على الرغم من اشتراك الأديان الإبراهيمية الثلاثة الكبرى – اليهودية والمسيحية والإسلام – في الاعتقاد بأهمية ومكانة منصب النبوة باعتباره حلقة الوصل بين السماء والأرض، إلا أن كل دين من الأديان الثلاثة قد قدَّم تصورًا ذهنيًّا مختلفًا لذلك المنصب، الأمر الذي اتسق بشكل كبير مع الخلفية التاريخية التي واكبت ظهور وتطور كل دين.

واحدة من بين النقاط المهمة التي ارتبطت باختلاف مفهوم النبوة في كل حالة من الحالات الثلاث، كانت تلك التي تبحث في مسألة نبوة المرأة، ودورها في صياغة المعتقدات وتبليغ أوامر الوحي الإلهي إلى البشر.

مريم أخت موسى، ودبورة، وخلدة: النبيَّات في اليهودية

في كتابه «النبوة والأنبياء في اليهودية والمسيحية والإسلام» يوضح الباحث المصري أحمد عبد الوهاب مفهوم النبوة في العهد القديم فيقول: «إن الظاهرة المشتركة لكل الأنبياء في العالم القديم هي دعواهم أنهم كانوا يتكلمون بسلطان من إلههم …».

لفظ النبي في الثقافة الإسرائيلية القديمة كان يشمل أنواعًا مختلفة من الوظائف؛ إذ كان يطلق على النبي الحقيقي الذي يتكلم بما أوحاه الله إليه، كما كان يطلق على النبي المحترف الذي كان يُعيَّن في البلاط الملكي، ويخبر على الملك بما سيحدث مستقبلًا، كما أن مصطلح النبوة كان يطلق أيضًا على الأنبياء الكذبة، أولئك الذين كانوا يدَّعون الاتصال بالله زورًا وبهتانًا.

من هنا سنجد أن أسفار العهد القديم قد حدَّثتنا عن بعض النساء اللاتي وصلن لمرتبة النبوة، ومن أهمهن مريم أخت موسى، والتي كانت أول امرأة تذكر العهد القديم نبوتها، وكانت تتمتع بمكانة عالية في قيادة الشعب الإسرائيلي إبان رحلة الخروج من مصر؛ إذ ورد في سفر ميخا على لسان يهوه «فأنا أخرَجْتُكُم مِن أرضِ مِصْر،‏ أخلصتكم  مِن أرضِ العُبودِيَّة،‏ وأرسَلْتُ لكُم مُوسَى وهَارُون ومَرْيَم»، ومما يُذكر لها، أنها كانت صاحبة الترنيمة الشهيرة التي تغنَّت بها بنات العبرانيين بعد أن أنقذهن الله من يد فرعون وجيشه، وفي ذلك يقول سفر الخروج: «فَأَخَذَتْ مَرْيَمُ النَّبِيَّةُ أُخْتُ هَارُونَ الدُّفَّ بِيَدِهَا، وَخَرَجَتْ جَمِيعُ النِّسَاءِ وَرَاءَهَا بِدُفُوفٍ وَرَقْصٍ، وَأَجَابَتْهُمْ مَرْيَمُ: رَنِّمُوا لِلرَّبِّ فَإِنَّهُ قَدْ تَعَظَّمَ. الْفَرَسَ وَرَاكِبَهُ طَرَحَهُمَا فِي الْبَحْرِ».

من تلك النبيَّات أيضًا دبورة، والتي ورد في سفر القضاة وصفها بالنبيَّة، وكانت إحدى قضاة بني إسرائيل فيما قبل مرحلة الملكية، وممَّا يُذكر لها أنها قد لعبت دورًا مهمًّا في حشد الجيش الإسرائيلي لهزيمة الكنعانيين في بعض المعارك الحاسمة.

في السياق نفسه تحدث العهد القديم عن أبيجايل، والتي جاء في سفر صموئيل الأول الخبر عن حكمتها، وكيف أنها قد أنقذت زوجها وأسرتها من القتل بعدما طلب داود الطعام من زوجها فرفض وامتنع عن مساعدته، وكادت الحرب أن تقع بين الرجلين، إلا أن أبيجايل قد أسرعت «وَأَخَذَتْ مِائَتَيْ رَغِيفِ خُبْزٍ وَجَرَّتَيْنِ كَبِيرَتَيْنِ مِنَ ٱلْخَمْرِ، وَخَمْسَةَ خِرْفَانٍ مُعَدَّةٍ، وَخَمْسَةَ أَصْوَاعٍ مِنَ الْحَبِّ الْمَشْوِيِّ، وَمِائَةَ قُرْصٍ مِنَ ٱلزَّبِيبِ، وَمِائَتَيْ قَالَبٍ مِنَ التِّينِ ٱلْمُجَفَّفِ، وَوَضَعَتْهَا عَلَى ٱلْحَمِيرِ …» وأرسلتها لداود، فاعترف الأخير بنبوتها وبكونها مرسلة من قبل يهوه، وقال لها: «مُبَارَكٌ يَهْوَهُ إِلهُ إِسْرَائِيلَ، الَّذِي أَرْسَلَكِ ٱلْيَوْمَ لِلِقَائِي!‏ وَمُبَارَكَةٌ رَجَاحَةُ عَقْلِكِ، وَمُبَارَكَةٌ أَنْتِ الَّتِي مَنَعْتِنِي الْيَوْمَ أَنْ أُذْنِبَ بِسَفْكِ الدَّمِ، وَأُخَلِّصَ نَفْسِي بِيَدِي».

أيضًا يظهر اسم النبيَّة خلدة، والتي ذُكرت قصتها في سفر الملوك الثاني، إذ ورد أن ليوشيا ملك يهوذا قد أرسل لها بعض معاونيه من الكهنة ليسألوها عن مصير بني إسرائيل، وأنها قد أنذرتهم بقرب خراب أورشليم، وقالت لهم: «هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: هأَنَذَا جَالِبٌ شَرًّا عَلَى هذَا الْمَوْضِعِ وَعَلَى سُكَّانِهِ … مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ تَرَكُونِي وَأَوْقَدُوا لآلِهَةٍ أُخْرَى لِكَيْ يُغِيظُونِي بِكُلِّ عَمَلِ أَيْدِيهِمْ، فَيَشْتَعِلُ غَضَبِي عَلَى هذَا الْمَوْضِعِ وَلاَ يَنْطَفِئُ …».

وبالإضافة إلى من سبقن فقد ذكر العهد القديم أسماء مجموعة من النساء النبيَّات، اللاتي لم ترد الكثير من أخبارهن في الأسفار المقدسة، ومنهن كل من حَنَّة أم صموئيل النبي، وحَنَّة بنت فَنُوئِيل، ونوعدية، والنبية امرأة إشعياء النبي.

المجدلية وبنات فيلبس المبشر: النبيَّات في المسيحية

على الرغم من قبول المسيحية للتصور اليهودي التقليدي للنبوة، إلا أنه كان من الطبيعي أن يختلف مفهوم النبوة الوارد في العهد الجديد عن مثيله في العهد القديم، وذلك بسبب الاختلاف الحادث حول الإله نفسه، فإذا كانت أسفار التوراة تحدثنا عن يهوه، إله بني إسرائيل، غير المرئي، فإن أناجيل العهد الجديد قد أسهبت في الحديث عن المسيح الفادي، المخلص، والذي عاش ومات بين الناس.

لما كان دور النبي يتمثل بالمقام الأول في الوعظ والإرشاد بحسب ما ورد في رسالة بولس الأولى لأهل كورنثوس «وَأَمَّا مَنْ يَتَنَبَّأُ، فَيُكَلِّمُ النَّاسَ بِبُنْيَانٍ وَوَعْظٍ وَتَسْلِيَةٍ»، فإن المسيحيين يعتقدون أن النبوة قد وصلت ذروتها في شخص المسيح نفسه، إذ اجتمعت فيه الصفة النبوية الممثلة في ناسوته، مع الصفة اللاهوتية، وكان هو المرشد الأعظم والواعظ الأهم لجميع من تبعه وآمن به من بني إسرائيل.

غير أن مفهوم النبوة لم يقتصر على المسيح وحده، بل امتد ليشمل الكثير من أولئك الذين حلت عليهم الروح القدس بعد قيامة المسيح، وبحسب المعتقد المسيحي الوارد في الإصحاح الثاني من سفر أعمال الرسل، فإنه وبعد 50 يومًا من قيامة المسيح «… وَلَمَّا حَضَرَ يَوْمُ الْخَمْسِينَ كَانَ الْجَمِيعُ مَعًا بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ … وَامْتَلأَ الْجَمِيعُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ، وَابْتَدَأُوا يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ أُخْرَى كَمَا أَعْطَاهُمُ الرُّوحُ أَنْ يَنْطِقُوا …»، ولم تفرق الروح القدس هنا بين الرجال والنساء، بل حلت بجميع الحضور المجتمعين في هذا اليوم بلا تفرقة.

بناءً على هذا التصور تُعدُّ مريم المجدلية واحدة من النبيَّات التي حلت عليهن الروح القدس. المجدلية كانت بحسب إنجيل لوقا تتبع المسيح أثناء تنقله من مدينة لأخرى، وبحسب ما ورد في إنجيل يوحنا، فإنها كانت أول من شاهد المسيح بعد قيامته، وإنه قد قال لها وقتها: «لاَ تَلْمِسِينِي لأَنِّي لَمْ أَصْعَدْ بَعْدُ إِلَى أَبِي. وَلكِنِ اذْهَبِي إِلَى إِخْوَتِي وَقُولِي لَهُمْ: إِنِّي أَصْعَدُ إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ وَإِلهِي وَإِلهِكُمْ …».

الدكتور ميخائيل مكسي إسكندر ذكر في كتابه «أم النور والمريمات الأخريات» أنه وبعد صعود يسوع إلى السماء بقيت المجدلية مع الرسل في أورشليم، ونالت معهم مواهب الروح القدس، وبشَّرت مع التلاميذ، وكسبت نساء كثيرات إلى الإيمان بالمسيح، وأقامها الرسل شماسة لتعليم النساء وللمساعدة عند تعميدهن في الكنيسة، ويقال إنها قد توجَّهت لجنوب فرنسا للتبشير والكرازة.

أيضًا تحدث سفر أعمال الرسل عن أربعة أخوات عذارى عُرفن بالنبوة، وهن بنات فِيلُبُّسَ الْمُبَشِّرِ، الذي كان أحد الرسل السبعين الذين تم اختيارهم للتبشير من قبل المسيح. أما في رؤيا يوحنا اللاهوتي، فقد ورد الحديث عن إيزابيل، التي كذبت وادعت النبوة، وكانت تغوي المسيحيين، وتغريهم بممارسة الزنا والفجور، وبأكل لحوم القرابين التي قُدِّمت للأوثان.

سارة، وأم موسى، ومريم العذراء: النبيَّات في الإسلام

تُعدُّ مسألة الاعتقاد بنبوة بعض النساء في الإسلام واحدة من المسائل الجدلية التي ساد حولها النقاش بين الكثير من العلماء والباحثين قديمًا وحديثًا.

يمكن القول إن مبحث نبوة المرأة في الإسلام يتفرع ابتداءً من السؤال حول الفارق بين النبي والرسول، وما ورد في الآية رقم 43 من سورة النحل «وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ»، ففي حين ذهب المعتزلة وبعض علماء أهل السنة والجماعة إلى عدم التفرقة بين النبي والرسول، مما اضطرهم – استنادًا إلى الآية السابقة – لرفض القول بنبوة النساء بشكل قاطع، فإن الرأي قد اختلف عند جمهور العلماء ممن فرَّقوا بين منصبي النبوة والرسالة.

لتوضيح تلك النقطة يقول محمد بن أحمد السفاريني الحنبلي المتوفى 1188هـ، في كتابه «لوامع الأنوار البهية»، إن جمهور علماء المسلمين قد اتفقوا على «أن الرسول هو المبعوث إلى قومٍ برسالة جديدة وشرعٍ جديد، في حين أن النبي هو مذَكِّرٌ لقومه برسالةٍ سابقةٍ، فيكون كلُّ رسولٍ نبيًّا، وليس كلُّ نبيٍّ رسولًا»، الأمر الذي فتح الباب أمام بعض العلماء الذين ذهبوا إلى إمكانية وصول بعض النساء إلى مرتبة النبوة، وكان ممن نُقل عنه هذا القول كلٌّ من أبي الحسن الأشعري المتوفى 324هـ، وأبو محمد علي بن حزم المتوفى 456هـ، وشمس الدين القرطبي المتوفى 671هـ.

على سبيل المثال، أكَّد ابن حزم في كتابه «الفصل في الملل والأهواء والنحل» على أن النبوة مرتبطة بالوحي «فكل من أعلمه الله عز وجل بما يكون قبل أن يكون أو أوحى إليه مُنبئًا له بأمر ما، فهو نبي بلا شك»، وبناءً على ذلك التصور جزم ابن حزم بنبوة بعض النساء، ومنهن كلٌّ من السيدة سارة زوجة إبراهيم الخليل عندما بشرها الله بولادة ابنها إسحاق؛ وأم النبي موسى عندما أوحى الله إليها أن ترمي بولدها في النهر؛ والسيدة مريم العذراء، عندما أرسل الله إليها جبريل ملاك الوحي، وخاطبها قائلًا «إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا».

شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية الحراني المتوفى 728هـ هاجم رؤية ابن حزم حول نبوة المرأة في الكثير من المواضع، وكان مما قاله في ذلك: «وليس كل من أُوحي إليه الوحي العام يكون نبيًّا؛ فإنه قد يوحى إلى غير الناس؛ قال تعالى: «وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ»».

من بين النماذج المهمة التي تجسدت فيها فكرة النبوة النسائية في حقبة الإسلام المبكر مدعية النبوة سجاح العامرية، والتي ظهرت في قبيلة تغلب، وتزوجت من مسيلمة الكذاب، وادعت النبوة، وأتبعها الكثير من أقاربها من قبائل تغلب، ليدخلوا في معارك عنيفة ضد قوات الخليفة الأول أبي بكر الصديق، حتى هُزِموا في نهاية المطاف، ورجعت سجاح إلى الإسلام وماتت في عهد الخليفة الأموي الأول معاوية بن أبي سفيان، وذلك بحسب ما يذكر ابن كثير الدمشقي المتوفى 774هـ في كتابه «البداية والنهاية».

الأمر الذي ينبغي الالتفات إليه ها هنا أنه لما كانت مقتضيات الأمر الواقع والظروف التي تزامنت مع تطور الحضارة العربية الإسلامية قد حدت بالذكورة لتصبح أحد الشروط الواجب توافرها في منصب الإمامة عند كل من أهل السنة والجماعة من جهة والشيعة بمختلف فرقها من جهة أخرى، فقد كان من الطبيعي أن نجدها – أي الذكورة – وقد صارت من ضمن أهم الشروط التي حددها جمهور العلماء لشغل منصب النبوة، ويمكن تفسير ذلك بالنظر إلى أن التوجه المعرفي السائد طوال العصور الوسطى، ذلك الذي كان يميل للقول بأن الإمامة ما هي إلا فرع من فروع النبوة، وبالتالي فقد كان من المنطقي أن يشترك المنصبان في الكثير من الصفات والشروط.