الحكيم.. ولكنه ليس بحكيم

كان رجلاً مندفعًا سريع الرد، فعندما كان يعمل مفتشًا للتحقيقات في وزارة المعارف هاجم الوزارة في صفحات مجلة الثقافة، فشُن هجوم عليه داخل الوزارة حتى حُوِل الموضوع بأكمله للبرلمان ليبت فيه، ولكن تدخل العميد والدكتور محمد حسين هيكل، مما أسكن الأمور بعض الشيء، فوصلت فقط إلى خصم من الراتب قدره نصف شهر كأقصى عقوبة خصم.

والقضية الثانية حين اصطدم مع الأزهر وتدخل وزير المعارف آنذاك ليعتذر توفيق عن تصريحاته للأزهر، فرفض وتحوّل الموضوع لرئيس مجلس الشيوخ، ولكن سُويت الأمور بعد تدخل من العميد وفداه من بطش كاد يهيم به.

وبلغت الصداقة أشدها بين الأديبين على قمة جبال الألب بفرنسا حيث اجتمعا سويًا للاصطياف عام 1936 في القرية الصغيرة «سالانش». وصل الحكيم وقت الغداء وبدء يحكي لصاحبه عن أحوال الصحف والكتب والفن والسياسة في مصر، وبعدها صرّح له أنه يُعد كتاب عن شهرزاد، فكتبوا بعض الرسائل التي تحمل نقد لأدباء الجيل ولبعضهم البعض شخصيًا وانتهت المداعبات والمشاكسات بكتاب «القصر المسحور».

أردنا اللهو بها، ولكن من خلال تبادلنا الرسائل، اكتشفنا أن «شهرزاد» هي التي سخرت مني ومن طه حسين.

وسافر توفيق الحكيم، وهجر طه حسين في جبال الألب ليكمل كتاب «القصر المسحور» وكتابه «مع المتنبي»، حيث شُغِلا بأن يُراسلا بعضهم الآخر حتى أرسل العميد رسالة إليه يعتذر عن صمته بسبب شغله في إنهاء «القصر المسحور»، وعبّر عن تردده من نشر الكتاب، ولكن بالاتفاق مع توفيق الحكيم قد قرر طبعه ونشره على الناس، حيث صدرت طبعته الأولى في العام التالي 1937.

وحين صار طه حسين وزيرًا في حكومة الوفد عام 1950 لم ينس صديقه توفيق الحكيم في أول فرصة أتيحت له ليضعه في منصب كبير يليق به. وحين صارت وظيفة مدير دار الكتب شاغرة اقترح الدكتور طه أن يشغلها توفيق الحكيم، ووجم الوزراء لظنهم أن النحاس باشا سيرفض، متوقعين ثورته لطلب كهذا، لأن الحكيم هاجمهه وهاجم الحزب –فيُرقَّى من درجة ثالثة إلى مدير عام بدرجة وكيل وزارة- ولكن النحاس فاجئهم حين وافق بكل سرور وهو يقول:

إن هذا تشريف للجامعة (إشارة إلى ممثلها الدكتور طه) وليس تشريفًا لـ توفيق الحكيم.

وباتت علاقتهم طيبة وصارت عادة أن يلتقيا في المصيف في فرنسا، فأرسل الدكتور طه رسالة إلى صديقه من فرنسا بتاريخ 28 يوليو/تموز 1951 يقول فيها:

فقد مضت أيام كثيرة طويلة منذ افترقنا ولكنا نذكرك فنطيل ذكرك، واذكرك حين أخلو إلى نفسي فأطيل ذكرك أيضًا، فأنت بعيد قريب.

فرد عليه الحكيم برسالة مطولة من 6 صفحات يشكو له فيها من حاله في دار الكتب واصفًا حاله فيها:

لست اليوم بمؤلف ولكني مخرج!

وتمضي الأيام وتقوم ثورة يوليو والدكتور طه في مصيفه في إيطاليا، فيرسل الحكيم يحكي له عن أوضاع مصر بعد قيام الثورة، فيرد الدكتور طه برسالة لصديقه يعبر فيها عن اشتياقه لمصر ولمشاركة تلك الأيام السعيدة من تاريخ الوطن، واختتم رسالته قائلاً:

نفسي ليست مستقرة، جثماني في إيطاليا ونفسي في مصر. [1]

طه حسين: «رجل صداقته متعبة وعداوته متعبة»

روي «إبراهيم عبد العزيز» في كتابه «أيام العمر: رسائل خاصة بين طه حسين وتوفيق الحكيم» قصة دخول الحكيم مجمع اللغة العربية، حيث أوضح أنه حسب قواعد المجمع يقوم اثنان من الأعضاء بترشيح اسم ثالث لينضم للمجمع، وقد رشّح أحمد أمين ومنصور فهمي اسم توفيق الحكيم، وبعد عامين فُتح الباب له وأصر طه حسين علي استقباله رغم أن المعروف أن يستقبله من رشّحه، وقال العميد عنه في استقباله:

أمّا أنت فلا شك شرفت بدخولك المجمع، فلا أقل من أن تعترف لنا بأننا نُشرِّف من ينضم إلينا، فلم نأذن لك إلا بعد أن أطلت الانتظار، ذلك بأن الوصول إلينا ليس يسيرًا ولا سهلًا. أمّا نحن فقد شرفنا بانضمامك إلينا. ليس في هذا شك بحال من الأحوال.

ولكن لم ينسي توفيق الحكيم تلك الكلمات، فبعد وفاة العميد أوضح الموقف من زاويته في كتابه «كواليس من حياة الأدباء»، فقد رفض الحكيم بالفعل ترشيح أحمد أمين عندما أخبره بذلك، مما أغضب أحمد لطفي السيد رئيس المجمع حينئذ، ولكنه فوجئ بانتخابه عضوًا فيه بعد عامين فلم يرفض هذه المرة، ولكنه لم يحضر الجلسات واستقال منه في أخريات سنوات حياته. [2]

وبدأت علاقة الحكيم والعميد في فتور وانشغال كلا منهما بعمله وكتبه، حتى دعا الحكيم الكاتب الفرنسي سارتر عام 1967 لزيارة مصر، فكتب آنذاك الأستاذ كمال الملاخ في الصفحة الأخيرة في جريدة الأهرام أن العميد طه حسين لم يعرف بزيارة سارتر إلا من الجرائد، وروت الصحافية عايدة الشريف في كتابها «شاهدة ربع قرن» بأكثر تفصيلًا، حيث تقول إنها عندما ذهبت لـجريدة الأهرام للحصول على صور الزيارة وجدت الحكيم وسألته عن ذلك فانفجر كالبركان قائلًا:

وهل يقلب خبر كهذا الحياة رأسًا على عقب… من هو طه حسين هذا؟ من أين تنظرون له أيها الشبان؟ ما هو فكره في نظركم؟ لقد آن الأوان أن تنزلونه من فوق قممكم السامقة… ولو كان طه حسين وزوجته الفرنسية يعرفون الواجب حقًا بالنسبة لهذا المفكر، لأرسلت زوجته الفرنسية باقة من الزهور تحية لابنة بلدها سيمون.

 وأضافت الكاتبة أنها ضاقت بكلماته ولكنها لم تستطع الرد عليه حتى تدخل الدكتور حسين فوزي قائلًا:

على رسلك يا توفيق علي البنت التي تخجل من الرد عليك لصغر سنها… وإذا كانت هي تخجل لأصارحك أنا بالحقيقة… أليس طه حسين هذا منْ قلت أنت عنه يوم قدّم مسرحية «أهل الكهف» أنه وفر عليك عشرات السنين من الدعاية والإعلان عن أدبك، وأنه سبب شهرتك. ألم تكن أنت نفسك تذهب إليه بميناء الإسكندرية تستقبله بعد عودته من كل مصيف لتحمل له الحقائب وتسنده من الباخرة إلى رصيف الميناء.

أخمدت هذه الكلمات فورة الحكيم، فأشاح بيده إلى الدكتور فوزي وهو يقول:

والله أنت كده يا حسين… تقلب واطيها عاليها. [3]

وفي كتاب الدكتور محمد الدسوقي «طه حسين يتحدث عن أعلام عصره»،  يعتب طه حسين علي توفيق الحكيم عدم حضوره لجلسات المجمع وأنه يحصل علي المكافئات كاملة دون الحضور، علي الرغم أن طه حسين يحضر الجلسات بأكملها وحين أشتد به المرض في أيامه الأخيرة قال يجب أن استقيل من رئاسة المجمع ما دمت لا أقدر علي  حضور جلساته، ولم يكن هذا العتاب الوحيد علي صديقه، فقد تعداه إلى تقصيره في حقه لأنه ما كان يزوره أو يجامله، وبخاصةً حين اقعد المرض العميد عن الحركة، وكان يري في تصرف الحكيم نكرانًا للجميل وهو شيء فظيع علي حد قول العميد.

ويكمل الدكتور محمد الدسوقي أنه في مساء الجمعة 2 أكتوبر/تشرين الأول 1970 زار الشيخ محمود أبورية العميد في منزله، ودار بينهم الحوار حول القضايا الأدبية المعاصرة، وكان من رأي الشيخ أبورية أن الأدب العربي الآن يفقد ديباجته المشرقة وصياغته القوية، وأن مثل الأستاذ الحكيم ونجيب محفوظ لا يعدان من الأدباء في نظره، وقد قال الدكتور:

أوافقك يا سي الشيخ بالنسبة لتوفيق الحكيم، أما نجيب محفوظ فلا. [4]

وسُئل العميد عن مسرح الجيب فقال: «إنه كلام فارغ وإن ما يكتبه الأستاذ الحكيم لا يعجبني لأنه يقدم فرضًا فلسفيًا كما يفعل بيكت أو يونسكو».

وتمر السنون بينهم «لحظات صفاء… لحظات غيوم» كوصف الحكيم لها حتى نصل لعام 1973، وفي نشوة النصر بالحرب وانشغال الصحف بكل ما يخص الحرب ورجالها، ينهي العميد مسيرته العامرة ويرقد تاركًا قلمه وحيدًا دون خليل، ولكن الحكيم لم ينسى صديقه فكتب له رثاء في الأهرام. [5]

تشفّي بعد فوات الأوان

في حوار أجراه «يوسف القعيد» مع توفيق الحكيم في مجلة المستقبل عدد يونيو/حزيران 1985، ينفي الحكيم عن العميد معركته لمجانية التعليم وينسبها لنفسه قائلًا بنص الحوار:

خضت بنفسي سنة 1934 معركة مجانية التعليم. إن كنت لا أذكر الآن تفاصيل القضية التي خضتها، ولكني أذكر بالتحديد أنه كان هناك نوع من المجانية في ذلك الوقت (أي عام 1934). كان هناك نوعان: الأول مجانية التفوق، والثاني مجانية الفقر، وكانت هناك درجات من المجانية: نصف مجانية وربع مجانية ومجانية كاملة، ولكن كل ذلك نُسي تمامًا ولا نذكر سوي مجانية يوليو، والبعض يتحدث عن مجانية طه حسين.

ويشير الكاتب إبراهيم عبد العزيز في كتابه «أيام العمر: رسائل خاصة بين طه حسين وتوفيق الحكيم» أن الحكيم يدّعي ما لم يملك دليل مثبت عليه، وأن التاريخ سجل تلك المعركة باسم طه حسين، وأنه لم يجرؤ على ذكر تلك الأحاديث داخل مصر وإنما في مجلة تصدر في الخارج لا يدري بها إلا القليل في أضيق نطاق.

وكذلك انتقد الحكيم شعار طه حسين «التعليم كالماء والهواء» والذي ذكره في كتابه «مصر بين عهدين»، حيث قال الحكيم:

شعار ذلك الصديق عن التعليم الذي كالماء والهواء… لم أتحمس له، إذ وجدته مُفتقرًا للدقة والعمق. فالماء والهواء يشترك فيهما الحيوان مع الإنسان، ولذلك فضلت عليه شعارًا آخر، هو الطعام لكل فم وعقل لأنه يميز الإنسان عن الحيوان، فالطعام للإنسان مختلف عن الطعام للحيوان، ونوع الطعام يميز الشخصية عن الإنسان. وإذا كان المقصود بالتعليم الذي كالماء والهواء هو محو الأمية عند الجميع، فما قيمة محو الأمية الأبجدية مع بقاء الأمية العقلية؟ لقد انتشر التعليم كالماء والهواء بالمجانية ولم يتغير شيء كثير في عقلية الأمة.

وهنا ربما نجد منْ يُجيب على الحكيم ويقول: إذا كانت الفكرة نبيلة فما ذنب طه حسين في تطبيقها؟

انتهت العلاقة التي بدأت بوكيل نيابة في أقاليم مصر يسمع بشجاعة شاب أزهري ينتقد الأزهر في أوْجِ عصره ويعجب به وبمواقفه، وبين ناقد وكاتب يُهدى بمسرحية لشاب جديد يقرأها ويُفتن بها وبكاتبها وقلمه ويكتب عنه ويشيد به ويفتح له أبواب ما كان يحلم بها آنذاك. فكما وصف علاقتهما الحكيم فهي «لحظات صفاء… لحظات غيوم». [6]

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. إبراهيم عبد العزيز، “أيام العمر: رسائل خاصة بين طه حسين وتوفيق الحكيم: مكتبة الأسرة، 2003. ص 100، 65، 71، 119، 121، 123، 124 ،131.
  2. إبراهيم عبد العزيز، “أيام العمر: رسائل خاصة بين طه حسين وتوفيق الحكيم: مكتبة الأسرة، 2003. ص 143، 144، 145، 146، 147.
  3. عايدة الشريف، “شاهدة ربع قرن”، مكتبة الأسرة، 2013. ص 37، 38.
  4. محمد الدسوقي، “طه حسين يتحدث عن أعلام عصره”، مؤسسة المعارف، 1991. ص 34، 35، 36.
  5. إبراهيم عبد العزيز، “أيام العمر: رسائل خاصة بين طه حسين وتوفيق الحكيم: مكتبة الأسرة، 2003. ص 154، 155.
  6. إبراهيم عبد العزيز، “أيام العمر: رسائل خاصة بين طه حسين وتوفيق الحكيم: مكتبة الأسرة، 2003. ص 151، 152، 153.