هذه نصوص قصيرة، داومت على كتابتها على فترات متباعدة، وضمَّنت بعضها مجموعة قصاصات، إنها مجرد خاطرة مثل خواطر الشعراء، تعن لك فجأة ثم تترك وترحل. لا أستطيع تصنيفها، لا أعرف إن كانت قصصًا أم قصائد نثر. إنها حالات خاصة قد تقترب أحيانًا من شكل القصة القصيرة جدًّا، وأحيانًا لا تكون إلا مجرد فكرة، أو ما يشبه قصيدة النثر. أظن أنها تستجيب لميلي القديم لكتابة الشعر، فلها نفس وقع القصائد عندما تتراءى لي، ونفس سطوتها، فهي تستبد بي أحيانًا وأجد نفسي ألاحق تلك الخواطر الشاردة. الحقيقة أنني أُفرِّق بينها وبين القصص القصيرة بحدس داخلي، لا أتمكن من الإمساك به وصوغه في كلمات، لكنها في النهاية لحظة مُكثفة أو انطباع أو موقف أو حتى فكرة، تثير انتباهي ورغبتي في تشكيلها.

أمام القسم

يجلسون على الرصيف المقابل لقسم البوليس. كل يوم نفس المشهد، كل يوم أسرة جديدة. سيدات بملابس سوداء، وشباب ببنطلونات جينز مُغبَّرة، وصبية وفتيات. يأتون من الأحياء الشعبية. يجلسون صامتين يُحدِّقون في البوابات الداكنة السواداء. الجنود يخرجون ويدخلون. فجأة ينتفض الجميع. ترن الخبطات على خشب البنادق عندما تظهر سيارة المأمور. كائن سماوي ينزل من سيارته، يصطف العساكر في صفين. يمر بينهما بوقار وترفع، وفي لحظة يصمت الميدان. هذه الطقوس تترك رهبة في القلوب البسيطة المُنتظِرة أمام القسم. نوع من «التمثيل» يأخذ سمة الوقائع.

على الرصيف المقابل يشعرون بالخوف ويُفارِقهم الأمل، فلا يمكن أن ينظر إليهم هذا الكائن. يصعد السلم بخطوات بطيئة، يصعد عاليًا بعيدًا ويتوارى داخل المبنى الذي يبتعد عنهم بُعد السماء عن الأرض.

ساعات طويلة من الانتظار والتطلع إلى ما يحدث في الداخل، خلف السياج الحديدي.

أخيرًا تأتي سيارة الترحيلات، تقف النساء ويتبادل الجمع الهمس. تجري طفلة باتجاه رجل يلتف القيد حول معصمه ويمتد إلى معصم عسكري، ينخلع الشبشب في وسط الطريق، تجري فتاة خلفها، ترفع الشبشب من وسط الطريق، وتحمل الطفلة عائدةً تبكي. الشاب يركب السيارة الكبيرة الضخمة دون أن ينظر خلفه، تتزاحم السيارات في الميدان وتسمع الأبواق عالية، سيارة الترحيلات تسد الطريق، وسارينة سيارات الشرطة تُدوِّي في الشوارع.

رجاء

طلَبتْ منه –في المكالمة الدولية- أن يطمئن على «أيمن». حلَّفْته بالغالي قائلةً:

– الولد أصبح مذهولًا بعد موت أبيه. موت أب وأم وتركك في الثامنة عشرة أمر صعب.

– ماذا تقول؟ الخط بيقطع. علِّي صوتك.

هل كان من الضروري أن يرشح نفسه لعضوية مجلس الشعب؟

منْ أغراه بهذا؟

لا أعرف، لكنه فشل في الوصول إلى الكرسي، وأنفق الكثير من ماله. أصبح فقيرًا، وفيروس الكبد الذي كان كامنًا، هاج في تلك الفترة، وراح يبعث بصفرة في الوجه وبياض العين.

– ماذا تقول؟ علِّي صوتك.

لا لا، أمه ماتت بسرطان الرئة والأب بالكبد بعد انتخابات مجلس الشعب.

تريد أن تعرف منْ أغراه بدخول تلك الانتخابات؟

أنا لا أعرف مثلك، لكن بعدها لم تقم له قائمة. المصيبة ما حدث لأيمن. الولد مغبون، الغبن سيقتله، كان نفسه يسافر –مثلك- إلى بلاد بره. لكن كل محاولاته توقفت، ويجلس الآن في البلد أمام مزرعة الفراخ شاردًا عن الدنيا يرسم أشكالًا غريبة بعصا على التراب. كل شيء هنا ينهار والولد لا يتكلم كلمتين في اليوم، إنني لا أعرف كيف سيُكمِل عمره وهو يحمل كل تلك الأحزان؟ كيف سيحمل تلك الهموم وهو لا ذنب له؟

– أحلفك بالغالي أن تطمئن عليه وتكلمه ولو مرة واحدة، سوف يتشجع وربما يعود من أحزانه، أنت مثله الأعلى، كان يريد أن يسافر إلى بلاد الدنيا مثلك، لكن الظروف هزمته.

والله قلبي ينفطر عليه، ولا أعرف كيف سيتحمل الحياة وهو يرى أحلامه تتحطم.

مرح البنات

تمر عربات الحنطور في الشارع الواسع، بالقرب من منزل «شوبنهور» في ميونخ، ينتبه لصوتها تُجرِّش الحصى، ويواصل إنصاته حتى تمضي بعيدًا. يحدث هذا في الأوقات التي يخلد فيها إلى الراحة. يجلس في غرفة واسعة ذات أرضيات خشبية لامعة، يصله بالكاد صوت برَّاد كبير على موقد في المطبخ. فيلسوف متجهم، مغرور، فضَّل العيش وحده، ليتخلص من كراهيته لأمه التي كانت في نظره تجسيدًا للإرادة العمياء التي تسري في ثنايا الحياة.

الأفكار تنسج نفسها في ذهنه، تشبه عنكبوتًا يبني عشًّا، خيوط رقيقة تسير في اتجاه من الصعب استعادته، تتحرك … تتحرك، فجأة يفرقع صوت كرباج حوذي في الشارع، يتوقف النسيج، يتوقف كل شيء ويتوه الفيلسوف، لا يعرف في أي اتجاه كان خيط الفكرة يتجه. تتبدَّد فكرة، لن تعود أبدًا. بدَّدها صوت الكرباج، وأعادها إلى العدم الذي جاءت منه.

الأفكار مثل المخلوقات يمكن تكرار جنسها لكن تفردها لا يمكن استعادته أبدًا، منْ يموت لا يأتي آخر شبيه له، الفيلسوف يعرف ذلك ويرى أن عليه محاكمة الحوذية الذين -بأسنة سياطهم- يقتلون الأفكار البرية.

نزل من بيته في الصباح في ميعاد نزهته المعتادة، بصحبة كلبه الضخم الوفي الذي يُفضِّله على البشر، ظل يسير وحده متجهمًا في الغابات التي منحته ذات يوم فكرته عن العالم كإرادة عمياء تُسخِّر الكائنات لأمرها، وما الإنسان إلا أداة في يد هذه الإرادة، ثم عاد مستبشرًا وشرع في كتابة مقال يُحرِّض فيه السلطات أن تحاكم الحوذية وتُحرِّم عليهم استعمال الكرابيج في عملهم.

فتَّحت عيني على صوت صياح بنات المدرسة الثانوية في الشارع، نظرت حولي، تعرَّفت على غرفة مكتبي وأوراقي منثورة أمامي.

غفوة أخرى، حضرت فيها أماكن وأزمنة لا أعرف منْ خزَّنها في ذاكرتي. حاولت التشبث بمكاني وزمني، مُنصتًا إلى مرح بنات المدرسة الثانوية، يثير صخبًا في شارع تغمره شمس يوم من شهر مارس، لكن العجيب أنني لا زلت أسمع حفيف ريشة «شوبنهور» تحتك بالورق، يكتب مقالًا، يُحرِّض فيه السلطات على قتل الحوذية، رغم أننا اتفقنا في الحلم، على أن يكتب مقالة في مدح مرح البنات باعتباره الصورة المبهجة للإرادة العمياء.

الثورة

الخلود للشهداء.
المجد للثوار.
العار للصوص والبلطجية.

الجمل الثلاث أراها على حائط عمارة حديثة البناء، كل خميس أثناء زيارتي لأختي. كل مرة تبدو في عتمة المغرب كشعاع باهت في تلك المنطقة التي تغص بالورش. تبدو الكلمات منظمة كأنما كتبها راهب.

يوم الخميس الماضي لاحظت شرفة مُغبَّرة وفقيرة في الطابق الأول في شارع الفاتح، رسم عليها علم الوطن وكتب فوقها:

المجد للشهداء.

فكرت في المجد، وشعرت بأن تلك الأسرة لا بد أن تكون مسيحية والعبارة مأخوذة من:

المجد لله في الأعالي.

تذكرت اللافتة الصغيرة التي أقرؤها كل خميس. شعرت بشيء من الاختلاف بينهما. ما هو المجد؟ كيف يكون الشهيد مُمجَّدًا، ماذا يحدث له، هناك في الأعالي؟ عندما وصلت إلى تلك اللافتة انتبهت لأول مرة إلى الخط الرديء المكتوبة به. توقَّفت في الطريق أقرؤها. أعطت هذه اللافتة الخلود للشهداء والمجد للثوَّار.

شعرت بأن الكلام هنا منظم يزن كل كلمة بدقة، يُعيد ترتيب الأمور بإيحاء غامض. يأتي الشهداء في القمة ثم الثوار ثم اللصوص. تلك الألفاظ نابعة من حس فطري بالعدل، وخُيِّل إليَّ أن كاتب اليافطة صبي من صبية الورش المنتشرة هنا، لم يصل في تعليمه إلى ستة ابتدائي. تخيَّلت اليد الملوثة بزيت السيارات تمتد وتكتب بقطعة من الخشب كانت ملقاة –وقتها- على الأرض، وشعرت بهالة من نور خفي تحيط بتلك اللحظة التي انفجرت فجأة.

كيف انبثقت تلك اللحظة من المجهول، وخلقت نفسها. استعملت ما في يدها من أدوات: شحم السيارات قطعة من الخشب، وصبي لم يُكمِل تعلميه ولم يحسِّن خطه وتركت على الحائط تلك العبارات الدقيقة بذلك الترتيب الحزين؟

البيوت

«يحيى» لا يُصدِّق أنني لا أحب البيوت. يرى ذلك رفضًا لأن أزوره في بيته. حاولت أن أوضِّح له الأمر، لكن الفكرة تسيطر عليه، ويظن أنني أتعالى عليه، ولا أحب زيارته في منزله. إطلاقًا لم يكن هذا هو السبب، فمنذ زمن بعيد كففت عن زيارة أصدقائي في بيوتهم.

البيوت خانقة. إنها أماكن ضيقة تغص بقطع الأثاث، وبالأطفال، وبصوت التليفزيون العالي، ومكان للمجاملات وهموم الحياة العائلية التي أهرب منها.

البيوت التي تستحق العطف والسكن هي البيوت الخالية من الناس، أفكر على هذا النحو في بيتنا في البلد، وحيدًا مُظلمًا، مُخزنًا لحياة بادت.

طنين الثلاجة في الليل

كان شابًّا موهوبًا… موهوبًا جدًّا. أشاعت قصصه في بداية الثمانينيات حالة من الفرح؛ فمصر استطاعت أن تُنتج موهبة أدبية أخرى. كان حسَّاسًا ومُلتزمًا، اتخذ قرارًا أن يعيش في مدينته الإقليمية وقال رأيًا ثوريًّا:

على الأديب أن يعيش في مكانه.

بعد عدة سنوات لم يتحمل فقر المدن الإقليمية، وأيامها الرتيبة، فتخلَّى عن رأيه الثوري، وقرَّر أن يرحل إلى القاهرة.

في شقة صغيرة في الدقي عاش حياة بائسة، (محتوى البؤس لم يُوضِّحه منْ روى لي الحكاية) لكن يبدو أن البؤس تركز في طنين الثلاجة في صمت الليل. كان هذا دليلًا آخر على رهافة حس الشاب الموهوب، توتر حواسه غني، ويجب ألا يُترك هكذا في جحيم صوت الثلاجة.

على مقاهي المثقفين في وسط القاهرة تحدث عن لعنة الكهرباء:

انقطاع الكهرباء نعمة، ينتشر ضباب شفاف من الصمت، ويعود الناس إلى أنفسهم، الكهرباء تلاحقنا؛ تيار يجرفنا، يضع حاجزًا بيننا وبين حقيقة أنفسنا، يجبرنا على العيش في عالم مهووس بالأصوات العالية، حتى نصل إلى الانهيار العصبي.

وبتواضعه الجم وذهنه الإبداعي راح يشيع فكرة، انتظر أن تكون لامعة، تقول إن علينا تكوين جمعيات لتعلم الصمت، شعارها:

الصمت نصف الحكمة.

المهم أن هذا الأديب الموهوب اشتكى لكاتب مشهور له علاقات واسعة بالعالم الثقافي في الأقطار العربية، عن أنه على وشك الانهيار العصبي بسبب صوت الثلاجة، عندها توسَّط له الأديب المشهور ليعمل في أحد المجلات الثقافية المشهورة في الخليج.

تخلَّى عن فكرة العيش في العاصمة لكي يكون قريبًا من منابع الإبداع ومثيراته، ورحل إلى بلاد الخليج. عُيِّن مراسلًا خارجيًّا وسافر إلى كل البلاد. سافر إلى البرازيل وكولومبيا وتايلاند وروسيا، ورأى الصمت حيًّا في التماثيل البوذية، ولم يعد هناك، بعد ذلك، متسع لسماع صوت الثلاجة التي كانت من الطراز الحديث؛ صوتها خافت كأنه تجسيد لصمت بوذا.

صفق الأبواب

عندما تدخل البيت، وتكون وحدك، تُغلِّق الباب برفق، كأنك تخاف أن تُبدِّد الصمت الذي ينتظرك. وعندما تخرج غاضبًا، فإنك تصفق الباب بعنف، كأنك تريد أن تكسره، مع أنك في الحقيقة تريد أن تُغلِقه، لكنها رسالة لنفسك، أو لمنْ يعيشون معك بأنك ترفض شيئًا.

تصفق الريح الشبابيك فيرتعش المرء في مكمنه، ويشعر بأن كائنًا خرافيًّا يملأ العالم غاضبًا من أمر ما. يتردد صوت النوافذ والأبواب حيًّا؛ رسائل يترجمها المرء إلى معاني.

إنها لغة. صوت الأبواب يتردد في البيوت الخالية، له نغمة ثقيلة وحس قوي بأنه يشبه الكلام، له معنى وإيقاع. منْ يعيش وحده يألف صوت الأبواب والنوافذ، كأنها رسائل، ويبقى فترة طويلة يراقب الصوت الخشن لمفصلات نافذة هزَّها الهواء. يتبدَّد الصوت بسرعة، لكنه يحتفظ به في ذهنه، كما يحتفظ بالروائح بعد أن يذهب مصدرها.