إعادة كتابة التاريخ هي إحدى العادات المزمنة للقادة الروس التي يمارسونها كطقس مقدس. يجعل ذلك من الصعب التنبؤ بالمسار الذي سيفرضه الحاضر على سرديات الماضي، حيث تتحكم النسخة النهائية لسردية الماضي في رغبات القادة وحاجتهم السياسية وأحيانًا نزواتهم الإنسانية.

ولا شك أن بوتين نجح في العقد الأول من الحكم في الحفاظ على وحدة روسيا التي هددتها النزعات الانفصالية في القوقاز، وإعادة التوازن إلى المجتمع الروسي، وتنظيف الفوضى التي خلفها وراءه حكم يلتسين القلق، غير أن أجندة بوتين الرئاسية خلت من مبادرة لإصلاح بنيوي يجعل روسيا دولة حديثة ذات مؤسسات راسخة وحياة سياسية متفاعلة، بدلًا من ذلك سعى بوتين لتركيز السلطة والثروة في يده مع نخبته التي جلبها معه إلى الكرملين. اتجهت روسيا لتصبح دولة يحكمها حزب السلطة (روسيا المتحدة) المهيمن على الحياة السياسية والاقتصادية في البلاد، بالنتيجة انزلقت روسيا تدريجيًّا لتتحول إلى «كليبتوقراطية» (الحكم المرتبط بالفساد الاقتصادي) استبدادية ذات اقتصاد معتمد على صادرات موارد البلاد الطبيعية.

تصف ليليا شيفتسوفا في كتابها «روسيا بوتين» مواصفات النظام الروسي بدقة، حيث يهيمن عليه «مبدأ الرعاية الأبوية وهيمنة الدولة على الفرد والانعزال عن العالم الخارجي مع الطموح بأن تكون دولة عظمى. في قلب هذا النظام يقبع الزعيم الكلي السلطة الذي يعلو فوق القانون والمحتكر لكل السلطات بدون محاسبة، والذي يهمش كل المؤسسات الأخرى ويحولها إلى مجرد وظائف إدارية ثانوية».

نظام كهذا يكون فعالًا في الظروف المستقرة، لكنه يفشل في أوقات الأزمات لافتقاده آليات فعالة في التعامل مع لحظات الاضطراب والقلق في المجتمع، كما يميل للرد بعنف على الاحتجاج الشعبي باستخدام أدوات الدولة القهرية والمادية؛ لأنه يرى في الاحتجاج تحديًا لسلطته يجب الإسراع بقمعه قبل أن يتوسع ويتفاقم مزعزعًا شرعية النظام، وينمو لديه شعور بالتهديد الخارجي ما يجعله أكثر عدوانية خارجيًّا.

طموح الدولة العظمى في السياق الذي أشارت إليه شيفتسوفا أصبح أكثر إلحاحًا لدى بوتين بعد عودته إلى الرئاسة عام 2012، بحكم قدرة مكانة الدولة العظمى على توليد قدر هائل من الشرعية لتعزيز السلطة اللازمة للاستمرار في حكم روسيا بدون تهديد، خاصة مع ازدياد أزمات روسيا الداخلية وإخفاق النظام في التعامل معها. 

يعمل طموح الدولة العظمى والهيمنة الداخلية محركًا لتوليد السرديات التي تصلح كأساس معنوي وأخلاقي لسلطة بوتين وسياساته.

أوكرانيا ومعارك الذاكرة

قبل ساعات من بدء حرب روسيا على أوكرانيا ظهر بوتين في خطاب تلفزيوني بدا كأنه درس في التاريخ؛ ليخبرنا بأن «أوكرانيا ليست مجرد دولة مجاورة بالنسبة لنا، إنها جزء لا يتجزأ من تاريخنا وثقافتنا وفضائنا الروحي». معتبرًا في خطابه أن وجودها كدولة لا يعدو أن يكون خطأً تاريخيًّا تسبب به البلاشفة لأنها «أرض روسية تاريخيًّا». سبق لبوتين أن كتب في الصيف الماضي مقالًا مطولًا ضمنه سرديته المتخيلة لتاريخ أوكرانيا، المقال أظهر بوتين كزعيم لقبيلة أو أمير من عصور ما قبل الدولة الحديثة أكثر منه قائد دولة حديثة. 

هوس بوتين بتاريخ أوكرانيا يبرز حاجته إلى إعادة نسج أسطورة متخيلة جديدة للأمة الروسية تؤكد «الوحدة التاريخية للروس والأوكرانيين»، وتثبت أنهما «شعب واحد»، حيث لا وجود للشعب الأوكراني خارج اتحاد الشعب السلافي الشرقي الذي تجسده روسيا، مصرًّا على وجود خط تاريخي مستمر ومتماسك لشعوب تلك المنطقة يصعب إثباته تاريخيًّا بسبب الفهم الانتقائي والمشوه للتاريخ.

حتى بافتراض وجود هذا الخط الفضفاض فإن نشوء الدول الحديثة لشعوب المنطقة جعله مجرد تراث لا تتأسس عليه أي مطالبة سياسية كتلك التي قدمها بوتين، فالدولة الروسية نفسها في عهد بوتين نفسه اعترفت بسيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها مرارًا.

خيارات أوكرانيا في دروب الماضي والحاضر لم تتوافق مع تطلعات حكام موسكو، فكييف ظلت متمردة منذ أيام القوزاق وحتى يومنا الحالي، تلك الخيارات نظر إليها بوتين على أنها ليس فقط كارثة للسياسة الخارجية الروسية، بل تحديًا للنظام الروسي في الداخل.

محاور حرب السرديات

حرب السرديات التي يشنها الكرملين على أوكرانيا تتمركز حول ثلاثة محاور رئيسية:

المحور الأول: الإرث الأرثوذكسي المسيحي

قام الكرملين بتحدي الإرث التاريخي لأوكرانيا باعتبارها أول دولة سلافية شرقية تعتنق الديانة الأرثوذكسية في حقبة دولة كييف روس في القرن العاشر ميلادي، بهدف صياغة هوية روسيا على أنها حامية المسيحية الأرثوذكسية السلافية الشرقية.

عام 2016 قام بوتين بنفسه بإزاحة الستار عن النصب التذكاري البرونزي الذي جسَّد الأمير فولوديمير (فلاديمير بالإنجليزية) وهو ممسك بسيف في يده اليسرى وبصليب في اليمنى. اعتُبر النصب ردًّا استفزازيًّا على النصب الأول للأمير فولوديمير الذي يطل منه على كييف منذ 1823. الأمير فولوديمير كان أول من اعتنق المسيحية من حكام إمارة كييف روس التي عاصمتها كييف، لكن في موسكو قُدم بصفته حاكمًا روسيًّا تولى معمودية كييف روس القديمة منذ أكثر من ألف عام، بوتين قال يومها: “اليوم مهمتنا أن نواجه التحديات والتهديدات الجديدة والاعتماد على تقاليد الوحدة والوفاق، التي لا تقدر بثمن والمضي قدماً، والحفاظ على مسيرة تاريخنا الذي يمتد لألف عام”.

المحور الثاني: نوفوروسيا والإرث الإمبراطوري

وُظف تاريخ روسيا الإمبراطوري بانتقائية شديدة لتحقيق ما اعتُبر العدالة التاريخية لعودة أراضي روسيا القيصرية إلى روسيا المعاصرة كمقدمة لإعادة النظر في الجغرافية الحالية لأوكرانيا، إعادة النظر لم تتوقف عند شبه جزيرة القرم ومدينة سيفاستوبول، بل قام الكرملين بإحياء مفهوم نوفوروسيا (روسيا الجديدة) التي تشمل الأراضي الممتدة من حوض الدونباس حتى ميناء أوديسا على البحر الأسود، وبذلك تُحرَم أوكرانيا من كل شواطئها على البحر الأسود.

استخدم بوتين كلمة نوفوروسيا في خطابه في أبريل/نيسان 2014، عندما تحدث عن السكان الناطقين بالروسية في أوكرانيا: “أود أن أذكركم بأن ما كان يسمى نوفوروسيا في الأيام القيصرية التي تضم خاركوف، ولوغانسك، ودونيتسك، وخيرسون، ونيكولاييف، وأوديسا، لم تكن جزءًا من أوكرانيا في ذلك الوقت”. وذكر أن تلك الأراضي أصبحت روسية نتيجة الحروب مع الدولة العثمانية: “كان مركز تلك المنطقة نوفوروسيسك، لذلك تسمى المنطقة نوفوروسيا. فقدت روسيا هذه الأراضي لأسباب مختلفة، لكن الشعب بقي”. ما سكت عنه بوتين هو أن الشعب الذي بقي لم يكن أغلبه يرى نفسه روسيًّا كما يخبرنا تعداد السكان عام 1926 الذي جرى في مناطق: أوديسا، ميكولاييف، كيروفوهراد، دنيبروبيتروفسك، خيرسون، زابوريزهيا، دونيتسك، ولوهانسك، حيث أُعلنت الأغلبية (83%) أنها أوكرانية.

المحور الثالث: الحقبة السوفيتية

انتصار الاتحاد السوفيتي في الحرب العالمية الثانية (يسميها الروس بالحرب الوطنية العظمى) هو الحدث المركزي الذي حظي باهتمام بوتين من كل تاريخ الحقبة السوفيتية؛ لأنه الحدث الأكبر والأكثر قدرة على التعبئة حول معاني عظمة روسيا وقوتها وأيضًا تجميع شعوب الاتحاد السوفيتي تحت لوائها، كما أعاد بوتين إلى الحياة التقليد السوفيتي بالعرض العسكري المهيب في يوم النصر في 9 مايو/آيار، وكذلك استعادة رموز عسكرية لتلك المرحلة مثل أعلام الجيش الأحمر السوفيتي وشعاراته، الأهم أنه قام بإعادة تأهيل سيرة ستالين المرتبط ذكره بالحرب، واختفى من الكتب المدرسية الروسية أي ذكر لفظائع القمع الستاليني، وجرى إغلاق متاحف تعيد الاعتبار لضحاياه، مثل معتقل بيرم  35 الرهيب، بعد كل هذه السنوات من إعادة التأهيل لسيرة ستالين لا يعود مستغربًا عندما يقول 53% من الروس إنهم ينظرون لستالين بشكل إيجابي.

علاقة أوكرانيا والأوكرانيين مع الاتحاد السوفيتي معقدة ومثقلة بالذكريات المؤلمة. تلك الذكريات التي جمعت عقودًا من المرارة والألم والأمل معًا، كل شيء بدأ مع الهزيمة في حرب الاستقلال 1918-1921 التي أزالت من الوجود اسم جمهورية أوكرانيا الشعبية المستقلة لتحل مكانها جمهورية سوفيتية، لتأتي بعدها بسنوات قليلة المجاعة «هولودومور» التي مات فيها أربعة ملايين إنسان جوعًا نتيجة سياسات ستالين التي أطلق عليها اسم  “الاستعمار الداخلي”، والتي هدفت لتقويض أي نزوع للثورة في أوكرانيا عبر القمع والتهجير والتجويع، استمرت سياسة موسكو في الإنكار لأحداث المجاعة الأوكرانية حتى بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ولم يؤثر في موقفها الكشف عن وثائق تثبت تورط السلطات السوفيتية، رددت بحماس مزاعم ستالين السخيفة بأن الأوكرانيين كانوا يتضورون جوعًا عمدًا بناءً على أوامر من وارسو وأن المجاعة “هولودومور” هي أسطورة اخترعها أعداء روسيا النازيون.

أتاحت الرواية الروسية حول أحداث الحرب الوطنية العظمى إلصاق تهمة النازية بالقومية الأوكرانية التي تم الحرص بعناية على اختزالها في شخص استبان بانديرا، رئيس منظمة القوميين الأوكرانيين (OUN)، تجاهلت هذه الرواية حقيقة أن غالبية الأوكرانيين قاتلت الفيرماخت الذي قتل من الأوكرانيين أكثر مما قتل من أي شعب آخر.

عندما يصبح التاريخ خادمًا للسلطة

بوتين جعل ماضي روسيا حاضرًا راهنًا في خطاباته، قام بتوظيف التاريخ كأداة قوية لتبرير سياسات الكرملين ومنحها أساسها الأخلاقي والمعنوي، بذلك توقف ماضي روسيا الإمبراطوري والسوفيتي عن أن يصبح تاريخًا يسجل أحداث الماضي ليتحول إلى أداة أيديولوجية تشكلها السلطة وفقًا لأهدافها وتستخدمها في دعايتها (البروباجندا).

مع كل أزمة هددت شرعية نظام بوتين احتاج النظام إلى خلق سردية كبرى جديدة تبرر سلوكه العنيف داخليًّا وخارجيًّا، وحشد لها عناصر ورموزًا استدعاها من التاريخ لخدمة سرديته الجديدة المتخيلة وتجريد الآخرين من ذاكرتهم.  معنى المتخيل في صنع السردية لا يحيلنا إلى صورة الوهم المطلق، بل إلى صورة فريدة يختلط فيها الدخان بالضباب لدرجة تضيع معها آثار الحقيقة في خيال بلا حدود. مسار المستقبل يصبح محبوسًا في دوامة من النبوءات المعتمد تحققها على نجاح الكرملين في الوصول إلى أهدافه التي حددتها خطوط سرديته المتخلية.

ببساطة عندما يتحول التاريخ لخادم للسلطة ومورد تحت تصرف الدولة، عندئذٍ يصبح من الصعب التنبؤ بالماضي.