استطاع الجيش الأوكراني تغيير موازين الحرب وتحول من وضع الدفاع إلى الهجوم بعد النجاح المذهل الذي حققه في شرق وجنوب البلاد مما صدم قوات الغزو الروسي وجعلها تتقهقر في أكبر هزيمة تلحق بها منذ بدء الحرب في 24 فبراير/شباط الماضي.

جبهة خيرسون

كانت البداية من خيرسون في الجنوب حيث أعلن الجيش الأوكراني في مطلع الشهر عن عملية الهجوم المضاد قبل أن ينفّذ خلال الأسبوع الماضي اختراقًا مفاجئًا وخاطفًا للخطوط الروسية في الشمال الشرقي، ويستعيد زمام المبادرة بعد تشتت الغزاة ما بين الجبهتين.

وعلى عكس الهجمات الخاطفة في المناطق الأخرى، كانت هجمات الأوكرانيين على خيرسون أكثر تركيزًا وقوة بهدف تدمير الخطوط الدفاعية للقوات الروسية، بعد أن كان الروس يقولون إن خصومهم لا يستطيعون شن هجوم مضاد ناجح في الجنوب، لأن جميع وحداتهم العسكرية الجاهزة للقتال قد دمرت أو منشغلة بالمعارك الدفاعية في الشرق.

وألقت المعارك في خيرسون أعباءً ثقيلة على موسكو، فبخسارة هذه المنطقة تتبخر آمال الغزاة في وصل المناطق التي يحتلونها ببعضها البعض، وتفشل جهودهم كذلك في تطويق أوكرانيا والاستيلاء على سواحلها وتحويلها إلى دولة حبيسة، فقد أصبح من الصعب الحديث عن خطط روسية للاستيلاء على مدينة أوديسا الساحلية في ظل التراجع الحالي، كما أن التطورات الأخيرة في خيرسون تجعل من الصعب أيضًا إجراء الاستفتاء الشعبي المزمع تنظيمه في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل لتقنين انضمام المنطقة إلى روسيا.

خاركيف

نجح الأوكرانيون في تنفيذ عملية تمويه حين أعلنوا عن هجوم مضاد في الجنوب، بينما كان الهدف الرئيس هو خاركيف في شمال شرقي البلاد، وساعد عنصر المفاجأة على إنجاح الهجوم على خاركيف، وتمكنت القوات الأوكرانية من تحرير عشرات البلدات وتحويل مسار المعركة، وتخلى الروس عن معاقلهم بسرعة وفروا أمام الهجوم الأوكراني وعبروا إلى الضفة الشرقية لنهر أوسكول وبدأوا في بناء خطوط دفاعية جديدة، لكن المدفعية الأوكرانية لاحقتهم هناك أيضًا.

وكشفت خريطة عرضتها وزارة الدفاع الروسية أنّ الجيش الروسي لم يعد يسيطر سوى على جزء صغير من الأراضي الواقعة في شرق منطقة خاركيف خلف نهر أوسكول، وبررت وزارة الدفاع الروسية قرار سحب قواتها من تلك المناطق بأن هدفه «إعادة توجيه جهودهم في اتجاه دونيتسك».

وتقطعت السبل بالآلاف من القوات الروسية بسبب الانسحاب غير المنظم، واستولت أوكرانيا على دبابات ومدافع هاوتزر من الروس أكثر من كل المساعدات التي تسلمتها من ألمانيا خلال أكثر من ستة أشهر، وشبه الأوكرانيون استيلاءهم على الغنائم في المناطق التي أخلاها الروس بلعبة «سوبر ماريو» التي يحصد اللاعب فيها الجوائز طوال سيره في اللعبة.

وأوضحت وزارة الدفاع البريطانية أن العتاد الذي تخلت عنه القوات المنسحبة، عالي القيمة ومهم جداً بالنظر إلى الأسلوب القتالي للجيش الروسي، وأن طريقة الانسحاب على مدى أسبوع تنوعت ما بين التراجع المنظم بدرجة ما لعدد من الوحدات العسكرية، وفرار البعض في حالة من الذعر.

وأوضح الجنرال فاديم سكيبيتسكي، من المخابرات العسكرية الأوكرانية، أن الروس بدأوا في تحريك قواتهم بنشاط من جبهات خاركيف ودونيتسك إلى الجنوب على مدار شهر، مما خلق الظروف لنجاح الجيش الأوكراني على جبهات خيرسون وخاركيف، بعد أن تركت روسيا قواتها مكشوفة في الشرق مع اندفاعها لتعزيز الجنوب، وظهرت نقاط الضعف واضحة في صفوف قواتها.

ذكرت نائبة وزير الدفاع الأوكراني، هانا ماليار، الثلاثاء، أن الهجوم المضاد الخاطف الذي شنته أوكرانيا حرر 3800 كيلومتر مربع في خاركيف منذ السادس من سبتمبر/أيلول.

وتحدثت ماليار، على الهواء مباشرة من الأراضي المحررة، قائلة إنها تضم أكثر من 300 تجمع سكاني ويقطنها نحو 150 ألفًا من السكان، وأن العملية العسكرية الأوكرانية مستمرة، وهدفها تحرير خاركيف كلها، مضيفة «نعتقد أن هذا سيتم في أقرب وقت».

وقال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، إن مجمل ما تم تحريره أكثر من 6 آلاف كيلومتر مربع في كل من الجنوب والشرق خلال الشهر الجاري فقط، فيما أعلن مستشار وزارة الداخلية الأوكرانية، أنتون جيراشتشينكو، أن روسيا أعدمت مدنيين قبل انسحابها، وهو ما نفته موسكو.

وأعلنت كييف استعادة مدينتي إيزيوم وكوبيانسك، في 10 سبتمبر/أيلول الجاري، وكانت هاتان المدينتان من أهم مراكز الإمداد للقوات الروسية، مما يشكل ضربة مؤلمة لمحاولات موسكو ضم إقليم دونباس.

وتقع دونباس على الحدود الغربية لروسيا، ويتحدث سكانها اللغة الروسية، وتتكون من منطقتين هما دونيتسك ولوجانسك، وقد استولت روسيا عام 2014 على أكثر من ثلث الإقليم وأنشأت ما يسمى بجمهوريتي دونيتسك ولوجانسك، واستولت حينها كذلك على شبه جزيرة القرم ونصبت إدارات محلية موالية لها في المناطق الثلاث.

وتعد هزيمة الروس في خاركيف ثاني تراجع لروسيا منذ انسحبت من محيط العاصمة كييف في مارس/آذار الماضي، لكن هذه المرة أكثر قوة وإيلامًا فقد كشفت عن فشل استخباراتي روسي كبير.

وكان الروس يطلقون على عملية غزو أوكرانيا مسمى «العملية العسكرية الخاصة في دونباس» على اعتبار أن سكان الإقليم ينتمون ثقافيًا إلى روسيا ويتحدثون لغتها، لكن هجوم موسكو شمل عموم أراضي أوكرانيا في البداية ولم يقتصر على دونباس فقط، ثم اقتصرت أهدافهم على الاستيلاء على دونباس والمنطقة الفاصلة بينها وبين شبه جزيرة القرم، التي تضم خيرسون وزابوريجيا.

زابوريجيا

تقع زابوريجيا بين دونباس وخيرسون، وتضم أكبر محطة طاقة نووية في أوروبا، ويستغل الروس خطورة وجود هذا المفاعل النووي، ويشنون هجمات عسكرية انطلاقاً من هناك ويمارسون ضغوطًا دبلوماسية على الأوكرانيين لمنعهم من الرد، أو محاولة استعادة المنطقة، عبر التهديد بالخطر النووي، ولذلك ينشر الروس قواتهم وأسلحتهم الثقيلة في زابوريجيا استغلالاً لهذا الوضع الحساس.

وتخضع زابوريجيا منذ أوائل مارس/آذار لسيطرة القوات الروسية، ورغم ذلك يواصل موظفون أوكرانيون تشغيلها، فهي توفر لبلادهم أكثر من خُمس احتياجات الطاقة الكهربائية، وتقع هذه المحطة النووية على الضفة الجنوبية لنهر دنيبرو الفاصل بين الجيشين المتحاربين.

وقد حذرت الوكالة الدولية للطاقة الذرية من خطورة الوضع في ظل استمرار القصف المتبادل، وزار مفتشوها هذا المفاعل، ومع ذلك استمرت الهجمات من الطرفين حتى توقفت كافة الوحدات الستة لمحطة زابوريجيا، الأحد الماضي.

وأعلنت الأمم المتحدة، الأربعاء، عن وجود مفاوضات بين روسيا وأوكرانيا برعاية الوكالة الدولية للطاقة الذرية، حول أمن محطة زابوريجيا، وذلك بعد يومين من إعلان الكرملين أن انسحاب قواته من أراضي محطة الطاقة النووية ليست واردة، وأن المطلوب فقط وقف هجمات أوكرانيا على المنطقة.

وبالطبع ليس من مصلحة أي من الدولتين المتجاورتين وقوع كارثة نووية تطال جميع أنحاء المنطقة، لكن كل طرف يلعب على مخاوف الآخر ويريد كسب المعركة لصالحه، وقد قال المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، رافائيل جروسي، يوم الإثنين، إن موسكو وكييف مهتمتان باقتراح الوكالة بإنشاء منطقة حماية حول المحطة.

وقد أنشأت موسكو في زابوريجيا سلطة محلية موالية لها، وكونت لجنة للإشراف على إجراء استفتاء بالمدينة حول الانضمام إلى روسيا، لكن مسئولة اللجنة ليودميلا بويكو، لقيت حتفها إثر استهدافهما من قبل أوكرانيا، الجمعة، بعد أسبوعين من اقتراح روسيا إجراء الاستفتاء المقرر أن يتم في 4 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.

حرب استنزاف

تكبدت موسكو خلال التطورات الأخيرة خسائر فادحة، بينما ارتفعت معنويات الأوكرانيين بعد الهزيمة التي ألحقوها بجيش يحتل المركز الثاني في ترتيب أقوى جيوش العالم، وارتفعت كذلك همة الداعمين الغربيين، فقد أقر الرئيس الأمريكي جو بايدن توريد أسلحة إضافية بقيمة 675 مليون دولار لأوكرانيا، واجتمع وزير الدفاع الأمريكي مع عدد من نظرائه لمناقشة كيفية مواصلة دعم المجهود الحربي الأوكراني، وبذلك تصل قيمة إجمالي المساعدات العسكرية والأمنية الأمريكية لكييف إلى 15.2 مليار دولار منذ أن تولى الرئيس بايدن منصبه في يناير/كانون الثاني 2021.

ويبدو الجيش الروسي عاجزاً عن مواجهة الزحف الأوكراني بقوات احتياطية جاهزة، واقتصرت ردود فعله على توجيه ضربات صاروخية للبنية التحتية في أوكرانيا، كما يبدو الأوكرانيون أيضاً عاجزين عن ضخ المزيد من الجنود إلى ساحة المعركة لاستغلال تراجع الغزاة في الجنوب والشرق.

لكن المعارك الأخيرة أظهرت بجلاء عيوبًا هيكلية في الجيش الروسي مثل مركزية اتخاذ القرارات التي تعيق التفاعل السريع مع تطورات ساحة المعركة على عكس الجيش الأوكراني الذي يتمتع بمرونة كبيرة في الحركة، كما تصاعد نزيف الخسائر البشرية وسط الجيش الغازي مما يشكل ضغطًا على الكرملين لوقف الحرب في أقرب وقت ممكن، فقد قدر مسؤولون أمريكيون عدد القتلى الروس في يوليو/تموز الماضي بخمسة عشر ألف جندي.

ولا تزال القوات الروسية تسيطر على حوالي خُمس مساحة أوكرانيا في الجنوب والشرق، لكن كييف الآن في حالة هجوم في كلتا المنطقتين ووضعت نصب عينيها تحرير جميع أراضيها المحتلة مثل دونيتسك وماريوبول، وسفرودونتسك، مما قد يدفع روسيا مرة أخرى إلى شبه جزيرة القرم وحدود ما قبل 24 فبراير/شباط 2022، بعد أن وجدت موسكو نفسها متورطة في حرب استنزاف لا تعرف موعداً لنهايتها، وفشلت في تحقيق أهدافها الأساسية التي أعلنتها منذ سبعة أشهر عندما شنت الغزو، والتي تمثلت في تجريد أوكرانيا من السلاح، وتغيير نظامها الحاكم، ومنعها من التقارب مع الغرب.