يعتنق مئات الملايين في جنوب وشرق آسيا الديانة البوذية، وبينما ينتشر مذهب الماهايانا في بوتان ونيبال والصين وكوريا واليابان وفيتنام، يتبع مذهب ثيرافادا أغلبية السكان في سريلانكا ودول الهند الصينية كتايلاند ولاوس وميانمار (بورما) وكمبوديا. وتشهد هذه المنطقة الأخيرة صعودًا كبيرًا لتيار بوذي متطرف يتبنى العنف لتحقيق أهدافه، ويستهدف الأقليات بالتحريض والإساءة، متجاوزًا المبادئ التي اشتهرت بها البوذية عالميًّا، والتي ترتبط بالهدوء والروحانية والتأمل والصفاء النفسي وتمارين اليوجا.

 البداية من ميانمار

في ميانمار نجح عدد من الرهبان المتعصبين في حشد الرأي العام خلفهم لتخويف الأغلبية التي تمثل 88% من السكان من خطورة تزايد عدد الأقلية المسلمة التي لا تتعدى قرابة 5% من مجموع المواطنين، يتوزعون على عرقيات وأماكن مختلفة، وأطلقت «حركة 969» البوذية المتطرفة حملة كراهية ضد المسلمين، وركزت على أقلية الروهينجا التي تقطن ولاية راخين، وشهدت الحملة تصاعدًا كبيرًا عندما تحالفت المنظمة مع جنرالات الجيش القوميين، وأصبحت قضية خطر الروهينجا راية تحشيد الجماهير البوذية خلف الحركة التي نادت بتقديس النواب المقربين من الجيش بنفس درجة تقديس «بوذا».

وسطع اسم الراهب آشين ويراثو بين الجماهير البوذية بخطابه الحماسي الملتهب، وهو يشكو دائمًا من التكاثر فائق السرعة للروهينجا الذي يهدد بتحويل ميانمار إلى دولة إسلامية! واشتهر بلقب “بن لادن البوذي” بسبب اتهامه برعاية هجمات إرهابية ضد الروهينجا، وحُوكم عام 2003 وسُجن بسبب نشاطاته التحريضية، وحكم عليه بالسجن لمدة 25 عامًا، وأُفرج عنه عام 2012، فواصل حملاته وخطبه النارية التي تمتلئ بالشتائم، ليس للروهينجا فقط، بل لكبار السياسيين الذي لا يوافقون آراءه، فهو يدعو لمنع زواج المسلمين من البوذيات، ويدعو لإبادة وجود الروهينجا، ويتهم المسلمين بأنهم يتحكمون في وسائل الإعلام العالمية! وفي نفس الوقت يفتي بتحريم قتل البعوض، بل يدعو إلى إطعامه.

وتوثقت عُرى التحالف بين جنرالات الجيش والرهبان المتعصبين بعد زيادة الضغط عليهم داخليًّا وخارجيًّا للتحول الديمقراطي، ووصلت هذه الضغوط ذروتها إبان ثورة الزعفران عام 2007 التي ساندتها المؤسسة الدينية البوذية وقمعها الجيش، وبعد ذلك تلقى الجناح الديني الأكثر راديكالية دعمًا من الجنرالات وأصبح ظهيرًا شعبيًّا لهم، ففي عام 2013، وصف ثين سين، رئيس ميانمار آنذاك، ويراثو بأنه «ابن بوذا»، وأعلن دعمه لتياره المتطرف.

أسس ويراثو منظمة جديدة خاصة به اسمها «ماباثا» في عام 2014، وانتشرت بسرعة في جميع أنحاء البلاد قبل حظرها عام 2017، منعته أعلى سلطة بوذية في ميانمار من الوعظ الديني لمدة عام بسبب الشتائم التي يتفوه بها، لكنه بعد انتهاء الحظر عاد مرة أخرى للمشاركة في التظاهرات القومية التي كان يستغلها لكيل تهم الفساد للحكومة، واعتُقِل عام 2020 بسبب مهاجمته لأونج سان سوكي، مستشارة الدولة في ميانمار، لكن المجلس العسكري في ميانمار أطلق سراحه في سبتمبر/أيلول، وذكر بيان صادر عن المجلس أنه تم إسقاط جميع التهم الموجهة إلى ويراثو، وأنه يتلقى العلاج في مستشفى عسكري.

وكانت فترة حكم أونج سان سوكي، الحائزة على جائزة نوبل للسلام، ما بين عامي 2016 و2021، من الفترات التي اشتعلت فيها دعوات التطرف البوذي بشكل غير مسبوق، فقد انخرط أتباع ويراثو في مجازر ضد الروهينجا في ولاية راخين بمساعدة الجيش، بلغت ذروتها عام 2017، مما تسبب بنزوح أكثر من مليون شخص إلى بنجلاديش المجاورة، وتنافست سوكي والجيش على التحريض ضد الروهينجا لدواعٍ تتعلق بالحشد السياسي، فالجيش سعى للمزايدة على أنصار سوكي عبر تأجيج العنف الطائفي ليحصر الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية بين خيار انهيار الدعم الشعبي لها بين البوذيين الذين يشكلون الأغلبية مما يسمح بعودة الجيش إلى السلطة، وبين خيار التواطؤ معه في إبادة الروهينجا، وهذا من شأنه تدمير سمعة سوكي والإضرار بالمـُثل التي تنادي بها، واختارت سوكي الخيار الثاني.

«القوة البوذية» الدولية

ومع تصاعد جماهيرية التيار المتطرف أُسِّست منظمة شبيهة بـ «ماباثا» في سريلانكا اسمها «القوة البوذية» في عام 2014 ، وفي نفس العام زار ويراثو الجماعة الجديدة وعقد اتفاقًا مع ثيرو الأمين العام للجماعة على تأسيس «القوة البوذية الدولية»، التي تعني بناء تيار بوذي متعصب عابر للحدود، و”إيجاد طرق عملية للتعامل مع القضايا الساخنة التي لا يجوز تركها للسياسيين”، وبعدها توجه ثيرو إلى ميانمار لاستكمال خطوات التنسيق بين المجموعتين.

وتتشابه الظروف السياسية في ميانمار وسريلانكا بشكل كبير؛ فكلا النظامين ذو طابع عسكري، ففي الأولى نفذ الجيش انقلابًا في فبراير/ شباط الماضي، بينما يقود الثانية الجنرال راجاباكسا منذ عامين، وكلا النظامين متهم بجرائم حرب مروعة ضد الأقليات، ومتهم شعبيًّا كذلك بالخضوع للصين.

كما أن كلا الدولتين لم يواجها أي تهديد إسلامي مسلح يستدعى نشأة تلك الحركات اليمينية المتطرفة، فالأقليتان المسلمتان لديهما تتحليان بالسلمية، حتى إن واقعة الهجوم على مراكز الشرطة في ميانمار في أغسطس/ آب عام 2017 لم تكن مدعومة من المجتمع المحلي المسلم، بخلاف الأقليات الأخرى المضطهدة في تلك المناطق التي تعيش في حالة من الفوضى، وتنتشر ميليشيات انفصالية أنشأتها عرقيات تشعر بالاضطهاد مثل جيش أراكان الذي يقاتل في ولايتي راخين وكاشين، لكن الروهينجا المسلمين الأكثر اضطهادًا لم يتبنوا فكرة الكفاح المسلح، ولم يشكلوا أذرعًا عسكرية إلى اليوم رغم المجازر التي تعرضوا لها، وكذلك الحال في سريلانكا التي لم يُقـْدم مسلموها على إنشاء كيانات مسلحة في ظل الحرب الأهلية بين البوذيين والتاميل الهندوس، رغم أنهم اصطلوا بنار تلك الحرب كثيرًا، كما رفضت كل أطيافهم تفجيرات الكنائس في أبريل/نيسان 2019 التي أعلن تنظيم داعش الإرهابي مسئوليته عنها، ولاحقًا وجه الرئيس ميثريبالا سيريسينا الاتهام لمافيات تهريب المخدرات العالمية بالضلوع في تلك الهجمات.

ويمثل انتشار هذا التيار إلى باقي دول الهند الصينية وجنوب آسيا انطلاقًا من ميانمار وسريلانكا، تهديدًا كبيرًا للسلم في المنطقة، خاصة في تايلاند التي لم يكن للبوذية حضور سياسي كبير يوازي مكانتها الروحية لدى الغالبية الساحقة من المواطنين، لكن يبدو أن قطاعًا من الرهبان المتأثرين بتيار التطرف الصاعد في جوارهم الغربي لم يعودوا يقنعون بذلك، بعدما امتدت الدعوة إليهم وحضر بعضهم لقاءات خاصة بجماعة ماباثا في ميانمار التي تشترك معهم في مذهب ثيرافادا وقدموا لها تبرعات.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن الأقلية المسلمة في جنوب تايلاند تسعى للحصول على الحكم الذاتي في المنطقة التي كانت تمثل تاريخيًّا مملكة فطاني الإسلامية، وينتمي سكانها للعرق الملاوي ويتحدثون الماليزية، وقد قـُتل الآلاف منهم في صراع دامٍ امتد لسنوات، اتهمت فيه منظمة العفو الدولية الجيش التايلاندي بارتكاب انتهاكات مروعة بحقِّ المسلمين، وهو صراع شاركت فيه مجموعات مسلحة من الرهبان البوذيين، لكن تحت قيادة الجيش التي حولت معابدهم في الجنوب إلى ما يشبه المواقع العسكرية.

وفي ظل حكومة برايوت تشان أوتشا، قائد سابق للجيش، الذي يحكم البلاد منذ قيامه بانقلاب عسكري عام 2014، ينمو تيار سياسي بوذي كان من ثماره تصاعد مطالبات بتضمين الدستور مواد تحفظ مكانة البوذية، وظهور مجموعات مثل «مؤسسة معرفة بوذا» التي تدعو إلى نشر المفاهيم البوذية في المجتمع، وسن قوانين تضمن مزيدًا من الالتزام بالتعاليم الدينية.