فلما أراد بناء الجامع -أي أحمد بن طولون- قدر له 300 عمود، فقيل له ما تجدها، أو تنفذ إلى الكنائس في الأرياف والضياع فتحمل ذلك. فأنكر ذلك ولم يختره وتعذب قلبه بالفكر في أمره. وبلغ النصراني الذي تولى له بناء العين الخبر، فكتب إليه يقول: «أن أبنيه لك كما تحب وتختار بلا عمد إلا عمودي القبلة» فأحضره، وقد طال شعره حتى نزل على وجهه، فقال له: «ويحك ما تقول في بناء الجامع؟»، فقال: «أنا أصوره للأمير حتى يراه عياناً بلا عمد إلا عمودي القبلة» فأمر بأن تحضر له الجلود، فأحضرت وصوره له، فأعجبه واستحسنه، وأطلقه وخلع عليه، وأطلق له للنفقة عليه 100 ألف دينار، فقال له: أنفق وما احتجت إليه بعد ذلك أطلقناه لك.

هذا نص ما كتبه المقريزي عن قصة بناء أحمد بن طولون، ولم تكن تلك المرة الوحيدة التي ذكر تلك الحادثة بل كررها أيضاً في باب بناء قنطرة أحمد بن طولون، وزاد عليها أن ابن طولون كافأه بأن أدخله «المطبق» السجن. نقل المقريزي تلك الحادثة من كتاب البلوي سيرة أحمد بن طولون.

لكن ما قصة تلك الحادثة، وهل هي صحيحة بالفعل، وكيف أثرت تلك الرواية في كتابة تاريخ موازٍ لمسجد أحمد بن طولون أو بالأحرى تاريخ متخيل عن المسجد الجامع، أكبر مساجد مصر والقاهرة على مر العصور وأكثرها اتساعاً؟

عمارة المسجد

يخضع مسجد أحمد بن طولون إلى ما يسمى الطراز التقليدي في العمارة الإسلامية، وهو عبارة عن طراز معماري بسيط يتكون من صحن مكشوف، محاط بأربعة أروقة خصصت للصلاة. 

هذا النمط أول ما ظهر كان في عهد النبي في المدينة المنورة عندما أسس المسجد الجامع كي يصلي فيه المسلمون الصلوات الخمس المفروضة مع الجمعة ويتشاورون في أمورهم السياسية والاجتماعية كذلك. 

في حقيقة الأمر لقد تأسس هذا النمط بشكل لا إرادي نسبياً، حيث كان مسجد النبي في البداية مكوناً من مجرد مكان مظلل فقط يصلي فيه الناس ويجلسون مع النبي بعدها، ثم مع الزيادات المختلفة فرض هذا التخطيط نفسه على المسجد، فأصبح ظِلة رئيسية تحملها غالباً أعمدة من النخيل وهي ما تسمى رواق القبلة، ثم ثلاثة أروقة، واحد في جنوب المسجد واثنان في الشرق والغرب. 

لاحقًا، انتقل هذا النمط من المدينة إلى البصرة إلى الكوفة ثم إلى باقي العواصم والحواضر في العالم الإسلامي.

لكن ما الذي يميز مسجد أحمد بن طولون عن باقي تلك المساجد الأخرى؟

الإجابة تكمن في كلمة «الزيادة» وهذا مصطلح جديد في العمارة لم يكن موجوداً قبل فترة أحمد بن طولون؛ وهي تلك الساحة الخارجية التي تلتف حول المسجد من جوانبه الثلاثة، التي استخدمت كسوق خارجي في يوم الجمعة، حيث كان الناس يلتفون من حول المسجد ببضائعهم. 

لم تكن الزيادة وحدها هي ما ميزت عمارة مسجد أحمد بن طولون بل نظام الدعامات الذي تم استخدامه بدلاً من الأعمدة الرخامية الدقيقة التي كانت تحمل أسقف أروقة المسجد الأربعة، وهي عبارة عن أعمدة ضخمة مبنية بالطوب الآجر، متراصة بشكل موازٍ لجدار القبلة. فضلاً عن المئذنة الفريدة التي حفلت بها عمارة مسجد أحمد بن طولون، التي أطلق عليها لفظ «الملوية». 

كانت كل تلك العناصر الغريبة جديدة على عمارة المساجد في مصر، ومن هنا كانت الانطلاقة نحو مجموعة كبيرة من الأساطير نسجت حول المسجد الذي نظر إليه المصريون باستغراب شديد، فلا يوجد فيه أعمدة، أما المئذنة فليست أسطوانية كما اعتادوا رؤيتها  في مسجد عمرو بن العاص، فضلاً عن تلك الزيادة الخارجية التي كانت متنفساً لهم، وفرصة لبيع منتجاتهم للمصلين بعد صلاة الجمعة.

سامراء: بداية الرواية

في سامراء عاصمة الخلافة العباسية ولد أحمد بن طولون، لأب تركي عمل في بلاط الخليفة العباسي المتوكل، وكانت سامراء التي سميت في البداية «سر من رأى» آية من آيات الجمال والإبداع في العمارة والعمران؛ فمسجدها الجامع المسمى بجامع سامراء، شق أول طريق للفن الإسلامي في الشرق كله.

فبناء على نظريات الفن الإسلامي، تم تقسيم الفنون إلى طرز ثلاثة، الأولى طراز سامراء الأول وهو ما يحاكي الطبيعة تماماً ويقتبس منها كل عنصر فني وزخرفي، ثم الطراز الثاني «الذي أطلق عليه طراز سامراء الثاني» حيث يبتعد قليلاً عن التمثيل ثم الطراز الثالث «طراز سامراء الثالث» وهو التجريد الكامل، وهو ما اشتهر في سامراء وزينت به عمائرها، وكان هذا الفن ينقش عن طريق الجص.

من هنا بدأت الحكاية؛ جاء أحمد بن طولون إلى مصر كوالٍ عن الخلافة العباسية، وجاء بالدواوين من سامراء كعادة الأتراك في الملك، وبدأ يستقل بمصر ويضرب عملة خاصة به، وبطبيعة الحال لم تعجبه العسكر عاصمة مصر في ذلك الوقت، حيث ضاقت على جنده وعساكره، وبات مسجدها الجامع غير مناسب للأعداد المتزايدة من المصلين. 

قرر ساعتها ابن طولون أن يبني عاصمة جديدة له ولحاشيته. وقع الاختيار على منطقة السيدة زينب الحالية، وهي امتداد طبيعي للعسكر، فبنى فيها مسجداً جامعاً يقيم فيه الصلوات الخمسة وصلاة الجمعة كوالٍ على مصر، وسوق كبير، ثم أقام قصراً أنيقاً تحاكى به كل من شاهده وعرفه، ونقل من لم يشاهد الروايات عنه، فضلاً عن مساكن للجنود والعساكر، ثم مساكن للناس. 

لم يكن النمط الذي بني به مسجد أحمد بن طولون معروفاً في مصر قبل مجيئه إليها، حيث كان البناء الرئيسي للمسجد الجامع يتمثل في جامع عمرو بن العاص المبني في الفسطاط، الذي كان بناؤه تقليدياً، فالمآذن بسيطة على شكل أسطواني كما جرى بناء الأروقة الداخلية عن طريق الأعمدة الرخامية الدقيقة التي جلبت من عمائر رومانية قديمة حول الفسطاط، إضافة إلى المحراب الذي لم يكن إلا على شكل تجويف بسيط دون أي تعقيدات معمارية.

اقتباس أم ابتكار؟

تشير القصة التي ذكرها المقريزي إلى أن المهندس النصراني الذي بنى المسجد، ابتكر «اختراعات هندسية فاجأ بها أحمد بن طولون سواء في التخطيط قبل البناء أو في شكل ونمط العمارة بعد البناء، وهو ما دعا أحمد بن طولون في هذه المرة ألا يكافئه بالسجن بل أجزل عليه المال حيث أعطاه عشرة آلاف دينار».

هذا من ضرب الخيال؛ إذ إن نمط المسجد ليس غريباً على أحمد بن طولون ابن سامراء، الذى ترعرع على عمائرها المشهورة، حيث بني مسجد سامراء الجامع بنفس الشكل والهيئة. 

فلقد كان مسجد سامراء أول المساجد التي استعملت نظام الدعامات الحجرية التي شكلت للمعماريين حلاً مميزاً لبناء المساجد ذات المساحة الواسعة والأسقف المرتفعة مثل مسجد أحمد بن طولون، حيث تساعد على تقلب الهواء داخل أروقة المسجد من الصحن الأوسط، أما العنصر المعماري الذي لا يدع مجالاً للشك أن العمارة مقتبسة كلياً من مسجد سامراء هي المئذنة.

المئذنة الملوية، الباقية حتى الآن، في مسجد سامراء الجامع نمط فريد غير متكرر، تشبه نسبياً الأبراج الساسانية التي انتشرت في منطقة العراق وإيران، لكن المعماري في سامراء اقتبسها باحترافية وجعل منها مئذنة مبتكرة وفريدة، وسميت ملوية بهذا الاسم لأنها دائرية تصعد إليها بشكل ملتوٍ من السلالم الخارجية. 

كانت مئذنة أحمد بن طولون على تلك الهيئة حتى جاء السلطان سيف الدين لاجين في العصر المملوكي وأعاد بناءها فسارت على هذا الشكل الحالي.

من المستحيل على معماري مهما كان أن ينقل، على سبيل الصدفة، نفس النمط المعماري والعناصر الفنية من مسجد على بعد آلاف الأميال إلى مدينة جديدة، ويدعي على ذلك أنه مبتكر. بل لا بد أن يكون هناك معماري رأى وشاهد ودقق في عمارة مسجد سامراء ونقل منها ما يراه مناسباً للمسجد الجديد. 

وهو ما يدفعنا إلى التشكيك في عدم قيام سعيد الفرغاني بمهمة البناء من الأساس.

أحمد الحاسب

هنا تظهر شخصية جديدة ذكرت في بعض المصادر، حيث يذكر ابن خلكان في الجزء الثالث من كتابه وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، أن أحمد بن محمد الحاسب هو الذي شيد وعمر مقياس النيل في جزيرة الروضة بناء على طلب الخليفة العباسي الإمام المتوكل على الله، بل ويذكر أن اسمه جاء مقترناً باسم الخليفة على لوح رخامي وجد في المقياس. 

كان أحمد بن محمد الحاسب أحد العراقيين الذين جاءوا إلى مصر بطلب من الخليفة، وبالتالي فإنه شاهد المسجد الجامع في سامراء ورآه رأي العين، وهي رواية تبدو منطقية أكثر من أي رواية أخرى، لأنه بإمكانه أن ينقل تصميم المسجد إلى القطائع.

أما القصة التي ذكرها فلقد نسجتها المخيلة الشعبية في مصر على فترات زمنية مختلفة، إذ لأن مسجد أحمد بن طولون نفسه صاحب أساطير كثيرة ذكرها المقريزي وغيره من المؤرخين، منها أن الله تجلى على الجبل وأشار إلى هذا الموضع، ومنها كذلك أن النبي هو الذي خط المحراب بنفسه، وتلك القصص كانت واردة في العصور الوسطى وتصاحب أي مبنى ذاع صيته أو كان ذا نمط مغاير.

قصة الرجل النصراني باني المسجد، الذي لم يذكر المقريزي اسمه، تم ترويجها بعد ثورة 1919 تحديداً، مع ازدياد موجة القومية المصرية التي أنعشتها الثورة المصرية ضد الإنجليز. بدأت في مقالة كتبها الشماس كامل صالح نخلة عام 1939، ذكر فيها تلك الرواية التي ذكرها المقريزي لكنه أضاف اسم المهندس ونص على اسمه سعيد بن كاتب الفرغاني، واستفاض كذلك في ذكر سيرته أنه من قرية تقع في الريف المصري اسمها فرغانة، وأحال تلك الرواية إلى المقريزي دون توضيح.

في كتابه تاريخ الكنيسة القبطية المؤلف سنة 1982 ذكر أيضاً أيريس حبيب المصري استناداً إلى تلك المقالة نفس الرواية وكررها دون التحقيق والتدقيق فيها، تصم تصدير اسم المهندس المعماري أنه من البواسل الذين ضحوا بحياتهم مقابل بقاء الكنائس التي كان ينوي أحمد بن طولون هدمها حتى يبني مسجده بتلك الأعمدة التي كان سيأخذها من الكنائس. 

بطبيعة الحال تم خلق أيقونة تصور سعيد بن كاتب ومن خلفه صورة لمأذنة أحمد بن طولون. الغريب أن تلك المئذنة معدلة في العصر المملوكي أي أن سعيد بن كاتب لم يلحق بها ولم يرها بل مات دونها بما يقرب من أربعمائة عام تقريباً.