هذه نصوص قصيرة، داومت على كتابتها على فترات متباعدة، وضمّنت بعضها مجموعة قصاصات، إنها مجرد خاطرة مثل خواطر الشعراء، تعن لك فجأة ثم تترك وترحل. لا أستطيع تصنيفها، لا أعرف إن كانت قصصًا أم قصائد نثر. إنها حالات خاصة قد تقترب أحيانًا من شكل القصة القصيرة جدًا، وأحيانًا لا تكون إلا مجرد فكرة، أو ما يشبه قصيدة النثر. أظن أنها تستجيب لميلي القديم لكتابة الشعر، فلها نفس وقع القصائد عندما تتراءى لي، ونفس سطوتها، فهي تستبد بي أحيانًا وأجد نفسي ألُاحق تلك الخواطر الشاردة. الحقيقة أنني أُفرِّق بينها وبين القصص القصيرة بحدس داخلي، لا أتمكن من الإمساك به وصوغه في كلمات، لكنها في النهاية لحظة مُكثفة أو انطباع أو موقف أو حتى فكرة، تثير انتباهي ورغبتي في تشكيلها.

يوم التقاعد

كان يومًا مُمطرًا. رأيته يقف في الشرفة المقابلة، شاردًا، غير عابئ بالماء يبلل البيجامة والطاقية الصوف. يتابع باستغراق مسار الماء ينحدر باتجاه المنطقة الواطئة أمام بيته. فكرت أن عصبيته أوصلته إلى تلك الحالة. طلّق زوجته وطرد ابنه ولم يعد له غير ابنة تزوره من حين إلى آخر، تنظف الشقة وتعد له الطعام.

كان يعمل موجِّه علوم. أحيانًا أصادفه في الصباح خارجًا من البيت المقابل، يرد تحية الصباح بغمغمة ووجه عابس. ذات يوم قابلته في الإدارة التعليمية، قال إنه لم يعد يستطيع النوم. الشباب يُدخِّنون الحشيش في بير السلم ويخاف أن ينزل ليتحدث معهم:

من أدارني أن أحدهم لا يحمل مطواة؟

اندهشت من حديثه، فلم أكن أرى تجمعًا للشباب في منطقتنا بالليل. فكرت أنه ربما يقول الحقيقة، فهو يسهر إلى ساعة متأخرة كل يوم، وصوت التلفزيون يظل مسموعًا في سكون الشارع.

استمر المطر فترة طويلة. لم يغادر الشرفة، ولم ينتبه أن السيجارة قد انطفأت بين شفتيه.

في الصباح قابلته، شاحب الوجه. حيّاني بود وأشار إلى أن أنتظره قليلًا. سار معي بضع خطوات باتجاه الإدارة، وهو يُحدِّثني– مرة أخرى- عن أنه لم يعد قادرًا على النوم:

صوت القطط مخيف في ليل الشتاء. هل هو موسم التزاوج؟

نظر إليّ مُستفهمًا، راغبًا في إجابة لا أملكها. طوّح رأسه وسار صامتًا.

قبل أن أتركه، نظر إلى وجهي وبدا حائرًا من أمر ما، ثم قال بوهن:

اليوم أبلغ الستين. لن نلتقي في الصباح.

نظر إليّ. كانت ابتسامة تشق طريقها إلى وجهه دون أن تفلح في إزالة العبوس، لكنه أكمل الفكرة التي ربما انتظرها طول الليل:

لا، لا، سوف نلتقي كل صباح، سأنزل كل يوم لأشتري الجرائد والفول… سأنزل كل يوم.

حنان الراهبات

ارتبكت حياتها. قادتها دائمًا نزواتها، رغبتها في أن تصعد إلى سطح الأحداث، وتبرز مثل نجمة مضيئة في السماء، ورغم أنها تجاوزت الخمسين غير أن تشوّش حياتها الداخلية كان ما زال يقودها. لم تهدأ رغبتها في الظهور، والوقوف على خشبة المسرح، لم يُوقِف الزمن تلك البذور القديمة للرغبة في الوجود في محط الأبصار، وها هي تجيء إلى المدينة الصغيرة وتثير زوبعة في العائلة لكي تحصل على ما تبقى من ميراث أبيها.

قالت لي في ذلك اليوم:

تلك هي المصيبة. تعلّمت في مدرسة راهبات، مدرسة داخلية، لقد عشت كأن لا يراني أحد، لا أبي ولا أمي، لا جدتي.

كنّا في بيت جدتها، ننتظر أن ننزل لأعرِّفها على محام ينهي لها بعض أوراق خاصة بملكية البيت.

تركت السيجارة مشتعلة في الطفاية وأكملت:

الراهبات كما تعلم، مثل شخصيات الروايات عواطفهم عامة، حنان لا يخصك ولا يخص زميلتك، بل يخص رغبة عقلية في منح الحنان؛ إنه حنان موجه للحنان نفسه، ويتخذ من بنات المدرسة موضوعًا له. حنان يخص إرضاء الذات عند الراهبة ولا يخص منحك عطفًا لشخصك، ومحبة لك أنت بشكل خاص. الراهبات شخصيات ورقية.

أشعلت سيجارة أخرى، وبدا أنها نست موضوع المحامي، كانت لحظة تأمل وصفاء:

عشت غير مرئية عشت في محيط خال من البصر، لذلك أول شاب جميل نظر إليّ ورآني وقعت في حبه. كنت قد انعكست لأول مرة في مرآة شخص آخر، وخطرْت في روحه، حدث هذا في زمن بعيد، كانت الحياة صافية، حدث هذا قبل أن يسكن الحزن قلبي. هذا الحب الطفولي لذلك الشاب في مدرسة الطيران الثانوية في مصر الجديدة لن أنساه ما حييت، ولن أنسى بطبيعة الحال هذه الفتاة التي كانت ترتدي الجونيلة القصيرة والشمس تزغلل عينيها وكانت يُضايقها النمش على وجهها، حتى أنها كانت تستعمل في حمامها ليفة خشنة من لوف النخيل لكي تمحو النمش من وجهها؛ العلامة السرية على أن والدتها أجنبية.

صورة الرئيس

توجّه إلى مكتبه، كانت الثامنة صباحًا، بالضبط. فتح الباب، ونظر بدقة إلى الجوخ الأخضر يغطي المكتب. وتطلع إلى الصورة المعلقة خلفة. تغيرت ثلاثة أوجه. الزعيم والمؤمن والقانع. لم يبد أنه سوف يفارق المكتب دون أن يلقي نظرة أخيرة على ذلك الوجه الغريب المحبوس خلف الزجاج.

لا أحد غيره يعرف أنه لا يحب أن يضع الصورة خلف ظهره، طلب منهم أن ينقلوا المكتب، ولكن رئيس المصلحة قال له يجب أن يكون الرئيس وراءك يراقبك، ويعرف ما تفعل، ولا تعرف أنت ما يضمره، لك، كانت الصورة قديمة، مجرد صورة توزِّعها مكاتب الاستعلامات على المديريات والمصالح الحكومية، ويضعها «المسئول»، خلف ظهره.

طول الوقت لم يكن مستريحًا، لهذا الوجه الذي ينظر ببلاهة إلى الداخل والخارج من المكتب، وإن كان قد فهم السبب في أن صور الرئيس لا بد أن تُوضع خلف المرء، إنها فكرة قديمة عن المراقبة الخفية، الغياب الحاضر. قال لنفسه لم يعد لي غير عدة أشهر على المعاش.

بعد تنحي الرئيس، قطع الطريق من بيته إلى الإدارة حتى اندهش الحارس من وجوده في الصباح الباكر كأن اليوم يوم عمل. فتح مكتبه، وأنزل الصورة من مكانها خلف مكتبه، وشعر بأن الغرفة قد تحرّرت، ولأول مرة يشعر بها كمكان حميم يمكن للمرء أن يمارس فيه عمله من دون ضغوط.

وجود الصورة كان مُقلقًا له طوال تلك السنين، لكنه لم يشعر بحقيقة القلق إلا عندما أنزلها من فوق الحائط، الآن الغرفة براح والضوء يغمرها. رغم أنه لم يبق له على المعاش غير أشهر فقد شعر بأنها ستكون أفضل أشهر في سيرته الوظيفية، سوف يؤدي عمله، دون أن يطل عليه أحد من عليائه.

مدينة على أطراف الصحراء

طرقات المدينة واسعة، أرصفتها عريضة، يغطيها بلاط خشن بلون طوبي. في الشتاء تقترب سماؤها معبأة بسحب داكنة، وتصبح طرقاتها مهجورة. في الصيف تحتلها أشعة شمس صاخبة، فلا تجد أحد يسير إلا على الأرصفة في شرائط الظلال التي تُتيحها العمارات الخالية من السكان، وفي الربيع يطرح شجر- لا أعرف اسمه- يحيط بملعب كرة القدم، ورودًا بلون وردي مُبهِج لكنه بلا رائحة.

جئت إلى هذه المدينة مُعتلًا. قضيت عدة أشهر على سبيل الاستشفاء، عندما بلغت الخمسين من عمري.

الحياة مرهقة، لروح هشة مثل روحي، حتى لو كانت مهمة المرء فيها أن يَعُد مرور الأيام.

أتعجب ممّن يقولون، إنهم يستمتعون بحياتهم، زمان كنت أشعر بسخفهم وادعائهم، لكن بمرور الوقت، روّضت نفسي وقلت يجوز، كل واحد منّا له جهاز استقبال مختلف. ربما هم قادرون على التمتع بالحياة، رغم كل شيء.

استغرق الأمر عدة أشهر حتى تمكنت من النزول من الشقة التي أجّرها لي أولادي، والتمشي في الطرقات الخالية، أراقب ظلي، يدور حولي مع تغير موقعي من الشمس، في أثناء حركتي في الطرقات الخالية.

راقبته طويلًا حتى صارت بينا ألفة، ويمكن المبالغة والقول بأنني بدأت أكلمه. في بعض الأحيان أدير معه حوارًا حتى ترسخت العلاقة بيني وبين ظلي وأصبحنا أصدقاء. طبعًا لا أدير تلك الحوارات طول الوقت كي لا يظن أحد من السكان القلائل أنني مجنون.

لا أحد هنا لأتحدث معه، حتى الضابط المتقاعد الذي يؤجر الشقق، لا أتمكن من إجراء حوار معه، فليس لدينا موضوعات مشتركة، أتركه يسرد عليّ سيرته في العسكرية وقيمة الحياة العسكرية، وأهميتها في مجتمع مثل مجتمعنا، يميل إلى السيولة والرخاوة، لا بد من وجود الحياة العسكرية، كي تشكل حدًا في وجه رخاوة ودلع الناس في الحياة المدنية.

مشيت على هذه الأرصفة طويلًا، وصعدت الطرقات المنحدرة حتى السلك الشائك الذي يفصلها عن المعسكر في الجبل، حيث أسمع طول النهار صوت المعدات تقطع حجر الجبل ويحمله عربيات نقل كبيرة، لا أعرف إلى أين؟

عندما جاء أول ربيع عليّ هنا، لاحظت أن الأرصفة الخشنة يخرج من بين شقوق بلاطها نباتات صحراوية لها زهور أرجوانية وصفراء وحمراء، ما أعرفه منها هو زهرة الجعضيض الصفراء وكذلك الأقحوان بزهوره ذات الوريقات البيضاء.

يبدو أن الأرض التي بُنيت عليها هذه المدينة لم تمت، وكذلك لم تمت حياتي القديمة التي جئت إلى هنا لأُشفى منها، إذ أخرجت لي ظلي من بين أطياف حياتي القديمة، ولا أعرف في قادم الأيام، ما الذي سوف تطرحه حياتي القديمة من صور وأشكال، مثلها مثل تلك الأرض الصحراوية التي لا نعرف ما ستطرحه من نباتات في الربيع القادم.

صوت صارخ في البرية

حكت فتاة عن سحبها من الشارع إلى داخل مجلس الشعب أثناء أحداث مجلس الوزراء. وبعد ضرب مبرح، اكتشفت أن رأسها ينزف، عندما كانت تُجر على سلالم المبنى. تركوها في أحد القاعات، بعد أن أخذوا محتويات حقيبتها.

وصفت ما رأته:

رجل كبير السن رأسه مفتوح، فتاة محجبة تنزف من أنفها (يبدو أنها ضُربت على رأسها). شاب مصاب بجرح كبير، أحضروا له طبيبًا لكي يُخيِّط الجرج. سمعَت صوته عاليًا: «لا أريد خياطة، اتركوني». عرَفت أنهم يُخيِّطون الجرج على الحي. جاء ضابط وسأل عنها. اقتادوها إلى مكان آخر. حاول رجال يرتدون الملابس المدنية أن يضربوها. رفع أحد الجنود يده قائلًا: «فيه أوامر، متضّربش». قابلها ضابط كبير، وسألها عن اسمها، وقال لها بود: «أنت عملتي لي مشكلة»، وقادها لتخرج.

حان وقت خروجها. غادرت القاعة، وسمعها متعلق بأصوات شباب يصرخون، هناك في مكان ما خلف الجدران. (يبدو أنهم يُعذَّبون بالكهرباء). قالت إن حظها أفضل كثيرًا، من هؤلاء الشباب، صراخهم لا يفارق البال. مثلهم مثل إخوانهم في السجن الحربي. شباب لا اسم لهم. صوت الصمت. وحدهم هناك، يصرخون في صمت يمتد حولهم بلا نهاية.

بحثْت عن بيت من الشعر الياباني، خمنْت أنه ينقل تلك الحالة من الصمت والعزلة والرعب. عثرت عليه في كراسة قديمة. رأيته شاحبًا خاليًا من المعنى، يتحدث عن عظمة الزهور التي لا اسم لها وتتفتّح في زاوية منسية من المرج.

الفتاة تخرج من المبني، تُنصِت، حتى آخر لحظة، لصوت شاب يصرخ من ألم التعذيب الكهرباء. لم يكن هؤلاء أزهارًا منسية، بل قلوبًا مرعوبة، لا من ألم ما يحدث لها، بل من هول المساحات التي نخلقها حولهم بصمتنا.

النور والعين

أسير بجوار جدتي في شارع «سعيد». الضوء لامع يُنير المباني القديمة. نعبر ميدان «كوتشنر» ونصل إلى ملجأ الأيتام. أعد نفسي لمتابعة ذرّات النار الطائرة من ورش اللحام، تنطلق بارقة، ثم تنطفئ.

تنبهني جدتي:

لا تنظر تجاه برق النار حتى لا تعمى.

تخاف جدتي من العمى. الظلمة والعمى شيء واحد. العمى عجين الحياة، حتى جاءت الشمس فعرفت الحياة النظام والقانون. لكن الشمس أيضًا مصدر العمى. قالت لي ذات يوم:

منْ ينظر في عين الشمس طويلًا يعمى.

جدتي أحبت الضوء في أصباح الشتاء. لم تستيقظ يومًا دون أن تفتح نوافذ البيت وتترك ضوء الشمس ينسل إلى الداخل. كرهت الظلام حتى أنها لم تنم ليلة واحدة دون أن تترك ونّاسة الصالة مُضاءة.

قالت لي عندما اقتربنا من ورش اللحام حيث سيتطاير شرر النار من ماكينة اللحام:

غمّض عينك، النور والعين نفس الشيء. العين إن ضاعت يذهب النور، وإن ضاع النور لا ترى العين.