لا شك عندى في أن الفكر العربي الإسلامي يُعاني من «خلافات» عقيمة تفضي إلى التضارب والتنازع وتشوش الرؤية، وضياع الطريق إلى النهوض والتقدم الإنساني.

ولعل أحد الأسباب الرئيسة الجوهرية وراء هذا الوضع المتأزم الذي يعاني منه «العقل العام» في العالم العربي الإسلامي هو غياب التعريف أو التحديد الدقيق لتلك المصطلحات التي جعلناها عنوانًا لهذا المقال.

ويرجع هذا الغياب المفضي إلى التشوش الفكري إلى تقاعس وتكاسل عقول نخبتنا عن بذل المجهود الكافي لاستجلاء معاني المصطلحات والشعارات التي تلوكها ألسنتهم كثيرًا في خضم المعارك الكلامية التي يملأون بها ساعات البث التلفزيوني والإذاعي، ويسودون بها آلاف الصفحات في الجرائد والمجلات والكتب ومواقع التواصل الاجتماعي في الشبكة العنكبوتية!.

والمرجع الوحيد الذي يمكننا الاعتماد عليه من أجل فض هذا الاشتباه هو اللغة العربية التي بينت معاجمها المعاني الأصلية للألفاظ، والقرآن الكريم باعتباره التعبير الأفصح باللغة العربية، والذي اعترف جميع البشر على اختلاف عقيدتهم فيه: العرب والعجم والمؤمنون به والكافرون على حد سواء ببلاغته التي لا يمارى فيها أحد، ولا يسمو إليها أي كلام.

يقول القرآن الكريم واصفًا موقف الكافرين به: «يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ» (التوبة: 32).

ويقول: «يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ» (الصف: 8).

ولا جدال في أن نور الله في الآيتين هو كلامه النازل في رسالته إلى نبيه محمد، بدليل أن الكافرين المنكرين لألوهيته (نزوله من الله) يحاربونه ويحاولون إطفاء نوره بأَفْوَاهِهِمْ؛ يعني بكلامهم، فلا يخرج من الأفواه إلا الكلام والأصوات والبصاق!.

فالكافرون –الذين يكذّبون بنبوة محمد؛ أعني بألوهية القرآن المجيد- يبذلون قُصارى جهدهم في التشكيك في صحة نسبة القرآن الكريم إلى الله، بادعاء احتوائه على أخطاء يتنزه الله سبحانه وتعالى عن الوقوع فيها، وهم بذلك يحاولون طمس حقيقة القرآن أو إطفاء نوره.

وأعلن الله في الآيتين عن إرادته إتمام نوره رغم كراهة الكافرين لذلك، وذلك بإتمام تنزيل «كامل النص القرآني» -الكائن من قبل الخلق في اللوح المحفوظ– دون أي نقص؛ أي دون حبس أي جزء منه في الغيب، وذلك في حياة محمد الدنيوية التي انتهت بوفاته.

وبإتمام إظهار الآيات الدالة على ألوهية القرآن، واستحالة صدوره عن عقل بشر؛ لاحتوائه على حقائق علمية يتوالى الكشف عنها بتقدم العلم الإنساني، كما أخبر عن هذا بقوله: «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» (فصلت: 53).

إذن، نور الله في الآيتين هو القرآن الكريم، ودع عنك أوهام المفسرين القدامى منهم والمحدثين الذين اختلفوا في كل شىء؛ لنظرتهم الجزئية ضيقة الأفق التي تجرى وراء أقوال السلف، وتعجز عن رؤية الآية الواحدة في كامل نصها، فضلاً عن استحضار النص القرآني التام عند تفسير أي جزء أو بالأحرى أي عضو فيه.

فماذا يحتوي القرآن الكريم، وهو رسالة الله إلى العالمين (الناس)؟.

و تأتينا الإجابة في الآية التالية التي تكررت بنصها في الموضعين: «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» (التوبة: 33)، (الصف: 9).

يبين الله هنا المحتوى العقلي (الفكري) للقرآن الكريم الذي يمكن للعلم الإنساني أن يتعامل معه، فيقول إنه يحتوي قسمين أساسيين هما: 1- الهدى 2- دين الحق.

1. الهدى

هو النور الذي يضيء للإنسان طريقه إلى الله، فهو العقيدة أو الإيمان الذي يصل الإنسان بخالقه عبر العبادات (المناسك) والخُلُق الحسن الذي يعني الإحسان إلى خلق الله.

ونفهم من هذا أن العبادات؛ أعنى الصلاة والصوم والزكاة والحج، والأخلاق الحسنة مثل الصدق والصبر، وأداء الأمانة، والوفاء بالعهد، تعد جميعًا ثمارًا للإيمان، فإنها كلها من شُعب الإيمان (الهدى)، وهذا هو مدلول قوله (صلى الله عليه وسلم): «الإيمان بضع وسبعون شعبة فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان»[1].

وكما نرى، فإن «إماطة الأذى عن الطريق» من الإحسان إلى خلق الله؛ أي من الخُلُق الحسن وكذلك الحياء.

2. دين الحق

يدور لفظ الدين في استعماله الأصلي عند العرب على معاني: الحُكم والقضاء والطاعة والولاء والخضوع أو الإذعان، والحساب والسياسة والسلطان والعادة أو العُرف المستقر[2].

وبالتأمل في هذه المعانى التي استعمل فيها العرب لفظ الدين وبمختلف مشتقاته، نخلص إلى أن المعنى العام الجامع لكل هذه الدلالات هو القانون، الذي يحكم على أعمال الناس، ويخضعون له أو يذعنون إلى أحكامه، وبه يكون السلطان (المُلك) وبه تُساس (تُدار) أمور الناس وبه يحاسبون ويعاقبون عند مخالفته وعليه تستقر أموال معيشتهم وأعرافهم.

أما لفظ الحق فيدور معناه حول الصواب، القول الصحيح أو الفكرة السليمة الصائبة والشهادة (العلم الواجب إبلاغه أو الإفصاح عنه) والنصيب الواجب الحصول عليه، والشيء الواجب نفاذه أي تحققه أو تحقيقه، والعدل؛ لأن العدل هو ما يحفظ حقوق الكائنات.

وبكل هذه المعاني جاء النص القرآني الحكيم، وبالمعنى الأخير (العدل) جاء قوله على لسان النبي: «قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ ۗ وَرَبُّنَا الرَّحْمَٰنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ» (الأنبياء: 112). داعيًا الله سبحانه وتعالى أن يظهر عدله (أن يحكم بالحق).

وقال على لسان المتخاصميْن اللذين قاما بين نبي الله الملك داود يطلبان منه أن يفصل بينهما في الخصومة: «خَصْمَانِ بَغَىٰ بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَىٰ سَوَاءِ الصِّرَاطِ» (ص: 22).فاحكم بيننا بالحق: فاحكم بيننا بالعدل.

وقال سبحانه وتعالى واعظًا نبيه الملك داود: «يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ» (ص: 26). فاحكم بين الناس بالحق: فاحكم بين الناس بالعدل.

إذن، دين الحق هو قانون العدل الذي يحفظ حقوق الخلق.

واستعمل القرآن الكريم لفظ الدين بمعنى القانون؛ أي الحكم الذي يُحاسب به الناس. عندما حكى ما وقع من يوسف عليه الصلاة والسلام عندما قبض على أخيه الأصغر بنيامين بتهمة سرقة صواع (مكيال) الملك وعقوبة هذه الجريمة في قانون الملك هي الرق (الاستعباد) أو القتل، وليس من المتصور أن يقبل يوسف عليه السلام إيقاع هذه العقوبة على أخيه، فقال القرآن واصفًا حال يوسف: «ما كان ليأخذ أخاه ف دين الملك» (يوسف من الآية 76) والمعنى: ما ينبغي ليوسف أن يعاقب أخاه بقانون (حكم) الملك.

والقانون هو الحكم (الأمر) الذي يخضع له الناس في تصرفاتهم ويعاقبون على مخالفته.

ولنا الآن أن نتساءل عن الحكمة وراء استعمال القرآن الكريم لفظ «الكافرون» عند الحديث عن كراهية إتمام نور الله بقوله: «وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ»، وقوله: «وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ»، واستعمل لفظ «المشركون» عند الحديث عن كراهية إظهار دين الحق بقوله: «لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ».

والسر يكمن في أن الكافرين المنكرين لنبوة محمد أو لألوهية القرآن ينقسمون إلى فريقين:

  • أهل الكتاب: وهم اليهود والمسيحيون الذين ينسبون أنفسهم إلى أنبياء الله، ويؤمنون بكتب نزلت من عند الله.
  • المشركون: وهم المؤمنون بتعدد الآلهة، ويتقربون بعباداتهم لمعبودات زائفة من الأحجار أو التماثيل المصنوعة من المواد المختلفة، أو بعض المخلوقات، ولا يعتمدون في كل ذلك على كتب منزلة من الله؛ بل على أقوال منسوبة لبعض من يعتقدون في حكمتهم.

وإلى هذا الانقسام أشارت سورة البينة في آيتها الأولى: «لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ».

فإذا كان للكافرين المشركين تبعًا لموقفهم الفكري أن يكرهوا إتمام تنزيل القرآن الكريم وإظهار ألوهيته عبر تقدر العلم الإنساني في الآفاق، وأن يكرهوا إظهار دين الحق (قانون أو حكم العدل) لأنهم يريدون أن يعيشوا في حياتهم الدنيا كما يهوون، تسوقهم أهواؤهم التي يحتكمون إليها، فليس من حق الكافرين من أهل الكتاب – بموجب نصوص الكتب الت بين أيديهم الآن والتي يقولون إنهم يؤمنون بها- أن يكرهوا إظهار دين الحق (قانون العدل الإلهي) على سائر القوانين (على الدين كله)؛ لأن هذه الكتب نفسها تحتوي على دين الحق، وتنص صراحة على وجوب الإذعان له.

يقول المسيح (عليه الصلاة والسلام) في الإصحاح 23 من إنجيل متى الموجود بين أيدي المسيحيين الآن: «عَلَى كُرْسِيِّ مُوسَى جَلَسَ الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّون، فَكُلُّ مَا قَالُوا لَكُمْ أَنْ تَحْفَظُوهُ فَاحْفَظُوهُ وَافْعَلُوهُ، وَلكِنْ حَسَبَ أَعْمَالِهِمْ لاَ تَعْمَلُوا، لأَنَّهُمْ يَقُولُونَ وَلاَ يَفْعَلُونَ».

وهو نص صريح على وجوب طاعة شريعة موسى؛ أي حكم الله النازل في التوراة.

فضلاً عن أن المسيح قد قال: «اعطوا ما لقيصر لقيصر، وأعطوا ما لله لله»، وهو نص يوجب على كل مسيحي حقيقي يؤمن بما جاء في الإنجيل أن يخضع لأي قانون يصدره أي حاكم ما دام لا يجبره على تغيير عقيدته أو يعوقه عن ممارسة شعائر إيمانه، حتى إن كان القيصر مسلمًا.

وذهب بعض يهود المدينة المنورة الذين ادعوا أنهم آمنوا بمحمد ليسألوا عن حكم الله في قضية، وكان غرضهم أن يفتيهم بحكم يخالف الحكم الذي عندهم في التوراة، وأن يُظهروا بذلك جهله بشريعة الله، ومخالفته لها.

ونزل القرآن الكريم ليقص علينا ذلك النبأ فقال: «وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ ۚ وَمَا أُولَٰئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ» (المائدة 43).

فقوله: «وعندهم التوراة فيها حكم الله» معناه أن التوراة التي في أيدى اليهود تحتوي على حكم الله في القضايا التي يمكن أن تنشب بين الناس وينشأ عنها التنازع؛ مثل القتل والزنا والسرقة وخيانة الأمانة والاختلاس والسب والقذف.

و الخلاصة أن حكم الله واحد في كل الكتب (الرسالات) الإلهية (القرآن والإنجيل والتوراة).

ومن ثم فإن شريعة الله واحدة؛ أي أن دين الحق (قانون العدل) واحد في كل الكتب المنزلة من الله على رسله.

ولذلك لا يجوز للكافرين من أهل الكتاب الذين ينكرون بنبوة محمد أن يكرهوا إظهار دين الحق؛ لأنه – في الحقيقة – دينهم، بمعنى قانونهم أو شريعتهم التي ينبغي لهم بموجب إيمانهم أن يذعنوا لها؛ أي يدينوا بها.

وبهذا الفهم نتبين خطأ الوهم العريق الذائع الصيت الذي وقع فيه أئمتنا الأعلام، السابقون واللاحقون، عندما أطالوا الحديث عن اختلاف الشرائع المنزلة على الأنبياء من الله، وأن كل رسول يأتي بشرع جديد. ذلك لأنهم خلطوا بين المناسك (العبادات) المتفرعة من العقيدة (الإيمان) وبين الشريعة التي هي دين الحق أي قانون العدل الذي ينبغي أن يدير حركة الناس في أمور معيشتهم بهذه الحياة الدنيا، وأن يحكم تصرفاتهم وأن يُعاقبوا على مخالفته.

ويفضي بنا هذا إلى الحديث عن الشريعة والفقه

فنقول إن الشريعة تعني في أصلها اللغوى: الموضع (المكان) الذي كان لا بد أن توقف فيه الإبل والدواب عند ورودها إلى عين الماء، قبل أن تبدأ بالشرب. وكانت الشريعة أو (الشرعة) هي المبدأ الذي تبدأ منه الإبل حركتها؛ من أجل تنظيم سيرها إلى الماء؛ حتى لا يبغي بعضها على بعض، إذا تُركت حرة في حركتها دون ضوابط تحكم سيرها، وعلينا أن نلتفت إلى أن قواعد اللغة العربية تضمنت ما يُسمى «أفعال الشروع» وهي الألفاظ التي تعبر عن بدء الحركة أي بداية الأعمال.

و من هذا المعنى الأصلي نعلم أن الشريعة – في الحياة الاجتماعية للبشر – تعني مجموع القواعد العامة، أو المبادئ الأساسية التي تضبط حركة الناس في معيشتهم الدنيوية من أجل حفظ حقوقهم إزاء بعضهم؛ حتى لا يبغي بعضهم على بعض.

و في كلمات أخرى: الشريعة هي المبادئ الأساسية التي ينبغى الالتزام بها من أجل إقامة العدل، ومن ثم فإن شريعة الله هي دين الحق؛ أي قانون العدل الإلهي الذي نزل في كل الرسالات التي خاطب الله بها الناس.

ولكن المبادئ الأساسية أو القواعد العامة لا تكفي وحدها بنصوصها الإلهية المقدسة لإدارة حياة الناس الاجتماعية في هذه الدنيا، بالضبط كما لا يكفي أي دستور في دولة معاصرة لتنظيم وإدارة حياة المواطنين في شتى المجالات، بل لا بد من تشريع (إصدار) القوانين المختلفة لتحقيق التنظيم المنشود، وينبغي أن تلتزم القوانين المختلفة بنص وروح الدستور الذي يُعد القانون الأعلى.

في يوم الجمعة، التاسع من ذي الحجة، في العام العاشر بعد الهجرة، وبعد صلاة العصر، ونبي الله واقف بعرفات في حجة الوداع نزلت: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي» (المائدة: من الآية 3). الإكمال: سد النقص؛ أي إعطاء ما كان يُحتاج إليه. والدين كما شرحنا هو الشريعة، أعني المبادئ الأساسية.

و«أكملت لكم دينكم» يعني أعطيتكم كل ما تحتاجون إليه من المبادئ الأساسية التي تبنوا عليها باجتهادكم الأحكام التي تنظمون بها شئون حياتكم الدنيا، فاليوم وبعد نزول هذه الآية لم يعد عندكم أي نقص في المبادئ الأساسية التي تقيمون عليها الأحكام (القواعد الجزئية الخاصة) التي تنظمون وتديرون بها أمور دنياكم، لكن المبادئ الأساسية تحتاج عند إنزالها على وقائع الحياة الدنيا المتغيرة إلى الاستنباط والاستلهام والاستدلال والقياس؛ يعني في كلمة واحدة تحتاج إلى اجتهاد العقول البشرية في تفسير النص المقدس.

والإتمام هو الوصول إلى الغاية التي ليس بعدها شيء يُتطلع إليه أو ينتظر، ونعمة الله هي كلمته التي أنزلها على نبيه، فهي القرآن الكريم[3].

ومن هنا نعرف معنى الفقه، وهو استنباط القواعد الجزئية الخاصة التي تنظم كل نشاط من نشاطات الحياة البشرية من القواعد العامة؛ أي المبادئ الأساسية التي هي الشريعة أو دين الحق الذي نزل من عند الله في كتبه إلى أنبيائه ورسله.

والفقه –إذن- جهد بشري يستلهم ويستنبط أحكامه من الشريعة الإلهية، ولذلك يجب أن يتغير أو يتطور بمرور الزمن كلما تغيرت حياة البشر وزادت علومهم عمقًا واتساعًا في شتى الآفاق.

ولنا في الإمام الشافعي أسوة حسنة؛ فقد غير آراءه التي كونها في العراق عندما اتسع علمه ونضج عقله في مصر، فصار له مذهبان: قديم وجديد.

ولكن مأساتنا تكمن في أن أصحاب الصوت العالي «المسموع» يصرون على إبقاء عقولنا في قوالب جامدة صنعها سلفنا الصالح من أكثر من ألف عام.


1- الحديث رقم 2800 في كتاب الألباني: «صحيح الجامع الصغير وزيادته الفتح الكبير».2- انظر لسان العرب لابن منظور – مادة دين ص 1467 -1470.3- واستعمل القرآن الكريم لفظ «النعمة» للدلالة على كلام الله فى عدة مواضع نذكر منها: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ» (ابراهيم : 28). بدلوا نعمة الله: غيروا كلام الله. كفرًا: بباعث من كفرهم. وقال سبحانه وتعالى: «وأما بنعمة ربك فحدث»: يأمره بإبلاغ كلام الله، ولا نريد أن نطيل.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.