منذ اندلاع الموجة الحالية من انتفاضة القدس في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، لم تعرف هجماتها ضد الإسرائيليّين وتيرة واحدة، بل كانت ترتفع وتنخفض بين حين وآخر، وبلغ عددها حتى أوائل أواخر حزيران/ يونيو 620 هجمة في الضفّة الغربيّة وقطاع غزة والقدس، أسفرت عن مقتل 35 إسرائيليًّا مقابل 210 قتيل فلسطيني.


السلوك الإسرائيلي

بعد توقف الهجمات الفلسطينية ضد الإسرائيليين قرابة الشهرين، جاءت عمليّات تل أبيب والخليل الأخيرة، لتعيد من جديد دوامة الفعل ورد الفعل بين الفلسطينيين والإسرائيليّين؛ ممّا طرح أسئلة عديدة حول الجهات التي تقف خلف هذه العمليات، وكيف تؤثر العقوبات الإسرائيلية التي فرضتها على الفلسطينيين على الأوضاع الأمنيّة في الضفة الغربيّة، وإمكانية اندلاع عمليات جديدة.وجرت العادة أن تقرّر الحكومة الإسرائيلية عقب كل عملية فلسطينية سلسلة عقوبات جماعية ضد الفلسطينيّين، مسقط رأس المنفذين، أهمّها: فرض طوق كامل عليها، وسحب تصاريح العمل من أفراد عائلة منفذي العملية، وإلغاء عشرات الآلاف من تصاريح العمل التي أصدرتها إسرائيل لفلسطينيّي الضفة الغربية من مختلف المدن الفلسطينية.ويبدو واضحًا أن الإجراءات الإسرائيليّة ضدّ المدن الفلسطينية تمثلت بإغلاقات غير مسبوقة لجميع مداخلها عبر السواتر الترابية، وإقامة الحواجز العسكرية، وحصار لم تعشه حتى في ذروة أحداث انتفاضة الأقصى، وهذه المعاناة الكبيرة لسكّان المدن تعبير عن نهج إسرائيليّ انتقاميّ منهم لمعاقبة المناطق التي خرج منها منفذو العمليّات، وما زال الحصار متواصلاً حتى اللحظة منذ تنفيذ العملية، وترك الكثير من المعاناة والخسائر الفادحة في اقتصادها؛ لأنها تضم الكثير من المعامل والمصانع والمتاجر، ويعرقل الإغلاق دخول البضائع وخروجها، ناهيك عن عرقلة خروج الحالات الإنسانيّة منها ودخولها حتى كتابة هذه السطور.وخرجت ردود فعل إسرائيليّة تطالب بسن قوانين لتهجير ذوي منفذي العمليّات من مناطق سكناهم في الضفة الغربية إلى قطاع غزة، وقيام إسرائيل بعلاج جذري لا ينساه الفلسطينيون، وتطبيق إجراءات أمنية ترتكز على القصاص القاسي، يبقى محفورًا في أذهان الفلسطينيين، مع العلم أن إسرائيل لا تنتظر ذرائع لفرض عقوبات على الفلسطينيّين، كما حصل عقب العمليات الأخيرة، فالاحتلال هو السبب الرئيس في استمرار الانتهاكات ضد الفلسطينيين، قبل العملية وبعدها.وقد شهدت الأيّام الماضية نقاشات فلسطينيّة حول العمليات الفدائية الجارية، في ظل أنها قد تعمل على تحويل الموجة الانتفاضيّة الحاليّة إلى عمليات مسلحة تؤسس لمرحلة تالية، ولا بد من تطوير الإسناد الإعلامي واستعادة الدور المركزي للعمل المقاوم، علمًا بأن زيادة العمليات الفردية الفلسطينية تستدعي بحث أسبابها ودوافعها، وليس المسارعة إلى رفضها أو إدانتها أو تأييدها، كما يمكن الجمع بين أشكال النضال السلمية والمسلحة.


التنسيق الأمني

يمكن القول أخيرا إن تبعات العمليّات الفلسطينية الأخيرة ما زالت تتفاعل بين الفلسطينيين والإسرائيليين مع استمرار الحصار المفروض على المدن الفلسطينية مسقط رأس منفّذي العمليات، ومواصلة إسرائيل بالتعاون مع الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية، في اعتقالاتها بين صفوف الفلسطينيين بالضفة الغربية، الذين تدور حولهم شبهات التخطيط لتنفيذ هجمات مسلحة ضد إسرائيل.يتزامن ذلك مع صدور تقييمات إسرائيلية جديدة، صادرة عن جهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك)، تفيد بتراجع العمليّات الفلسطينيّة خلال نيسان/إبريل الماضي، مع أنه منذ تشرين الأوّل/أكتوبر من عام 2015 وقعت 282 عملية، من بينها 166 طعنًا، 82 إطلاق نار، و29 دهسًا، والباقي حوادث إلقاء حجارة، فيما شهد نيسان/إبريل الماضي تنفيذ 16 عمليّة فلسطينية ضد الإسرائيليين توزعت بين عملية طعن وعمليّتي إطلاق نار، و13 هجومًا بعبوات ناسفة.

باتت السلطة الفلسطينيّة مسئولة عن 40% من اعتقالات الناشطين المنخرطين بعمليّات ضد إسرائيليين في الضفّة الغربيّة.

هنا يمكن الحديث عن أهميّة التنسيق الأمني القائم بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل في تراجع الانتفاضة، في ظل ما ذكره رئيس جهاز الشاباك السابق يورام كوهين بأن الأمن الفلسطيني يحبط العمليات عقب تلقيه تعليمات استخبارية من إسرائيل، مثنيًا على دور التّنسيق الأمنيّ معها بإحباط الهجمات الفلسطينيّة، وفي بعض الأحيان لا تستطيع السلطة الفلسطينية تنفيذ عمليات معينة ضد المسلحين، وهنا تقوم إسرائيل بالعمل، فيما تعمل السلطة في الأماكن التي تجد إسرائيل صعوبة بالعمل فيها داخل المناطق الفلسطينية المكتظة.ومنذ اندلاع الانتفاضة، اشترك الجيش الإسرائيلي والأجهزة الأمنيّة الفلسطينية في اعتقال الفلسطينيين المشتبهين بالتخطيط أو المشاركة في عمليّات ضد أهداف إسرائيليّة، بحيث باتت السلطة الفلسطينية مسئولة عن 40% من اعتقالات الناشطين المنخرطين بعمليات ضد إسرائيليين في الضفة الغربية.يعتقد بعض الفلسطينيّين أن الانتفاضة لم تحدث تأثيرًا في الرأي العام الإسرائيلي باتجاه الاستجابة لمطالبه المشروعة بالاستقلال وإقامة الدولة، بل خرجت مواقف إسرائيلية تطالب الحكومة الإسرائيلية بمزيد من قمع الفلسطينيين، ولم تستطع إحداث ضجّة في المجتمع الدولي لصالحه، واتضح ذلك في تراجع حجم التحريض الإعلامي الفلسطيني على تنفيذ العمليات.وبعد تسعة أشهر من الانتفاضة، لا يبدو أنّ هناك توافقًا فلسطينيًّا داخليًّا حول طبيعتها وأهدافها النهائية ووسائلها المستخدمة، فجاءت العديد من المظاهرات متفرقة وغير منظمة، يشارك فيها العشرات أو المئات فقط، مقابل عشرات الآلاف ممن شاركوا في الانتفاضتين السابقتين؛ مما يشير إلى أن الجمهور الفلسطيني لا يبدو منخرطًا في موجة العمليات الحالية.


التقدم والتراجع

علمًا بأنّ تراجع فعاليّات الانتفاضة كان متوقّعًا منذ البداية، لكنّ هناك من تسرّع من الفلسطينيّين ووصفها بأنها انتفاضة ثالثة؛ لأنّ ما يحصل هو موجة انتفاضية من الفعل الشعبي الفلسطيني يمكن أن تتطور أو تتعثر في نهاية المطاف، وربما تشق مسارًا جديدًا، حتّى لو تراجعت فاعليتها في مرحلة ما؛ لأنّ هناك جيلاً فلسطينيًّا يريد استعادة الصراع ضد إسرائيل كمنظومة سيطرة استعمارية، والتعامل بمنطق الصراع مع إسرائيل، وليس التفاهم.لكن تراجع الانتفاضة السائد يتعلق بغياب القيادة والمؤسسة الرسمية وعدم وجود برامج للعمل السياسي وتراجع دور الفصائل الفلسطينية؛ ممّا أحدث فجوة بين الشارع الفلسطيني والفعاليات الميدانية، وبين الموقف الرسمي للفصائل.وفي ظل التراجع الذي يبدو على عمليّات الانتفاضة، فإنّ حماس تواصل كما يبدو بذل جهودها لإشعال الوضع في الضفّة الغربيّة ضدّ إسرائيل، وصولاً إلى تنفيذ عمليّات تفجيريّة واختطاف جنود إسرائيليّين؛ ممّا سيعني بالضرورة، ذهاب إسرائيل إلى تنفيذ عمليّة جديدة من السور الواقي، الّتي نفّذتها عام 2002 في ظروف مشابهة من الهجمات الفلسطينيّة في الضفّة الغربيّة.وهذا قد لا يصبّ بالضرورة في صالح السلطة الفلسطينيّة؛ ممّا يجعلها معنيّة بوضع حدّ لموجة العمليّات الفلسطينيّة ضدّ الإسرائيليّين؛ خشية أن تكون حماس هي المستفيدة الأساسيّة من هذه الانتفاضة، وهو خطّ أحمر، لا يبدو أنّ السلطة الفلسطينيّة تظهر تساهلاً في السماح بها، حتّى لو تسبّب ذلك بوقف نهائيّ للانتفاضة.ومنذ اندلاع الانتفاضة الحاليّة في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، جاءت السمة الأساسية لعملياتها ضدّ الإسرائيليّين، أنها كانت فرديّة ودوافع تنفيذها شخصية، والسلاح المستخدم فيها كان السكاكين، ولم يتم اللجوء إلى إطلاق النار إلا نادرًا؛ ممّا دفع إلى تسميتها بـ «الانتفاضة الفردية»؛ لعدم وجود جهات منظمة تقف خلفها.وشكلت بعض العمليّات الأخيرة تحولاً واضحًا في عمليات الانتفاضة التي اندلعت منذ أكثر من ثمانية أشهر، في ضوء ما كانت تستخدمه من أسلحة بيضاء كالسكاكين والسيارات وبعض عمليات إطلاق النار، فجاء تفجير الحافلة الإسرائيلية وإطلاق النار ووضع العبوات الناسفة ليطرح أسئلة تتعلق بإمكان دخول الانتفاضة مرحلة العمليات المنظمة والتفجيرية، ويفتح الباب واسعًا على فصل جديد من المواجهة الفلسطينية – الإسرائيلية، بين الفعل ورد الفعل.


دور حماس

هناك جيل فلسطيني يريد استعادة الصراع ضد إسرائيل كمنظومة سيطرة استعماريّة، والتعامل بمنطق الصراع، وليس التفاهم.

تبدو هذه العمليّات المسلحة تطوّرًا طبيعيًّا للردّ على جرائم الاحتلال الإسرائيليّ المتصاعدة. وعند تنفيذ هذه العمليات، يتمّ اتخاذ القرار فيها بصورة ميدانية، فيتحرك الفلسطينيون اعتمادًا على السياسة العامّة القائمة على مقاومة الاحتلال بكل السبل، وأي مجموعة تبادر لتنفيذ عمليات كهذه لا تأخذ إذنًا من أحد، وهي غير مطالبة بانتظار قرار من أي مستوى في الفصائل الفلسطينية.وقد تسبّبت العمليّات الأخيرة بذعر ساد الإسرائيليّين؛ لأنها وقعت في ذروة استنفار أمنيّ تزامن مع احتفالات اليهود بأعياد الفصح، وصدور تحذيرات أمنيّة إسرائيلية من تصعيد الفلسطينيين هجماتهم، وانتقالهم من عمليات الطعن والدهس الفرديّة لهجمات منظمة وأشد تأثيرًا، بل إن الآثار الاقتصادية السلبية للعمليات ظهرت بانخفاض حجوزات الفنادق في القدس، وتراجع عدد الركاب الإسرائيليين للحافلات خوفًا من تفجيرها.

تتعامل حماس بأسلوب جديد مع عمليات المقاومة الفردية، فلا تعلن التبني الكامل، ولا تتنصّل منها.

وقد بدأت أجهزة الأمن الإسرائيليّة بالبحث والتحرّي خلف منفّذي تلك العمليات؛ لأنّ التقدير الذي ساد فلسطينيًّا وإسرائيليًّا، صعوبة أن يتم التخطيط والتنفيذ والإعداد لهذه العمليات المسلحة بصورة فردية، كعمليات الطعن والدهس؛ ولذلك، أعلن جهاز الأمن الإسرائيلي العام «الشاباك» اعتقال عدد من الخلايا المسلحة في الضفة الغربية المسئولة عن تنفيذ بعض هذه العمليات.كان ملفتًا في العديد من العمليات الفلسطينية في الضفة الغربية أن أيًا من الفصائل المسلحة لم تعلن مسؤوليّتها عنها؛ ممّا جعل أجهزة الأمن الإسرائيليّة تقدّر أن السبب يعود إلى عدم رغبة هذه الحركات، لاسيما حماس، في الانجرار إلى حرب جديدة في غزة، كما حصل في يونيو/حزيران من عام 2014، حين خطفت الحركة ثلاثة مستوطنين في الخليل، فشنت إسرائيل حربًا عليها في غزة زادت عن خمسين يومًا، رغم أن حماس تدعو إلى تنفيذ عمليات ضد إسرائيل في كل مكان لإحياء الانتفاضة.ومع ذلك، يصعب تحديد أنّ العمليّات المسلحة الأخيرة هي فردية أو منظمة، في ظل الضغوط الأمنية بالضفة الغربية من السلطة الفلسطينية وإسرائيل، لكن من الواضح أن حماس تدفع بقوة لتنفيذ هذه العمليّات ضد إسرائيل لرغبتها في إشعال الانتفاضة، دون أن تعلن مسئوليتها عنها حتى لا تدفع ثمنًا سياسيًّا قد يتمثل بحرب قاسية تشنها إسرائيل ردًّا على تبني الحركة المحتمل لعمليّة القدس، مع وجود احتمال كبير بتكرار مثل هذه العملية في حال استمرت إسرائيل في تعنتها إزاء الفلسطينيين.ويبدو أنّ حماس تجري حسابات دقيقة في هذه المرحلة الأكثر دقّة وحرجًا مع إسرائيل، وربّما تعلم أنّ ميزان الربح والخسارة يجب أن يكون هو الأكثر وضوحًا في سلوكها السياسي وخطابها الإعلامي؛ ممّا جعلها، كما يبدو، تمسك العصا من الوسط، إذ أعلنت أن بعض منفذي العمليات الأخيرة هم من كوادرها، وفي الوقت ذاته، أبقت الباب مفتوحًا على طبيعة العمليّات بين كونها فردية أو منظمة.هذا السلوك الجديد من حماس شكل تطوّرًا جديدًا فيما تعتبره الحركة صراع الأدمغة مع إسرائيل، فلا أعلنت التبني الكامل مما قد يجر عليها رد فعل إسرائيليًّا قاسيًا لا تريده في هذه المرحلة، ولا تنصّلت منه؛ لأنّها كما يبدو تريد المحافظة على شعبيتها بين الفلسطينيّين، الذين يؤيّدون في غالبيّتهم في قطاع غزة والضفة الغربيّة انتقال الهجمات الفلسطينية الحالية إلى انتفاضة مسلحة.