)!لا تفسير لهذا الإصرار على المكابدة سوى الشغف؛ وعلى حدّ تفسير أبو بكر الكدلوندي: (يكون شغف الكاتب باللغة دافعه الأول للكتابة؛ فنرى ألفاظه تبلور أفكاره وتصوّر عواطفه. إنّ لقاح هذا الشغف باللغة مع ملكة الإنشاء يُنتِج الأسلوب، ويتفاوت هذا الأسلوب في رونقه ورصانته ووضوحه بقدر درجة هذا الشغف وتلك الملكة في الكاتب).لقد بدَت لي تلك المقدّمة كائنًا حيًا مفعمًا بالحيوية والحركة والحرارة.

* * *

إذا كان فارتان جريجوريان يقول -مستشهدًا بدانتي- (الجحيم هو مكانٌ حيث لا شيء يتصل بلا شيء)؛ فإننا على مستوى الأفكار يمكننا أن نعتبر الجحيم (حالةٌ حيث لا فكرة تتّصل بفكرة أخرى). إن أزمة الكثيرين من المتعاطين مع الأفكار وأوعيتها المكتوبة، أنهم لا يملكون قدرًا – لازمًا وكافيًا- من القدرة على معالجة هذه الأفكار وإيجاد الروابط بينها، وإجراء تفاعلات حيّة تصل بهم إلى رؤية متجدّدة، تتطوّر بتطوّر المعالَجة. إنهم يعترفون بينهم وبين أنفسِهم بألم هذا الجحيم من الأفكار المفكّكة والمقولات المنفصلة.

في كتابه “خمسة عقول من أجل المستقبل” يؤكّد هوارد جاردنر أن (القدرة على تركيب المعلومات وحبكها معًا من مصادر متفاوتة، وداخل كلٍ واحد، أمرٌ حيويٌ في الوقت الحاضر… ومع ذلك فإن القوى التي تقف في طريق عملية التركيب هي قوى هائلة).في مقدّمته على كتابه (أفكار خارج القفص)، يقدّم عبد الرحمن أبو ذكري وعدًا لقارئه بأن محتوى الكتاب سيساعده على تكوين منهجية تفكيكية وبنائية، وملكة للنظر والنقد والحُكم، وذلك بشرط أن يعاين القارئ المتفحّص طريقة الكاتب المطّردة في تفكيك الفكر السياسي، وفي قراءة الأدب، وفي مناقشة بعض مسائل الفلسفة والأدب، وفي صياغة دعاء يستلهم سير الأنبياء، وهكذا.ثمّة وعدٌ ههنا بالخلاصِ من الجحيم المذكور، وتشغيفٌ بإمكانية التغلّب على المعوّقات. يستحقّ هذا منّا أن نتوقّف أمام بعض مستويات مادة الكتاب، من حيث:* ملائمة اللغة للموضوع إلى درجة التوحّد والتطابق.* وجود نسق لغويّ ومعجم خاص.* وجود نسق مطّرد منسجم إلى حدٍ كبير، يجمع محتويات الكتاب.سيقتضي هذا منّا أن نحاول – فيما يأتي من المقالات حول مادة الكتاب– ما أشار به علينا المؤلّف، بشأن ملكة النظر والنقد والحُكم.أليس (من طبيعة الكتاب الجيّد أن يكون له نقّاد)؟! كما يقول نيكولا بوالو.


اقرأ المزيد:بين كتابين: “هروبي إلى الحرية” و “أفكار خارج القفص”بيغوفيتش وأنا