في 2017م، اكتشفت باحثة سويدية ملابس قديمة مدفونة في بعض قبور الفايكينج تعود إلى القرنين التاسع والعاشر الميلاديين نُقِش عليها كلمتي «الله» و«علي» باللغة العربية وبخطٍّ كوفي قديم، وهو ما أعاد إلى الأذهان خاتمًا فضيًّا عُثر عليه ضمن متعلقات امرأة من الفايكينج عاشت خلال القرن التاسع الميلادي نُقش عليه بالكوفية العربية «في سبيل الله».

ووفقًا لأنيكا لارسون، الباحثة في علم آثار النسيج، والتي قدَّمت تلك الأطروحة، فإن وجود ملابس حريرية في المقابر المكتشفة ينسجم مع معتقدات المسلمين بأن الحرير هو ثياب أهل الجنة.

وفي ختام بحثها لم تستبعد لارسون أن يكون «سكان تلك المقابر مسلمين».

هذه الآثار فتحت الباب واسعًا للتساؤل حول وجود علاقة ما جمعت بين قبائل الفايكينج الشهيرة والدول الإسلامية القائمة في ذلك الزمن، وتحديدًا الدولة الأموية في الأندلس والخلافة العباسية في المشرق العربي.

سكان الخلجان

خلال الفترة الممتدة من القرن الـ 8 وحتى القرن الـ 11 الميلاديين، اعتاد الفايكينج (وهو مصطلح مشتق من كلمة Vik النرويجية، التي تعني ساكن الخلجان، ولهذا أُطلقت لاحقًا على سكان البلاد الإسكندنافية بسبب كثرة خلجانها فكانوا Viking) التجوُّل في النواحي المحيطة بهم عبر حملات عسكرية استكشافية للتعرُّف على الجيران والاستحواذ على المزيد من الأراضي. ولم تكن الأراضي الإسلامية بمعزلٍ عن تلك الغزوات، وتحديدًا الدولة الأموية الأندلسية التي تماست حدودها مع خطوط غزوات القبائل الإسكندنافية.

في الأدبيات العربية أُشير للفايكينج بألقابٍ كثيرة، مثل: المجوس (ظنًّا بأنهم يعبدون النار التي كانوا يشعلونها على السواحل، واعتيادهم حرق جثث زعمائهم الموتى في سفنهم)، الأردمانيين، والنورمانيين، والأخيرة تحريف للكلمة الإسبانية Normandes، والتي كانت تُطلق على أهل الشمال من الدول الإسكندنافية، ولا تزال تُوجد في فرنسا اليوم مدينة تُدعى «نورماندي» (نورمانديا) تيمنًا بجحافل الفايكينج (النورمانديين) الذين استقرُّوا فيها في أوائل القرن العاشر الميلادي بموجب معاهدة مع ملك فرنسا شارل الثالث، على أن يكفُّوا عن غزو السواحل الفرنسية.

مع الأمويين

لم تسلم دولة إسلامية – أموية الأصل هذه المرة – من حملات الفايكينج العسكرية بعدما شنَّ أسطولهم (قرابة 80 مركبًا) هجمات دموية على إشبيلية عام 844م/230هـ، وهو ما دفع الأمير عبد الرحمن الثاني للرد بعملية عسكرية قوية دمَّرت 30 سفينة، وقتلت ألف محارب تابعين للفايكينج، كما أسر المسلمون عددًا ممن أسمتهم المصادر العربية «الرجال الزُّرق» وباعوهم في أسواق العبيد.

ويوضِّح محمد حسن العيدروس في كتابه «العصر الأندلسي: تاريخ العرب في بلاد الأندلس»، أن الفايكينج انقسموا إلى ثلاث مجموعات، هم: السويديون والنرويجيون والدنماركيون، والأخيرون تميَّزوا بقدرتهم على تنفيذ غزوات بحرية سريعة، واشتهروا بوضع أشرعة سوداء فوق سفنهم.

وفي كتابه «صور من حياة الحرب والجهاد بالأندلس» كشف أحمد مختار العبادي أن الأندلسيين اعتمدوا على سلاحين مهمين في التغلُّب على الفايكينج؛ الأول هو «الوضف»، وهو آلة تشبه المقلاع وتستخدم في قذف الحجارة. أما السلاح الثاني فهو قوارير النفط، وهي زجاجات تحوي مادة حارة ما إن تُلقَى على الهدف حتى تشعل النار فيه، وهو السلاح الذي اخترعه البيزنطيون قديمًا وأسموه «النار الإغريقة».

لم يغفل صنَّاع مسلسل «فايكينج» عن تلك الغزوة خلال استعراضهم لتاريخ تلك القبائل الإسكندنافية، وشملت إحدى حلقات المسلسل بعض تفاصيل تلك الغزوة، وأهمها اقتحام جامع إشبيلية الكبير.

وحفظت لنا كتب التاريخ الإسلامي بعض أسماء القادة العسكريين البحريين الذين اعتمد عليهم الأمير عبد الرحمن الأوسط في تطهير بلاده من الفايكينج، ومنهم سعيد بن أسود وغالب بن عبد الرحمن وخشخاش بن سعيد بن الأسود، حسبما ذكر سعد عبد الفتاح عاشور وسعد زغلول عبد الحميد في كتابهما «دراسات في تاريخ الحضارة الإسلامية العربية».

لتنجح القوة الإسلامية في تجنيب الأندلس مصير باقي دول أوروبا التي غزاها الفايكينج واستعمروها مثل إنجلترا وفرنسا وإيطاليا.

وبعد هذه الغارة اهتمت الدولة الأموية الأندلسية بتأمين ثغورها وتقوية أسطولها العسكري، ما ضمن ألا يتكرر هذا الاختراق مُجددًا.

وبحسب العيدروس، فإن عبد الرحمن الثاني حصَّن إشبيلية بأسوار عالية بعد هذه الغزوة، كما أنشأ نقاطًا للحراسة على طول الساحل الغربي للأندلس عُرفت بِاسم «الرباطات»، كما اهتمَّ بإنشاء دور لصناعة السفن. وفي عهد الخليفة المستنصر أمر بتصنيع سفن حربية على نمط الفايكينج استعدادًا لقتالهم بنفس الطريقة التي كانوا يتبعونها.

هذه الإجراءات المتتالية كانت الميلاد الحقيقي لبحرية إسبانيا الإسلامية التي فرضت سيطرتها على غرب البحر المتوسط، وهو ما تجلَّت أماراته في استيلاء الأندلسيين على بعض الجزر المتوسطية مثل جزيرتي ميورقة ومنورقة عام 234هـ/848م، وصد هجمة الفايكينج الثانية التي جرت عام 245ه/859م وفشلت في تحقيق أي نجاحٍ يُذكر كالهجمة الأولى، وحسبما حكى المؤرخ الأندلسي ابن حيان القرطبي: «لم يجدوا في السواحل مطمعًا لشدة ضبطها».

ووفقًا لكتاب «تاريخ العرب في بلاد الأندلس» لمحمود السيد، فإن عهد الخليفة الأندلسي المستنصر شهد تحولاً خارقًا في التوازن العسكري بين القوتين بعدما شنَّ الأسطول الأندلسي غارات على سواحل نورمانديا (تقع في فرنسا)، وهي قاعدتهم الرئيسية للهجوم على السواحل الإسلامية.

ما بعد الغزوة الكبرى

تسرَّبت عن هذه الغزوة بعض الآثار التي نمَّت عن علاقةٍ ما بين القوتين الكبيرتين في أوروبا، بعدما تبادل القادة السفراء لعقد بعض مباحثات السلام وتنمية العلاقات الدبلوماسية والتجارية بين الطرفين. كان سفير الأمير الأندلسي عبد الرحمن هو الشاعر الشهير يحيى بن الحكم المعروف بلقب «الغزال».

المصدر الأساسي لمعلوماتنا عما جرى في سفارة ما أورده عالم النحو واللغة الأندلسي عمر بن حسن بن دحية الكلبي في كتابه «المطرب في أشعار أهل المغرب»، والذي قال فيه: إن «رُسل المجوس (الفايكينج) وفدوا على السلطان عبد الرحمن الثاني وطلبوا منه الصلح بعد خروجهم من إشبيلية وقتل قائد أسطولهم، فأمر الغزال بأن يمشي في رسالته مع رسل ملكهم لما كان للغزال من حدة الخاطر وبديهة الرأي وحُسن الجواب».

ثم بعدها يستفيض الكلبي في ذِكر تفاصيل أسطورية – عسيرة التصديق – عن النجاح الهائل لزيارة الغزال لبلاد الفايكينج، وكيف أنه – بوسامته وعلمه – إثارة إعجاب مَلِكتهم، حتى إنها كانت لا تصبر عن رؤيته والاستزادة من أخبار المسلمين منه، وكيف أن الغزال أُغرم بها، فوضع فيها شِعرًا يقول في بعض أبياته:

كلفت يا قلبي هوى متعبًا***غاليت منه الضيغم الأغلبا
إني تعلقت مجوسية***تأبى لشمس الحُسم أن تغربا
أقصى بلاد الله في حيث لا***يلقى إليها ذاهب مذهبا

وبعيدًا عن تلك الزيارة، فإن بعض المصادر التاريخية الإسلامية تحدَّثت عن بعض جنود الفايكينج الذين بقوا في الأندلس بعد الغارة وتخلَّفوا عن اللحاق برفاقهم، حيث اعتنقوا الإسلام ومارسوا أعمال التجارة في معية الدولة الأموية.

أيضًا مع العباسيين

في هذه الحملات احتكَّ الفايكينج ببعض الأراضي التابعة الدولة الإسلامية – العباسية في ذلك الوقت – حيث دخلوا مُدنًا تحوي أسواقًا «تتفوَّق روعتها على أحلامهم». وبفضل هذا الاحتكاك التجاري عرف الفايكينج الدرهم العربي الفضي الذي كان «عُملة العالم» حينها، وكان شائع الاستخدام في الكثير من المناطق غير الخاضعة للحُكم العباسي.

أيضًا، في هذا الوقت مثَّلت الفضَّة عنصرًا مهمًّا في التجارة الأوروبية التي قام جزء كبير منها على المقايضة، وهو ما لم يكن تجار الفايكينج بعيدين كثيرًا عنه. لذا كان منطقيًّا العثور على 10 آلاف قطعة نقدية عربية في مقابر إسكندنافية تعود إلى عصر الفايكينج.

وفي القرن العاشر الميلادي اعتنق ملك البلغار (شرق موسكو) الإسلام، فطلب من الخليفة العباسي إرسال بعثة إليه لتفقهه في الدين.

قبل الخليفة العباسي طلب ملك البلغار، وأرسل بعثة كان على رأسها أحمد بن فضلان، الذي غادر بغداد في يونيو 921م، ووصل إلى وِجهته بعد عامٍ، وخلال تلك الرحلة أُتيحت له فرصة لقاء تجار الفايكينج (سمَّاهم الروس)، وقدَّم لنا ابن فضلان وصفًا تفصيليًّا لتلك المشاهدات، منها «لم أرَ أتم أبدانًا منهم كأنهم النخل، شقر حمر لا يلبسون القراطق»، ثم يضيف في موضعٍ آخر: «هُم أقذر خلق الله، لا يستنجون من غائط ولا بول، ولا يغتسلون من جنابة، ولا يغسلون أيديهم من الطعام».