لا تزال ثورة 1919 المجيدة هدفًا لسياسات العدوان على الذاكرة الجماعية للمصريين، ولكل المهتمين بها، ولم تسفر البحوث والدراسات عن تلك الثورة منذ اندلاعها قبل مائة سنة وإلى اليوم عن إجماع وطني أو ما يشبه الإجماع الوطني حول السردية الكبرى لها. ومن ثم لم تستقر في الذاكرة الجماعية للمصريين حتى اليوم أيضًا رواية مركزية تتسم بالشمول والإلهام والعدالة والإنصاف، لا عن التوصيف العام لثورة هائلة قامت ضد الاحتلال الأجنبي والاستبداد الداخلي في آن واحد، ولا عن مقاصدها الكبرى، أو حتى عن زعمائها التاريخيين، وعما قامت به الفئات الاجتماعية المختلفة في صنع أحداثها.

هل كانت ثورة 1919م علمانية أم إسلامية؟ وهل كانت حدثًا قوميًا عربيًا إقليميًا منفتحًا، أم مصريًا وطنيًا منعزلًا؟ وهل كانت ثورة من أجل التحرر الوطني من المحتل البريطاني، أم من أجل بناء الوحدة الوطنية بين المسلمين والأقباط؟ أم كانت ثورة من أجل الاستقلال الحضاري الشامل؟

هذه التساؤلات وما يشبهها، لا تزال عالقة بين حدَّي نعم، ولا. ولم تتكون منطقة وسطى ومركزية تتجمع فيها حصائد البحوث والدراسات حول الكليات الكبرى لهذه الثورة في الذاكرة الجماعية للمصريين؛ بحيث تتوارثها الأجيال المتعاقبة دون أن تعشش فيها الشكوك المهلكة، ودون أن تدميها سياسات تشويه الذاكرة وتزييف التاريخ. ولا أظن أن هذه الحالة المرضية سوف نتمكن من الخروج منها في المستقبل القريب، ما لم نتمكن من معالجة الأسباب التي أنتجتها ولا تزال تعيد إنتاجها.

يسعفُنا في التعرف على أهم تلك الأسباب من مفاهيم التراث السياسي الإسلامي؛ مفهومان متقابلان هما: «السياسة العادلة» و«السياسة الظالمة». أما الأولى فهي تخرج الحق من الظالم، وتدفع كثيرًا من المظالم، وتردع أهل الفساد، ويتوصل بها إلى المقاصد الشرعية. وأما الثانية فالشرع يحرمها؛ لأنها تضيع الحقوق، وتعطل الحدود، وتجرئ أهل الفساد، وتعزز نزعات الانقسام والعناد.

ويسعفنا في هذا الموضوع ذاته واحد من مفاهيم العلوم الاجتماعية والسياسية الحديثة، وهو مفهوم «سياسة الذاكرة»؛ وهو مشتق من مصادر معرفية متعددة، منها: الحقل الفلسفي، وبعض النتائج التي كشفت عنها معامل علم النفس العلاجي (حالة المريض هنري مولايسون)، وعلم النفس الاجتماعي. ثم وَجَدَ هذا المفهوم طريقه لكثير من فروع العلوم الاجتماعية والعلوم السياسة المتطورة في عديد من بلدان العالم، ليس منها بلداننا العربية، ولا حتى مصرــ حاشا لله التي لا تزال جامعاتها تقلد نظريات سياسية واجتماعية عتيقة وتجترها بعد أن عفى عليها الزمن منذ زمن.

ورغم أهمية الطروحات الفلسفية والاجتماعية في التأصيل النظري لمفهوم «سياسة الذاكرة»، إلا أن النقلة النوعية الأخطر في هذا الميدان جاءت من معامل التحليل النفسي، حيث استخدم الباحثون طريقةً تسمى «علم الجينات الضوئي – Opto-genetics»، وبموجب هذه الطريقة يتم التحكمُ بالخلايا في النسيج الحي بواسطة الضوء؛ وذلك بهدف حث خلايا معينة على إفراز كميات معينة من مادة تسمى «الأستيل كولين»، وفي النهاية استطاعوا حذف الذاكرة التي تسببت بالخوف. ولكنهم اكتشفوا أيضًا من التجربة أن الذاكرة فقدت الكثير من مخزونها، ومن هناك شرعوا في البحث عن طريقة أخرى لعلاج الخوف والنوبات العصبية بأساليب غير دوائية، وأيضًا للتأثير على الذكريات بشكل دقيق.

وبفضل تلك الخبرة المعملية والنظرية وأمثالها اكتشف علماء السياسة والاجتماع مركزية الذاكرة في مختلف النظم السياسية، ديمقراطية كانت أم ديكتاتورية، لكن ليس لأن الذاكرة مجرد أداةً طيعة في يد السلطة السياسية لتبرر بها وجودها وتنشط أيديولوجيتها حسب ما تراه في ضوء ضغوط الواقع، بل أيضًا لأنها أحد مكونات الفعل السياسي الرسمي الذي يسخِّر أجهزة الدولة الأيديولوجية في خدمة السلطة واختياراتها، إلى الحد الذي يجعلها تتحكم في ثقافة التذكر والسلوك السياسي الناجم عنها أو المرتبط بها.

في مدارس العلوم السياسية المتطورة خارج بلادنا، يكاد مفهوم «سياسة الذاكرة» يصبحُ فرعًا قائمًا بذاته من فروع علم السياسة والعلوم الفلسفية والاجتماعية، بمداخلها المعرفية المتعددة. ويرجع الباحثون في هذا الموضوع بكثرة إلى كتابات كل من موريس هالبفاكس مؤلف كتاب «نظرية الذاكرة الجمعية»، وبول ريكور مؤلف كتاب «نظرية الذاكرة المُتلاعب بها»، وهو أيضًا صاحب كتاب «الذاكرة التاريخ النسيان»، ويان أسمن مؤلف كتاب «نظرية الذاكرة الحضارية»، وهلموت كونيش مؤلف كتاب «نظرية الذاكرة السياسية»، وساندرا هيل أستاذة علم الاجتماع في جامعة ولاية كاليفورنيا وصاحبة المؤلفات المتعددة في نقد سياسات النظم الاستبدادية التوتاليتارية.

تحالفت علةُ الأَدلجة مع علةِ الاستبداد في تمزيق التوصيف العام لثورة 1919 في الذاكرة الجماعية للمصريين؛ بين كونها ثورة علمانية في رأي البعض، وإسلامية في رأي البعض الآخر. وبين كونها أضخم عامل فعال في بناء القومية المصرية، وكونها لحظة تجلي الهوية الإسلامية الجامعة للمصريين.

ومن الأسف الأسيف أن أغلب أساتذة العلوم الاجتماعية والسياسية في الجامعات المصرية والعربية باستثناءات قليلة؛ لم يفلحوا حتى الآن في تطوير فكرة أصيلة في هذا المجال ليدرسوها لطلابهم، لا بالاستناد إلى المرجعية المعرفية التراثية التي تركز على مفهومي العدل، والظلم، ولا بالرجوع إلى طروحات «سياسة الذاكرة» في مدارس العلوم الاجتماعية والسياسية الأوروبية والأمريكية، بل إن أغلبهم قد لا يكون سمع عن مفهوم سياسة الذاكرة وتطبيقاته السياسية أساسًا؛ لأنه لا يزال مستغرقًا في النقل والترجمة من كلاسيكيات تلك العلوم من أمثال: ماركس، ودوركايم، وماكس فيبر، وموريس دوفرجيه، وباريتو، وموسكا، وميشلز، وغرامشي، وألموند، وديفيد إيستون، وهلم جرا من أمثالهم.

أنا أبعد ما أكون -لأسباب كثيرة شرحتُها في مناسبات أخرى- عن الدعوة لتقليد طروحات أساتذة العلوم الاجتماعية والسياسية خارج بلدان الأمة الإسلامية ومجتمعاتها، وتفسير أحوالنا بنقل نظرياتهم. ولهذا غالبًا ما أقدم المفاهيم الأصيلة والمشتقة من واقع مجتعاتنا المعاصرة على غيرها من المفاهيم الوافدة أو المستوردة. وأحيانًا لا أرى بأسًا من توظيف بعض المفاهيم الوافدة إذا كانت أكثر مباشرة، وبشرط أن تتفق مع المفاهيم الأصيلة في تفسير الظواهر وتعليلها وطرح بدائل لمعالجتها.

وبالعودة إلى حالة ثورة 1919م في الذاكرة الجماعية اليوم، تسعفنا مفاهيم «سياسة الذاكرة»، و«السياسة العادلة» و«السياسة الظالمة»، في تفسير وتعليل هذه الحالة السابق وصفها. فهذه الحالة التي تفتقد الإجماع الوطني، وتفتقر حتى اليوم إلى سردية كبرى لا منازعة فيها بشأن تلك الثورة، مردها إلى علتين مزمنتين: علة الأدلجة، وعلة الاستبداد. وقد فعلت هاتان العلتان فعلهما في كتابة تاريخ الثورة، ولا تزالان تفعلان فعلهما في كتابة وقائع التاريخ المصري من ثورة 1919م إلى ثورة 2011م.

تحالفت علةُ الأَدلجة مع علةِ الاستبداد في تمزيق التوصيف العام لثورة 1919 في الذاكرة الجماعية للمصريين؛ بين كونها ثورة علمانية في رأي البعض، وثورة إسلامية في رأي البعض الآخر. وبين كونها أضخم عامل فعال في بناء القومية المصرية، في رأي مؤرخ كبير مثل أحمد عزت عبد الكريم، وكونها لحظة تجلي الهوية الإسلامية الجامعة للمصريين كما في رأي مؤرخ كبير آخر هو زكريا سليمان بيومي، وكما في رأي كُتاب كبار أيضًا مثل محمد محمد حسين، وأنور الجندي. وبين كونها لحظة توهج الوطنية المصرية الخالصة من أي انتماء آخر كما صورها لويس عوض مثلًا، وكونها لحظة التعبير عن الانتماء القومي الأوسع لمصر كما صورها الرافعي مثلًا. في حين أن النظر الموضوعي يفضي بصاحبه إلى أنها ثورة حضارية شاملة، تعبر عن الهوية الحضارية، والكرامة الثقافية، والحرية، والاستقلال التشريعي والسياسي معًا كما أوضحنا في مقالنا السابق.

وهذا الحلفُ بين علَّتي الأدلجة والاستبداد هو الذي شوَّه أيضًا زعماء الثورة في ذاكرة المصريين، وفي مقدمة من جرى تشويههم سعد باشا زغلول. وعملت «سياسة الذاكرة» بأدواتها العدوانية على حذف ما يشهد له بالإخلاص والإيمان بالإسلام، وبعظمة النظم الإسلامية ومنها نظام الخلافة، ونظام الوقف مثلًا، ودفاعه المجيد عن نظام الوقف في البرلمان، وقيامه هو نفسه بوقف جميع أملاكه بما في ذلك بيت الأمة، كي يصبح بيت الأمة على حكم ملك الله تعالى، كل ما من هذا القبيل جرى حذفه. كما عملت سياسة الذاكرة أيضًا بأدواتها الاستبدادية الإقصائية على تنزيه سعد من كل عيب ونقص، وجعلته فوق مستوى البشر ولا يجوز عليه الخطأ.

إن أغلبية النخبة من الأكاديميين والمثقفين والأدباء والإعلاميين والسياسيين والفنانين لم تنجح حتى اليوم في أن تجترح سياسة للذاكرة الجماعية تتسم بالعدالة والاستقامة.

والذي حدث هو أن خصومَه السياسيين منذ انقسام الوفد والأحرار الدستوريين رمَوْهُ بكل نقيصةٍ، وأن سعدًا نفسه وأنصاره بدورهم لم يوفروا من خصومهم أحدًا. وعمد كلُّ فريقٍ إلى شطب الفريق الآخر من الوعي العام بكل وسيلة وصلت إليها يده؛ كلما وصل هو إلى السلطة طوال العهد الملكي، حتى إذا قام انقلاب/ ثورة يوليو/ تموز 1952م تولت الجماعةُ الحاكمة الجديدة مهمة شطب الجميع، وإزاحة كل السابقين، وبدء كتابة التاريخ من ليلة 23 يوليو. ووظفت أجهزة الدولة الأيديولوجية كلها: من تعليم وثقافة عامة، وإعلام ومتاحف، وأعياد، واحتفالات ومهرجانات؛ كل ذلك من أجل إثبات ذات واحدة فقط حلت مكان شركاء ثورة 1919 جميعًا، وهذه الذات هي شخص الزعيم، حتى لو جلبت زعامته للوطن هزيمة بحجم كارثة 1967م.

والحلفُ ذاته بين علتي الأدلجة والاستبداد، هو الذي قام على تشويه أدوار القوى الاجتماعية التي شاركت في ثورة 1919م، فطمسَ أدوارًا وضخَّم أخرى. فالدور المركزي الذي لعبته المساجد والدعوة إلى الجهاد ضد المحتل الأجنبي، وإسهامات نساء مصر من مختلف الفئات واجتماعهن في المساجد بطول مصر وعرضها، وكون طلبة الأزهر الشريف هم أول من وضع الصليب إلى جوار الهلال في علم واحد، وغير ذلك مما نجده مثلًا في يوميات الشيخ عبد الوهاب النجار عن الثورة في كتابه «الأيام الحمراء»؛ قد طمسه المؤرخون العلمانيون وحذفوه حذفًا، في حين قام بعض الذين كتبوا عن دور الأقباط في السياسة المصرية بتضخيم مشاركتهم في ثورة 1919، ليس لكونهم من عموم المصريين، وإنما لكونهم أقباطًا، وهذا بخلاف واقع الحال كما نقرأه في الكتابات التاريخية التي ابتعدت عن الأدلجة، والتزمت سياسة العدالة في بناء الذاكرة الجماعية عن الثورة، وهي كتابات نادرة، وهي تؤكد على أن حذف مشاركة الأقباط في الثورة أو تهميشها ليس عدلًا، بل هو مناقض للرؤية السياسية الإسلامية ذاتها، ولكن تضخيم تلك المشاركة وحذف مشاركة قوى اجتماعية أخرى هو عين الظلم، لأنه تزييف للوعي وتشويه للذاكرة.

وأهم هذه الكتابات التاريخية الحكيمة على الإطلاق كتابات الحكيم طارق البشري، ومنها كتبه: «سعد زغلول يفاوض الاستعمار»، «الحركة السياسية في مصر 1945، 1952»، و«المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية»، وغيرها من مؤلفاته التي لا تزال تقف وحيدة مع عدد قليل من الدراسات التي انتهجت سياسة عادلة في بناء الذاكرة المصرية من خلال الوقائع الكبرى بدءًا بثورة 1919م. وحتى عندما شعر المستشار البشري أنه قد غابت عنه حقيقة إسهامات إحدى جماعات الحركة الوطنية خلال العهد الملكي في قضية الاستقلال والتحرر من الاستعمار، عاد وصوَّب موقفه، في حالة نادرة الوقوع بين المؤرخين، وأعاد إصدار كتابه المرجعي عن الحركة السياسية في مصر بمقدمة جديدة، تشهد بأن كاتبها «رجل عرف زمانه واستقامت طريقته» كما يقول أهل التصوف.

ما سبق يقوم دليلًا على استبدادية الثقافة السياسية السائدة في الحياة المصرية الحديثة والمعاصرة. ويقوم دليلًا كذلك على أن أغلبية النخبة من الأكاديميين والمثقفين والأدباء والإعلاميين والسياسيين والفنانين لم تنجح حتى اليوم في أن تجترح سياسة للذاكرة الجماعية تتسم بالعدالة والاستقامة. ولا هي نجحت في أن تجعل من سياسة الذاكرة بهذا الوصف سياسةً عمومية، معيارها العدالة في القول، استجابة لقول الله تعالى: «وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ۖ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (الأنعام. من الآية: 152).

لم تنجح تلك النخبة في شيء من هذا إلا القليل النادر. واندرجت بأغلب مكوناتها في سياسات عدوانية على الذاكرة الجماعية. وقد أسست السلطة الاستبدادية لهذه السياسة واستمرأتها هي الأخرى من أجل احتكار السياسات الرسمية لبناء الذاكرة وإحاطتها بجدار سميك من الرهبة والترهيب، ووضعت عليها حرسًا مدججًا بكل أنواع أسلحة النفاق والتزييف؛ حتى غدت أغلبية أدوات بناء الذاكرة العمومية مثل: الأعياد القومية، والاحتفالات، والمتاحف، وكتب التاريخ في المدارس، والفنون والروايات والأفلام الوثائقية، كلها موظفة في سياسات عدوانية على الهوية الجماعية، وعلى ما هو مشترك بين أبناء المجتمع.

وقائع التاريخ الحديث والمعاصر أثبتت أن سياسات العدوان على الهوية والذاكرة الجماعية لأي شعب، بما في ذلك الشعب المصري؛ يمكن أن تبوء بالفشل الذريع في نهاية المطاف.

فالاحتفال أو العيد أو الفيلم أو المقرر الدراسي أو المناسبة القومية التي تحرص السلطة الاستبدادية على أن تضفي عليها طابعًا مهيبًا، هي تعبر عن المجد بالنسبة للبعض، وتعبر عن المذلة والإهانة للبعض الآخر الذين تم حذفهم أو تهميشهم بإرهاب الأيديولوجية وبسياط الاستبداد. حتى صار من المضحكات المبكيات أن ينفرد حزب الوفد بالاحتفال بعيد الجهاد لإحياء ذكرى ثورة 1919 في غرفة مغلقة من غرف مقر الحزب! وكذلك الحال بالنسبة لذكرى سعد باشا، ناهيك عن إسقاط مجرد إشارة إلى زعماء آخرين من أمثال والد الشيخين: أحمد ومحمود، أقصد الشيخ محمد شاكر وكيل الأزهر وقائد الثورة في مفاوضاتها مع المعتمد البريطاني أثناء غياب سعد باشا في المنفى.

ولا يستسلمُ تحالف الأدلجة والاستبداد في الأنظمة القمعية بسهولة لسياسات إصلاح الذاكرة الجماعية عندما تظهر؛ بل يحشد كل أسلحته من أجل استمرار احتكار عمليات صنعها وتسفيه دعاوى المعارضين عن الماضي وعن الحاضر أيضًا، وعبر سياسات الإبقاء على الماضي الزائف؛ حتى لو أدى ذلك لتشويه الهوية الوطنية جملة وتفصيلًا، وحتى لو أدى ذلك إلى استمرار حروب الذاكرة بين أبناء المجتمع الواحد، وحتى لو استنزفت سلطات الاستبداد كل موارد الدولة لتمويل أدواتها وأجهزتها الأيديولوجية في تمويل سياسة العدوان على الذاكرة والهوس الاحتفالي بإنجازاتها الوهمية، وتغييب أسماء بعض أبطال الأحداث، والأماكن، وطمس بعض المعالم التاريخية، وحظر خطاب بعينه، وفرض تعاليم وطنية ودينية معينة، وما إلى ذلك من سياسات مصممـة، خصيصـًا، لاختراع ذاكرة بديلة، ولفرض النسـيان بالعنف على المجتمع بأسره.

واكتشفت سلطات الاستبداد أيضًا أن التكنولوجيا الرقمية يمكن أن تسهم بفاعلية في إتلاف الذاكرة الجماعية فلم تتوان عن تسخيرها هي الأخرى لفرض النسيان بالقوة، في محاكاة مأساوية وعلى نطاق مجتمع بأسره لما حدث مع المريض النفسي هنري مولايسون.

ولكن وقائع التاريخ الحديث والمعاصر أثبتت أن سياسات العدوان على الهوية والذاكرة الجماعية لأي شعب، بما في ذلك الشعب المصري؛ يمكن أن تبوء بالفشل الذريع في نهاية المطاف، وذلك عندما تنهض قوى الإصلاح الأصيلة وجماهيرها في مواجهة سياسات أي نظام قمعي يعتدي على الذاكرة الجماعية، وذلك إما بجهود تهدف لإعادة اكتشاف قصص الماضي وتصويب سرديته التاريخية، أو تهدف لدحض الأباطيل التي روجتها السلطة في وقت ما، أو لإزاحة ما أحدثته من تزييف وتشويه. فهل يتحقق هذا الحلم على الأقل بالنسبة لموروث الذاكرة المشوهة عن ثورة 1919م، حتى لا يظل الماضي التاريخي لهذه الثورة العظيمة موضوعًا لتأويلات تتصادم وتحترب فيما بينها وتغذي سياسات العدوان على الذاكرة الجماعية للمصريين؟

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.