في فيلمه «يوميات راهب في الريف»، يعاني البطل من ضعف جسدي ومرض سيمتد لنهاية حتمية بالموت، وسط صراع بين الراهب وما يحدث حوله في العالم، كيف أن الدين في هذا العصر يفقد حيوية رموزه شيئًا فشيئًا، وما يحدث هو مجرد تظاهر بالتمسك بالفروض الدينية دون فهم معناها، عند بريسون هذا هو جوهر العصر –بمعنى فقد الوحدة العضوية- انفصال الأشياء عن بعضها وفقدان تناغمها، انفصال الأشياء عن معناها، ارتباط الناس بالطقوس دون القلب جعل منهم مسوخاً يعيشون حياة كاملة من الكذب دون أن يكون عندهم فكرة عن الحياة الحقيقية، ما يحدث للراهب هو تحلل جسدي وروحي يحدث على مدار الفيلم إلى أن ينتهي من هذا العالم الفاقد لتناغمه، هؤلاء البشر لا ينصتون ولا يبصرون، لذلك في لحظة ما كان الراهب نفسه يدفع بموته بشكل واع ولا واع.

كيف كان هذا العمل هو حجر الأساس لمشروع بريسون بعد ذلك، أتكلم عن ارتباط المفهوم بالوسائل التي تحقق بها العمل، كيف ارتبط مفهوم «الوحدة العضوية» و«تناغم العالم» بالسينما ذاتها عند بريسون، ما حدث في هذا الفيلم هو استخدامه لأسلوب المنيمال في حكي الحكاية وإخلاصه لصراع الراهب، ولكن ما سوف يحدث بعد ذلك في أفلامه هو جعل هذا الأسلوب هو الحكاية، لمعرفة أقوى بالسينما كفن مستقل، له مفرداته ووسائله، عالم يتناغم فيه الصوت مع الصورة مع الحركة في عالم عضوي خاص بهذا الفن، فن معبر عن تلك المرحلة من الحضارة، وهو الأفضل في التعبير عن مدى تعقد وتشابك صراع الإنسان الحديث وانفصاله عن محيطه وعالمه وحتى أقرانه… عند هذه اللحظه كانت الأزمة عند بريسون في العالم هي ذاتها الأزمة في السينما… وهي فقدان الارتباط العضوي والتناغم.

يصف بريسون إحدى طرقه للتعامل مع الممثل (الموديل) في كيفية نطق الحوار السينمائي فيقول:

أنا أجعل الممثل يعيد سطور الحوار أكثر من 50 مرة وفي بعض الأحيان أكثر من ذلك، هدفي من هذا التكرار هو محو أي دور للعقل– للتفكير أو التذكر –للحوار أو للتدبر في ما يقال، أريد أن تصدر هذه السطور بتلقائية ذاتية من (الموديل)، هذا هو ما يجعل الأداء أقرب للحقيقي.

من خلال هذه السطور نستطيع أن نبني بعض الأشياء حول طريقة عمل الأستاذ، مبدئياً هو يبحث عن تناغم ما، بين المؤدي وطريقة تعبيره، بل استخدام اللغة في حد ذاتها، بريسون لا يستخدم اللغة لتكشف شيئاً جوهرياً في الشخصية، هو يستخدمها كما يستخدمها الإنسان البدائي، الكلمات نفسها لها قوة، قد تكون قوة سحرية، هي غاية وليست وسيلة، لذلك هو يحب أن يقول ممثلوه الحوارات كأنهم يقولونها لأنفسهم، لأرواحهم، كأنهم يؤدون مونولوجاً داخلياً وليس ديالوجاً مع شخص آخر، حتى لو كان الحوار موجهاً لشخص آخر، لماذا يفعل هذا، لأن مشروعه ذو طبيعية طهرانية.

المشروع: السينماتوغراف

ما السينماتوغراف: هو إخلاص فني للوسيط، محاولة لإيجاد استقلالية للسينما كفن بعيداً عن الفنون التي سبقتها مثل المسرح أو الرسم أو التصوير …الخ

هو محاولة لإيجاد الطبيعة الفريدة لهذا الوسيط عن طريق استغلال تتابع الصور والتوليف والموديلز والموسيقى، بريسون يستخدم أدواته بطريقة غير مألوفة تماماً، لا يحضر ممثلون محترفون بل يجلب موديلز أول مرة يقفون أمام الكاميرا، يقول بريسون عن هذه النقطة:

الممثلون يعملون من الداخل نحو الخارج، أما الموديل فهو يعمل من الخارج للداخل.

بشكل ما هذا هو ما يريده من المتلقي حتى أن يشاهد الصور بأتيتيود شكلاني دون تفاعل أو توقعات مسبقة، ثم يترك نفسه للإيقاع الذي يأسسه بريسون وعندها سيدخل عالماً جديداً، وسيكتشف شيئاً جديداً.

الإضاءة بلا عمق منظوري، التكوين فقير للغاية، حركة الكاميرا مقتصدة لدرجة العبادة، الموديلز يؤدون كأنهم منومون، تصوير للأيدي بطريقة فريدة، عزل للأشياء بعيداً عن سياقها، وهنا مكمن المشروع.

هنا روحانيته، فبريسون يعلم العالم الداخلي للأشياء، هو يعرفها، ويعرف علاقة الأشياء ببعضها وعلاقتها بالإنسان، هذا المنهج شديد الفقر في التعامل مع الوسيط، ليس لأنه لا يراها، بل لأنه يعشق الأشياء ويفهمها ويفهم علاقتها مع الوسط، أنه منهج كوني يجعل الإنسان على علاقة بإيقاع موسيقي مبهم مع الكون، لذلك هذا ما تكتشفه السينما، هذا الإيقاع المبهم لأنها أكثر فن تفاعلي، أنها تاخذ في الاعتبار كل دقائق الرهافة، كما يقول بريسون، الكاميرا ترى شيئاً آخر غير العين. بريسون نادراً ما يستخدم الكلوز أب (اللقطة القريبة) من الوجه، لأن عند بريسون إذا حدثت هذه اللقطة سيحدث شيء مرعب، إذا قربت أكثر من عين الممثل ستكتشف أنه بلا ذات، عيناه لا تحوي أي شيء.

هو شيء يذكرني بمعضلة الذات في البوذية، بمعنى أنه عندما نمحو ذواتنا كيف سنستمر أصلاً، الحقيقة أن ما يفعله بريسون هو محو صورة الشخص عن ذاته، لأن تلك الصورة ستجعله عبداً لها، لذلك لا يعمل مع ممثلين لأنهم عبيد صورتهم عن ذاتهم، والموديلز الذين يعمل معهم، يبتكر معهم شيئاً فشيئاً لغة جسد وعيون جديدة نابعة من عالم القصة.

كيف نستقبل بريسون

السينما الترانسندالية-السينما المتسامية

لطالما كان بريسون عالماً آخر ومستقلاً بذاته عن كل السينمائيين قبله وبعده، واجتهد كثير من العقول السينمائية في فهم عملية صنعه لعالمه، من بين أكبر العقول السينمائية اليوم بول شرادر الذي له كتاب خاص عن بريسون يسمى السينما الترنسندالية.

يشرح شرادر مقصده من هذا النوع بقوله:

إنها سينما تخلق الملل، تعتاد ريتماً قاتلاً للمشاهد، ففي حين الأفلام الأخرى تفعل كل شيء حتى تجذب اهتمامك، هذه السينما تفعل العكس إنها لا تريد اهتمامك هذا، مع مرور وقت المشاهدة ستحاول أنت أن تتفاعل معها، أن تأخذ خطوات نحو عالم الفيلم، أن تحاول استكشافه بأي طريقة، من خلال فيلم بلا موسيقى، تقشفي، ممل، إيقاع رتيب، فجأة تفتح بوابة أخرى، فجأة تسمع الموسيقى، فجأة يرتاح البطل ويهدأ وقد وجد ضالته، هنا الموسيقى تقوم بقفزة الإيمان، وتدعوك معها كمشاهد أن تقوم بهذه القفزة مع البطل.

فيلم Pickpocket نموذجاً

ما يحدث في هذا العمل هو المنهج البيرسوني في أوج تمثله، مهنة النشال يتم اختزالها بصرياً في حركة اليدين من جيب إلى جيب، البطل معزول في زحمة المدينة، التصوير تم في الأماكن الحقيقة وليس الاستوديوهات، أخت صديقه الوحيد تبدأ في تطوير مشاعر حب تجاهه، يصيب البطل قلق، لأنه في لحظه سينقلب رهانه ضد نفسه، هو يعيش الحياة برهان أحادي البعد لا يستطيع تأمل أي احتمال آخر، حتى لا يشعر أنه أضاع حياته هباء، لذلك تلك الشخصيات ذات الاتيتيود التدميري لذاتها، تشعر بالتهديد مع الحب، لأنه يدمر الهوية تماماً، ويجعله يبدأ من جديد.

تلك الشخصيات لها ذهنية خاصة وتقديس ودين قاس، إنها تنفذ نموذجاً معيناً في الذهن، تضفي عليه قداسة كاذبة كحرب ضد العدم في الحياة، من مبدأ: إذا كانت الحياة عدمية فالتدمير مقدس، مع طريقة المخرج التقشفية وعدم استخدام الموسيقى تماماً، إلا في مشهد النهاية عندما تزوره حبيبته في السجن هنا تنفجر الموسيقى كأنها مقبلة من الكون ويقول لها: لقد عبرت الجحيم حتى أصل إليك.

تلك هي قفزة الإيمان المقصودة، القفزة تأتي من الضد إلى الضد، لذلك الرحلة دائماً مهمة حتى لو كانت في اتجاه خطأ، لأن الكون يعمل بطرقه الخاصة. وكما يقول تاركوفسكي: الشعراء هم من يخلقون عالمهم بالكامل، مرة أخرى الواقع لا يمكن إدراكه إلا شاعرياً.