مع احتفال السعودية بعيدها الوطني السابع والثمانين هذا العام 2018، بدأت ملامح التغيير تطفو على الواقع الثقافي هناك، فبعد أن حُظرت الحفلات الغنائية؛ سُمح بها في كل أرجاء المملكة، وأُبيحت الاحتفالات الراقصة المختلطة، تلك التي كانت مُحرمة تحريمًا قطعيًا لما تنطوي عليه من مخالفات شرعية ومفاسد أخلاقية، ثمَّ أُتبعت بقراراتٍ ملكية عدة أجازت قضايا مجتمعية كانت محرمات منذ نشأة الدولة؛ كان أبرزها (بعد السماح للمرأة بقيادة السيارة) افتتاح دور السينما التي أُغلقت منذ سبعينيات القرن الماضي.

ورغم أن هذه التغيرات أدت إلى تصدع مشروعية الحكم الديني البحت الذي قامت عليه الدولة منذ عقود؛ إلا أن البعض يرى فيها خيرًا كونها تُحول المجتمع السعودي من حالة الركود والانغلاق إلى حالة الاطلاع على الثقافات الأخرى التي تركز على الحرية الاجتماعية، والاطلاع على المذاهب الفقهية الأخرى التي تنعت التشدد وتسير إلى الوسطية في الحياة الإنسانية والاجتماعية.

يراهن أولئك على الشرعية الجديدة ورؤية 2030 التي جاء بها ولي العهد محمد بن سلمان، وبدأ بتطبيقها بخطوات سريعة ومتلاحقة ليثبت للعالم الخارجي أنه يقود ثورة ثقافية واجتماعية لمجتمع منغلق، وفي دولة تعيش حالة انسداد. فهل ينجح في إشاعة تطبيق الحرية الاجتماعية على حساب الثوابت الدينية؟


تاريخ السينما السعودية المتأرجح

لأكثر من 35 عامًا ظلت مسألة تدشين دورٍ للسينما في السعودية، ضربًا من الخيال يستحيل تحوله واقعًا بفعل فتاوى المنع الكثيرة، وطبيعة المجتمع المحافظ الذي يُسلم بالدين فقط في تسيير أمور حياته الإنسانية. غير أن الخيال أصبح واقعًا ملموسًا بافتتاح السعودية، في 18 إبريل/نيسان 2018، أول دار سينما بالبلاد.

ويعود تاريخ السينما السعودية إلى ثلاثينيات القرن الماضي، إذ بدأت بأدوات بسيطة تمكنت عبرها من إنتاج أفلام وثائقية تثقيفية، وكان أول من أدخل دور العرض السينمائية إلى المملكة الموظفون الغربيون في «شركة كاليفورنيا العربية للزيت القياسي»، التي تحول اسمها فيما بعد إلى «أرامكو».

فكانوا يعرضونها في المجمعات السكنية الخاصة بهم، ثم تطورت لتُنتج في الستينيات الأفلام التلفزيونية والوثائقية القصيرة كـ فيلم «تأنيب الضمير»، وصولًا إلى انتشار دور العرض السينمائي في المدن الرئيسية بالمملكة خلال السبعينيات. لكنها لم تستمر نتيجة غياب الثقافة السينمائية بالإضافة إلى غياب البنية التحتية التي تجعل من دور السينما مثالية في السعودية، ناهيك عن رفض رجال الدين لهذا القطاع وإنتاجه بالكامل، مما أدى إلى تعثر خطواته كثيرًا، إذ كانوا يرون أنه يروج لمخالفات شرعية وانحلالية لا تتماشى مع نظام الدولة، ولا تناسب القيم المحافظة للمجتمع السعودي، وبعد أحداث اقتحام الحرم المكي في نوفمبر/تشرين الثاني 1979، تم توقيف دور العرض السينمائي عن العمل.

وبالرغم من أن فكرة افتتاح السينما في السعودية باتت صعبة جدًا مع مرور الزمن؛ إلا أن البعض لم يُقر باستحالتها، وخلال السنوات الأولى من الألفية الثالثة أشعلت بعض المحاولات الشبابية فتيل الإنتاج السينمائي شيئًا فشيئًا، ونجحوا في إيجاد فن سينمائي بإمكانه الخروج من بوتقة المنع والتشديد إلى رحابة القبول والترحيب، لكنهم لم يجرؤوا على العرض في الوطن بل خرجوا بإنتاجها إلى المحيط الإقليمي والعربي، وظهرت بعض الأفلام السعودية التي نالت استحسان المشاهد العربي، فيما وصلت بعض الأعمال إلى مهرجانات السينما العالمية، ومنها فيلم «وجدة» للمخرجة «هيفاء المنصور»، الذي تواجد ضمن الترشيحات الأولية لجائزة الأوسكار لأفضل فيلم بلغة أجنبية لعام 2013.

ذلك النجاح على المستوى المحلي والإقليمي والعالمي شجع الشباب على محاولة ترسيخ الثقافة السنيمائية المحلية، فعمدوا إلى إقامة مهرجان جدة للعروض المرئية عام 2006، ورغم أنه لم يجد قبولًا ولا ترحيبًا في دورته الأولى، إلا أنه اُعتمد تاليًا، وعرفت العروض «مهرجان جدة للأفلام»، وبات يستقطب الأعمال الإبداعية من صناعة السينما الخليجية، لكنه واجه منعًا من وزارة الداخلية السعودية في دورته الرابعة عام 2009 بعد عرض فيلم مناحي الذي وصفه رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالسعودية بـ «الشر المطلق».

هذه العقبات وقرارات المنع الحكومي، لم تُنه أبدًا شغف المنتجين والموزعين السعوديين بالإنتاج السينمائي، وقد عبر عن ذلك «فهد التميمي» رئيس لجنة السينما بجمعية المنتجين والموزعين السعوديين فكشف خلال تغريدة له، على موقع التواصل الاجتماعي «تويتر» في نوفمبر/تشرين الثاني 2011، أن محادثات مع رجال أعمال تجري للحصول على تصاريح بناء دور عرض سينمائي في السعودية، فيما كشف بعدها أحد المسئولين في هيئة الإعلام المرئي والمسموع أن وزارة الإعلام تلقت عدة عروض من مستثمرين لافتتاح دور سينما خاضعة للرقابة.


إحياء روح السينمائيين

أشاد النقاد والخبراء بقرار إعادة دور السينما إلى السعودية، واعتبره بمثابة إعادة الروح للسينمائيين، وإعادة للرغبة لتحريك عجلة الإنتاج والاقتصاد السعودي، مؤكدين أن مردوده الاجتماعي والثقافي والإنساني سينعكس على المجتمع بصورة إيجابية.

ويرى «إبراهيم البلوشي»، إعلامي وناقد سينمائي، أن مستقبل السينما في السعودية سيتجاوز النمطي إلى الإنتاج والمشاركة في هذه الصناعة، واعتمد في توقعاته على الجيل الشاب المتلهف للسينما، بالإضافة إلى المردود المادي الجيد الذي يُمكن أن يُشجع المستثمرين والحكومة على حدٍّ سواء للاستثمار في هذه الصناعة لدعم اقتصاد البلاد.

وبحسب وزارة الثقافة والإعلام السعودية، فإن البلاد ستضم أكثر من 350 دار عرض سينمائي بها ما يربو على 2500 شاشة بحلول العام 2030، وذلك وفقًا للخطة التطويرية لشركة AMC الأمريكية، التي تُعد أكبر شركة تشغيل دور عرض سينمائي في العالم.

ويقول «عواد بن صالح العواد»وزير الثقافة والإعلام السعودي:

إن السماح بترخيص أول دار عرض سينمائي في السعودية يفتح الباب واسعًا للاستثمار في هذا المجال، خاصة في ظل حاجة الشباب السعودي الملحة والتواقة لمشاهدة الأفلام السينمائية، سواء العالمية أو المحلية في وطنهم بدلًا من السفر للخارج.

وهو ما عبّر عنه بعض المواطنين الذين استطلعت آراءهم كاتبة التقرير، إذ يقول أحدهم:

إن التغييرات التي أحدثتها سياسة ولي العهد ابن سلمان، ومن بينها السماح بالإنتاج السينمائي في السعودية، من شأنها أن تُفكك المجتمع القديم الذي يمتد لأكثر من 250 عامًا، وإيجاد مجتمع جديد قادر على المواكبة الاعتيادية للحياة الطبيعية، بعيدًا عن المنع والحجب، وسيؤدي إلى شراكة حقيقية مع العالم في الثقافة والتأثير والحداثة.

ويُشير الرجل الذي يعمل أكاديميًا في إحدى الجامعات السعودية، إلى ضرورة مرافقة كل التغييرات بعمليات مراقبة محكمة وسليمة للوصول إلى التطوير الإيجابي بعيدًا عن الإسفاف.

فيما حدثتني الطبيبة «غادة»، بأن الهدف من افتتاح دور العرض السينمائي في المملكة أبعد من مجرد التسلية والترفيه، بل إنه جزء من سياسة اقتصادية يسعى خلالها ابن سلمان إلى زيادة إنفاق المواطن السعودي على الأنشطة الثقافية والترفيهية، واسترداد جزء كبير من قيمة ما ينفقه السعوديون حاليًا في الخارج لحضور الحفلات الغنائية والسينمائية وزيارة الأماكن الترفيهية في الدول المجاورة.


لماذا اختفت فتاوى التحريم؟

سبب أساسي ومباشر في منع السينما منذ سبعينيات القرن الماضي، كانت سلسلة الفتاوى الدينية التي أصدرتها هيئة كبار العلماء السعودية، وقضت بتحريمها لما تُثمره من مفسدة في الدين والأخلاق؛ لكن على ما يبدو أن هذا السبب بدأ في التلاشي، وتمت السيطرة على أفواه العلماء بعد القرار الملكي بإعادتها ضمن خطة 2030، والإيعاز لرئاسة الإفتاء بالسعودية لـ «مراجعة الفتاوى الموجودة على موقعها الرسمي،وأرشفة الفتاوى الاجتهادية التي بُنيت على عرف تغير أو مصلحة زالت»، وذلك عبر الاستعانة ببعض المؤهلين من أساتذة الجامعات أو غيرهم، بما يُمكِّن اللجنة الدائمة للفتوى من التعديل وتطوير الموقع علميًا وتقنيًا، بما يتناسب مع رؤية ولي العهد الذي يُريد أن يُحول البلد إلى بلد «منفتح».

وطيلة السنوات الماضية التزمت السعودية بفتوى التحريم القطعي لدور السينما التي أصدرها الشيخ عبد العزيز بن باز والتي تنص على:

ورغم توالي فتاوى التحريم على ألسنة المشايخ والدعاة إلا أن المفتي الحالي الشيخ «عبد العزيز آل الشيخ» سجل انعطافة لصالح ولي العهد محمد بن سلمان، ورغم تقريره بأنها محرمة وكلها فساد للأخلاق إلا أنه وافق ضمنيًا على افتتاحها، فيما لم تُدلِ هيئة كبار العلماء بموقف رسمي حول إعادة افتتاح دور العرض السينمائي، كونها لا تُريد أن تُصدر حكمًا مسبقًا على محتوى لم تره بعد، فهي تعتبر أن محل النقاش ليس دور العرض وإنما محتوى ما يُعرض فيها.

وبحسب تقارير صحفية، فإن هيئة كبار العلماء تحوي آراء مخالفة من افتتاح السينما، إلا أنها مهمشة ولا تغير المعادلة في ظل سياسة الانفتاح التي يُطبقها محمد بن سلمان، ما يُعجل بإمكانية اصطدام التيار الإسلامي بالسلطة.


العرض الأول: مكاسب مالية للدولة

إن السينما تجمع شرًا كثيرًا، ولو وجُدت سينما سليمة ليس فيها ما يخالف الشرع المطهر لم تحرم.

حالة الشغف بدخول السينما لحضور العرض الأول الذي أعلنت عنه شركة AMC أول مشغل لدور السينما في المملكة، سرعان ما تبددت بسبب كلفة التذاكر التي فاقت الـ 50 ريالًا سعوديًا أي ما يُعادل 13 دولارًا، وعلى إثرها ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بمطالبات شبابية لمقاطعة الفيلم كون أسعار التذاكر لا تتناسب مع الامكانيات المادية لأصحاب الدخل المتوسط والمحدود واقتصارها على ذوي الدخل العالي، معتبرين أن ذلك استغلال للمواطن هدفه تحقيق مكاسب مالية للدولة على حسابه.

وبحسب مغردون فإن تذكرة السينما تجاوزت الـ 75 ريالًا سعوديًا، وهو مخالف للسعر الذي أعلنت عنه الشركة المشغلة والتي قالت أنه لا يتجاوز الـ 50 ريالًا، مؤكدين أن الأسعار تجاوزت أسعار دور السينما حول العالم.

ورأى الكاتب السعودي «خالد السليمان» أن العرض الأول في السينما السعودية شكّل حالة من الإحباط لدى الجماهير التي كانت متحمسة للعرض، والسبب في رأيه ليس فقط ارتفاع أسعار التذاكر والتي وصلت إلى 75 ريال سعودي، وإنما أيضًا بسبب عدم تجهيز صالات السينما، مؤكدًا أن صالة العرض عبارة عن قاعة محاضرات تفتقر للتجهيزات السمعية والمؤثرات التي تميز العروض السينمائية. وأضاف:

إن العنصر الأساسي في السينما هو المؤثرات البصرية والسمعية وهو ما كان مفقودًا…ربما ظن المنظمون أن تقديم «الفيشار» يكفي لإعطاء أجواء العروض السينمائية، لكنهم أخطأوا.

لا أحد يعرف إلى أين ستقود «تجربة ابن سلمان التحديثية» المملكة، ولكن من المؤكد أنها عبرت بها إلى حقبة تاريخية جديدة، إلى غير ذات رجعة.