ريهام سعيد تضرب من جديد.

لا تتوقف «مذيعة الجدل» عن إثارة الجدل كلما ظهرت على الشاشة الصغيرة، والنتيجة سلسلة لا تتوقف من الحلقات المشتعلة التي تزيدها صعودًا أو هبوطًا، على حسب تعريفك لمدى النجاح الإعلامي.

هذه المرة خرجت المذيعة، العائدة أصلاً من غياب وإيقاف، في إحدى حلقات برنامجها «صبايا الخير»، وهي تُوثق رحلة صيدٍ برية قام بها فريق العمل لاصطياد ذئاب وثعالب. 

أضمرت ريهام نية مشاركتنا ما يحدث داخل رحلات الصيد، والتي اعتبرتها متعة لا يتسنى للجميع اختبارها، إلا أن ما رأيناه كان أبعد كثيرًا عن ذلك بعدما استعمل فريق العمل القسوة غير المبررة مع ثعلب؛ اصطادوه ووثَّقوه بطريقة قاسية، وظهر أمام الشاشات وهو يئنُّ ألمًا، وأنهى الجميع الحلقة وهم يتساءلون: أين المتعة؟

بالطبع، انهالت عليها أكوامٌ من الانتقادات على منصات التواصل الاجتماعي، التي طالبت بوقف البرنامج فورًا ومعاقبتها على ما فعلته من تعذيب حيوانٍ بريء، لا ذنب له إلا أن حظه العاثر ساقه لأن يقع بين أيدي ريهام وفريقها خلال بحثهم عن المتعة! متعة لم يعرفوا لها طريقًا إلا بتعذيب الحيوان وهو مُقيَّد بين أيديهم.

لم أشغل نفسي بمتابعة قضية ريهام سعيد وردود الأفعال المتباينة حولها، لكن هذه الحلقة دفعتني لطرح تساؤل غريب ومنطقي؛ لماذا يستمتع البشر بتعذيب الحيوانات؟ وعندما سعيتُ لمعرفة الإجابة اكتشفت أنها أطول مما ينبغي.

التلذذ بالأنين

الطيبة الحقيقية للإنسان لا يمكن أن تظهر في كل نقائها وحريتها إلا حيال هؤلاء الذين لا يمثلون أي قوة. فالامتحان الأخلاقي للإنسانية (الامتحان الأكثر جذرية والذي يقع في مستوى أكثر عمقًا بحيث إنه يخفى عن أبصارنا) هو في تلك العلاقات التي تقيمها مع من هم تحت رحمتها، أي الحيوانات. وهنا تحديدًا يكمن الإخفاق الجوهري للإنسان، الإخفاق الذي تنتج عنه كل الإخفاقات الأخرى.
 الأديب ميلان كونديرا في روايته «كائن لا تُحتمل خفته»

عندما قررت البحث عن أسباب استمتاع البعض بالتنكيل بالحيوانات، استبعدتُ كل الممارسات التي تدفعها بعض الأسباب -حتى لو كانت غير منطقية في نظري- مثل إساءة معاملة الحيوان في السيرك أو حدائق الحيوان للحفاظ على انضباطه، أو صيد الحيوانات وذبحها بغرض أكلها، أو حتى التبارك بدمها في بعض الديانات.

هنا، أتحدَّث بشكلٍ مُباشر عن الممارسات المستهجنة لبعض الناس، الذي قرَّروا، بلا أسباب واضحة، تعريض حيوان لتجربة تعذيب ضارية خرجوا منها بمُتعة صافية، ما سبب ذلك؟ وما مدى خطورة هذه الظاهرة؟

يؤكد بيرس بيرن عالم الاجتماع وأستاذ القانون، في كتابه «مواجهة سوء معاملة الحيوان»، أن تعذيب الحيوان لا يختلف عن تعذيب طفلٍ أو امرأة، كما أنه يعد جريمة كراهية وتحيز. 

ويطلق على هذا الشعور مصطلح «Zoosadism – السادية بالحيوان»، والذي تختلف درجاته من شخصٍ لآخر، لكنه في أحيان كثيرة يشبه الاستماع الجنسي. وهو أمر مختلف عن «الزوفيليا – Zoophilia» أو «الانجذاب الجنسي للحيوان»، والفارق الدقيق هنا أن صاحب المرض الأول لا يشعر بانجذاب جنسي تجاه الحيوان، وإنما يُصيبه تعذيبه بمتعة تُشابه ما يناله من لقاء جنسي.

وينقسم التعامل السادي مع الحيوان إلى نوعين؛ الأول أن يُعرِّض الشخص الحيوان لأذى مُباشر عن طريق ضربه، قتله، تعذيبه، والنوع الثاني هو تعريض الحيوان لضررٍ غير مباشر، هنا لا أذى ولا ضرب ولا تنكيل، فقط يقوم الشخص بإهمال الحيوان؛ فلا يرعاه ولا يُطعمه كما يجب، أو يمتنع عن تقديم الرعاية الطبية اللائقة به عند مرضه. 

وبالطبع، فإن هذه المشاهد المؤسفة ليست وليدة اليوم، فتاريخ إساءة معاملة الحيوانات يعود بنا إلى قرونٍ ماضية، في بريطانيا مثلًا نشأ ولعٌ بتدريب الكلاب على ممارسة المصارعة من القرن الـ 12 الميلادي، وكان هذا التدريب يستلزم تعريض الكلاب لأشكالٍ متنوعة وقاسية من التدريب تجعلها قادرة على القتل، وكان لهذه الأنشطة جمهور ضخم، واستمرت هذه الممارسة لمدة طويلة بعدها. 

ولهذا يروي الناقد الإنجليزي بيتر أكرويد في كتابه «شكسبير: السيرة»، أن من أهم التسليات في الفترة التي نشأ فيها شكسبير كانت تعذيب الحيوانات، حيث كان ولعًا تميز به الإنجليز. كانت ضراوة هذا النشاط تروع الزوار الآتين من القارة، كما كان هناك نشاط آخر يُعذِّب فيه رجال بالأسواط دبًّا أعمى!

لسوء الحظ، انتشرت هذه الممارسات في ثقافات مختلفة، في أمريكا وحدها، تُقدِّر جمعية الرفق بالحيوان الأمريكية أن عدد الحيوانات التي تموت بسبب سوء المعاملة والتعذيب يصل كل عام إلى مليون حيوان.

الفارق الشاسع بين ممارسات أمس واليوم هو أن تاريخ معاناة الحيوانات على يد البشر قديمًا لم يُوثَّق بشكلٍ دقيقٍ بعكس ما وثَّقه عصر الإنترنت. ساهم الإنترنت في توثيق ونشر مقاطع عدة لأشخاص يعذبون ويقتلون حيوانات تحت عنوان «تحطيم الحيوان» وقد ظهرت مواقع مخصصة لنشر هذه الحوادث العنيفة التي تحقق رواجًا كبيرًا بين المشاهدين، لدرجة أن هناك فئة معينة من هذه المقاطع تظهر فيها نساء يقفن حافيات الأقدام على حيوانات صغيرة ويدهسنها تمامًا، وهي المقاطع التي حققت رواجًا كبيرًا في أمريكا، دفع الكونجرس للتدخل وتشريع قانون يفرض الحظر على إنتاج وتصوير وتداول جميع صور سحق الحيوانات في الولايات المتحدة.

وفي مصر، انتشرت في السنوات الأخيرة مقاطع تحمل إساءات جمَّة بحقِّ الحيوانات لشباب يعذبون قطة حتى الموت، ولأطفال يذبحون كلبًا، وغيرها.

وبرغم وجود مواد في قانون العقوبات المصري منذ عام 1937م تنصُّ على معاقبة معذبي الحيوانات بالحبس والغرامة المالية، فإن ذلك لا يعد رادعًا كافيًا.

الافتراض بأن الحيوانات بلا حقوق وأن الوهم بأن معاملتنا لها ليس لها أهمية أخلاقية، هو مثال إيجابي شائن على الفظاظة والوحشية، التعاطف الكوني هو الضمان الوحيد للأخلاق.
آرثر شوبنهاور، كتاب أساس الأخلاق

لماذا نُعذِّب الحيوانات؟

يعتبر روبرت أغنيو أستاذ علم الاجتماع في أطروحته «أسباب تعنيف الحيوانات: تحليل اجتماعي نفسي» أن السبب الأول لإقدامنا على التنكيل بالحيوانات هو جهلنا بعواقب أذيتنا للحيوان، والاعتقاد بأن الواحد منَّا يمتلك مبررًا لهذا الأذى، وأن هناك منفعة شخصية قد يتحصَّل عليها الشخص من التنكيل بهذا الحيوان، كأن يكون هذا الحيون أحد الأنواع المفترسة أو يُشبه حيوانًا آخر تعرَّض لهذا الشخص بسوءٍ في تجربة سابقة وقديمة.

والسبب الثاني يتكون من عوامل عدة تشمل الصفات الفردية للشخص نفسه، مثل مدى امتلاك الإنسان لقُدرة التعاطف مع غيره، وكيفية تنشئته اجتماعيًّا، ومستويات التوتر والقلق التي يتمتَّع بها، ومستوى الضبط الاجتماعي لديه.

أما السبب الثالث والأكثر رعبًا، فهو أن البعض يتمتع بأذية الحيوانات لأن ذلك يشعرهم بالقوة، ما يؤكد أن هؤلاء الأشخاص يُعانون من مشاكل نفسية حادة لن تختفي إلا بتدخل طبِّي، وإلا أصبحوا خطرًا على المجتمع، أو بتعبير أكثر مباشرة: مجرمين.

أكد السبب الأخير العديد من الدراسات العلمية، وتحديدًا مع ظهور علم التنميط السلوكي،وهو العلم الذي يهتم بدراسة السلوكيات اللاوعية والتفضيلات الفردية للأشخاص، أفادت دراسات مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي (FBI) في عام 1988، أن القسوة على الحيوانات في الطفولة كانت سلوكًا مشتركًا بين القتلة المتسلسلين والمغتصبين، وأن هؤلاء المجرمين بدأوا طريقهم في العنف مبكرًا عن طريق تعذيب وقتل الحيوانات منذ الصغر. 

وفي دراسة شارك فيها 112 سجينًا ممن عنَّفوا حيوانات من قبل، تم سؤال السجناء عن الدافع الذي جعلهم يؤذون حيوانًا، من بين أسباب عدة كان الغضب أكثرها ذكرًا، وتلاه المتعة، وكره الحيوان والرغبة في السيطرة عليه. 

في الفترة بين 1964 و1973، قتل الأمريكي إدموند كيمبر بوحشيةٍ عشرة أشخاص من بينهم أجداده، أمه، وصديقة لأمه. وفي العام 1973م، سلَّم كيمبر نفسه للسلطات، ليُحكم عليه بالسجن مدى الحياة. أثناء وجوده بالسجن، أُجري على كيمبر عدد من الأبحاث حول جرائمه من الطفولة وحتى الكبر، اعترف الرجل للباحثين بأنه كان يُعذِّب ويقتل القطط وهو طفل، ويحتفظ برمادها في غرفته.

المعلومات التي منحها كيمبر الباحثين كانت إضافة تأكيدية لـ «ثلاثي ماكدونالد»، وهي نظرية وضعها الطبيب النفسي جون ماكدونالد مبنية على محاولاته الحثيثة لتشخيص القتلة المتسلسلين المستقبليين قبل تورطهم في جرائم مُروِّعة. 

أكد جون في ورقة بحثية، نشرها عام 1963 بعنوان «تهديد القتل»، أن هناك 3 عوامل تنبؤية تظهر على الشخص الذي يمتلك ميلًا مستقبليًّا للقتل المتسلسل عند البشر، وهي: تعذيب الحيوانات، إشعال النيران، والتبول اللاإرادي أثناء النوم. 

كما يظهر «تعذيب الحيوانات» في «ثالوث نفسي» آخر، وهو  الثالوث المظلم للشخصية، والذي نصَّت عليه دراسة أجراها الطبيب فيليب كافانا عام 2013م، وأكد أن هناك علاقة وثيقة بين امتلاك الشخص الصفات المظلمة الثلاثة: الميكافيلية، النرجسية، والاعتلال النفسي، وبين لجوء هذا الشخص إلى تعذيب الحيوانات في مرحلة من حياته كإحدى سمات الاعتلال النفسي.

وهناك سبب رابع لم يذكره أغنيو في أطروحته، وهو أن البعض يُقدمون على تعذيب الحيوانات بديلًا عن البشر! فوفقًا للدراسات الفيدرالية الأمريكية، معظم الأشخاص الذين يؤذون الحيوانات ويتلذذون بتعذيبهم يودون لو يفعلون المثل بالبشر، لكن خوفهم من العقاب أو مقاومة الضحايا يردعهم. أما في حالة الحيوانات، فسيفلتون من العقاب في أغلب الأحوال، كما أن أي مقاومة ستُبديها الحيوانات قليلة الحيلة -إن قاومت بالأساس- لن تُمثِّل أي مشكلة بالنسبة لهم.

نحن نزرع الشوك

الطفولة هي نقطة الانطلاق لحلِّ هذه المُشكلة من جذورها، وبالرغم من أنه يصعب تخيل طفلٍ يقسو على حيوان ويتلذذ بتعذيبه، فإن هناك نماذج عديدة من حياتنا ومن التاريخ تؤكد ذلك. 

وهو ما دفعنا لطرْح أكثر الأسئلة أهمية ومنطقية؛ كيف تتحول نعومة أظافر الأطفال إلى سكاكين حادةً تتلذذ بأذية حيوانات قليلة الحيلة؟ 

لو سألت الطفل المؤذي عن تفسير لمتعته، فلن يستطيع الإجابة. إنه لا يفهم السبب ولكنه يستمتع فقط، وهو ما سيكون من الصعب فهمه، لأننا نفترض أن الجميع يحبُّون صغار الحيوانات لأنهم شديدي الصغر والبراءة واللطف، فلماذا لا يُشاركنا بعض الأطفال في هذه المشاعر النبيلة؟

وكيف يُمكن لشخصٍ ألا يتعاطف مع حيوان يتعذب، هل نشأوا كذلك أم تلاشى تعاطفهم مع الوقت؟

تُعرِّف تانيا سينغر، عالمة الأعصاب الاجتماعية (علم يهدف إلى دراسة العمليات الحيوية بشكل يُساعد على تنظيم السلوك الاجتماعي)، التعاطف بأنه القدرة على فهم مشاعر الغير والتواصل معها. وهو شعور يتطور من الطفولة حيث يبدأ بشكلٍ محاكٍ لتعاطف الآخرين من حولنا، لينمو ويتشكل بعد ذلك في صورة تفهُّم ومراعاة أكبر لمآسي الآخرين كما لو كانت مآسينا الخاصة. 

ويعتبر العالم النفسي التنموي فيليب روشات، أن أي جهود علمية لتأهيل الأطفال على التعاطف مع الحيوانات، لن تعني شيئًا لو لم ينشأ الطفل في أسرة يملؤها التعاطف. 

 وفقًا لدراسة بريطانية، نُشرت في 2013، فإن الأطفال الذين يعذبون الحيوانات قد أسيئت معاملتهم من قبل، وأنهم قد اختبروا أنواعًا من العنف المنزلي.

وهنا يجب التأكيد أنه إذا كانت تجارب الطفولة من أهم عوامل تحديد سبب الاستمتاع بتعذيب الحيوانات، فإن هذه إشارة جيدة. حيث توجد فرصة لمنع تطور هذا الأمر. 

ففي هذه الحالة لدينا أمل في التقليل من هذه الظاهرة بالاعتناء بالطفل جيدًا ورعايته وغمره بالحب، وكذلك الحديث معه عن الحيوانات وشعورها، وعن خطورة تعذيب المخلوقات الضعيفة، كل هذه الأمور تُزيد من احتماليات ألا يتحول الطفل إلى «سايكوباتيي» المستقبل، وتضمن لنا أنه إذا تعرَّض يومًا لمثل حلقة ريها سعيد فإنه سيُدير عنها وجهه فورًا، ولن يحوِّل نفسه إلى رقمٍ إضافي يزيد من نسب مشاهداتها ويدفعها لارتكاب المزيد من الجرائم سعيًا للمزيد من الجدل.