لا تعتمد كتابة التاريخ على مجرد الدراية الجيدة بأحداثه، ولا القدرة المتمكنة للقص والحكي، فالتاريخ في حد ذاته ليس حكاية، ولا مجرد مجموعة أحداث في حبكة درامية، إن التاريخ هو مستقبل في طور التشكل بقدر ما إن الحاضر هو مستقبل لم ينضج بعد.

في هذا السياق يكتسب الراحل «صلاح عيسى» قيمته كمؤرخ متمايز عن كل منْ كتب في التاريخ المصري وأرّخ مراحله المختلفة. وقد كانت المرحلة الممتدة من الغزو العثماني لمصر حتى توقيع كامب ديفيد، المرحلة التي تُقدَّر بحوالي 450 عاماً، هي المجال التاريخي الذي تناوله الرجل في كتاباته العديدة. فكيف تمايز صلاح عيسى في كتابته، أو من أين استمدت كتابته لتاريخنا الحديث فرادتها؟

تناول صلاح عيسى التاريخ المصري لا بوصفه أحداثاً مُنبتّة الصلة بما قبلها وما بعدها، تشكلت في فراغ من الصدف والاختيارات الشخصية لقادة وزعماء قرروا لعب دور البطولة على خشبة مسرح تاريخ مصر، بل كتب الرجل هذا التاريخ أو حاول كتابته على قاعدة رئيسية، وهي البحث عن حلقة التطور الرئيسية في كل مرحلة، وذلك بالتنقيب عن الجوهر المادي الذي خلق شروط التطور في كل مرحلة أخضعها لبحثه الدقيق.

هذا التنقيب الذي قاده لفرضية تاريخية اكتسبت أدلة متزايدة على صحتها عبر مجمل أعماله، وتقول إن البرجوازية المصرية لسبب ظروف نشأتها في حضن الاستعمار قد وُلِدت مبتسرة فاقدة للقدرة على لعب الدور التاريخي الذي ميّز صعود البرجوازية الأوروبية، من حيث السعي لانتزاع السوق الوطنية، وإقامة دولتها الوطنية القادرة على حماية نشأة الصناعات المحلية.

لقد قرأ صلاح عيسى التاريخ المصري الحديث في مرحلة ما قبل الحملة الفرنسية، باعتباره مرحلة كاملة تشكلت فيها البرجوازية المصرية، وخاضت في غمار تشكلها معاركها مع الاستعمار بالأدوات التي قادت إلى الفشل تلو الفشل، سواء في تحرير وتثوير البلاد أو وضعها على مسار التطور.

سمات رئيسية لسلوك البرجوازية المصرية

فمنذ الحملة الفرنسية، حيث كانت مصر قد بدأت تتنسّم تشكُّل بؤرًا برجوازية تجارية، تقوم على لعب دور تاجر الترانزيت وعلى هامش صناعات محدودة متخلّفة كصناعة النسيج والسكر وماء الورد والحصر، بدأ أول اشتباكات البرجوازية المصرية الممثلة في مشايخ الأزهر –الذين كانوا جزءًا من النشاط التجاري- والأعيان والمماليك ضد الغزو البونابرتي.

وقد أشار صلاح عيسى إلى سمات رئيسية لسلوك البرجوازية سواء في زمنها التجاري الجنيني أو في زمن تمام تشكلها، سمات كان أولها حرص تلك البرجوازية على عدم الذهاب إلى آخر الشوط في العداء للاستعمار، وقد ظهر هذا جلياً في قبول المشايخ والأعيان الدخول في دواوين بونابرت، وتفاهم المماليك معه.

السمة الثانية كانت هي الخوف المزمن الذي ينتاب هذه البرجوازية من حركة الجماهير. لقد لاحظ صلاح عيسى أن خوف البرجوازية من مبادرة الجماهير كان في أحيان كثيرة يغلب كراهيتها للاستعمار، الذي كانت تساومه، لكنها لم تكن تساوم في وجوب قمع حركة الجماهير، التي لم تكن تهدد فقط الاستعمار بل والبرجوازيين أيضاً. وقد استخدمت البرجوازية المصرية حركة الجماهير دوماً كفزاعة للإمبريالية، ورقة ضغط لا تستدعيها أبداً لكن تستغل حضورها العفوي وتسعى لتحجيمه.

السمة الثالثة التي تناولها عيسى تفصيلياً في كتابه «البرجوازية المصرية وأسلوب المفاوضة»، هي أن البرجوازية المصرية اعتمدت التفاوض أسلوباً رئيسياً مع المستعمر، وقد تكون تلك السمة نتيجة لما ذكرته أعلاه من خوف البرجوازية المصرية من الجماهير الشعبية، لدرجة أن سعد زغلول الذي حرّرته حركة الجماهير من منفاه، سأل منتقديه المتشددين: هل لديكم تجريدة؟!

أما السمة الرابعة فهي برأي صلاح عيسى أن البرجوازية المصرية تضم جناحاً متشدداً وجناحاً معتدلاً–جيروند– (اليعاقبة والجيروند جناحان في الثورة الفرنسية)، لكنهما لا يختلفان كثيراً من حيث التفاصيل وتنطبق عليهم السمات الثلاث السابقة.

النضال المبتور للبرجوازية المصرية

لقد انطلق صلاح عيسى في تحليله التاريخي كما قلت من طبيعة نشأة البرجوازية المصرية، وقد راقب سلوكها وحلّله من زاوية تطورها الاقتصادي وتكوينها العضوي وانتقالها من النزعة التجارية إلى هيمنة الجناح الزراعي ثم نشأة جناح صناعي، ليس هذا فقط، بل إنه حلّل هذا التطور في إطار العلاقة مع الإمبريالية، وربط بين النزاع الإمبريالي على الأسواق والتكتيك السياسي الذي اتبعته البرجوازية المصرية في كل حلقة من حلقات نضالها المبتور وتطورها المشوه.

إن البرجوازية المصرية قد خاضت نضالها في حلقات عدة، تجربة محمد على، الثورة العرابية، ثورة 1919، وهو يتمايز حين يعتبر أن ثورة يوليو هي إحدي حلقات هذا النضال البرجوازي. صحيح أنه يعتبرها أكثرها جذرية نتيجة لتطور التركيب العضوي للبرجوازية ولتراكم خبرتها التاريخية ولأن يوليو مثّلت تحرك شرائح أكثر راديكالية في البرجوازية، وهو إذ يعتبر عبد الناصر أنجب وأذكى أبناء البرجوازية المصرية، فإنه يعتبر هزيمة ثورة يوليو هي امتداد لنفس الخط وتأكيد لقانونية الفرضية التي أسّس عليها مشروعه الفكري، عدم أهلية البرجوازية المصرية لقيادة النضال الوطني الديمقراطي المصري، بصيغة أكثر تحديداً، البرجوازية المصرية غير قادرة على إنجاز ثورتها.

لقد مثّلت تلك الفرضية خروجاً على التقليد النظري الذي اتبعه اليسار المصري، الذي تم بناؤه حول مفهوم الرأسمالية الوطنية التي لم تستنفد بعد إمكاناتها التاريخية ولم تحل الإشكاليات الملقاة على عاتقها، وعلى هذا الأساس سلّم يسار الأربعينيات بقيادة الوفد للمد الجماهيري، وهي القيادة التي كان يمكن منازعتها في حال امتلك اليسار الوعي بدوره التاريخي، وسلّم يسار الخمسينيات والستينيات بقدر قيادة شريحة برجوازية أخرى باعتبارها «ديمقراطية ثورية».

لكن من الواضح بمطالعة أعمال صلاح عيسى الرئيسية نجاح الرجل في التقاط خط تطور التاريخ المصري، وتعميق هذا الخط ومده مروراً بالمرحلة الناصرية، التي على الرغم من كل المشاعر التي أحاطت بها، تدخل في إطار نفس التحليل.

المؤرخ ليس حكّاء

لا يأتي تفرد صلاح عيسى من إطلاق تلك الفرضية تحديداً، بل من التأصيل لها، وقد مارس التأريخ من موقع المناضل لكنه لم يتخل عن موضوعيته، لقد ناقش التاريخ من زاوية مصالح الجماهير الشعبية، التي طوّحت بها المهادنات البرجوازية المتتالية، امتثالاً لحكم التاريخ على برجوازيات المستعمرات التي دخلت مضمار البحث عن سوقها في زمن الاحتكار الإمبريالي.

وقد استخدم صلاح عيسى أدوات البحث الماركسي المنهجية ومفاهيم المادية التاريخية، دون حاجة إلى إعلان ماركسيته في كل سطر، ولهذا مدلوله العلمي، الذي يعني تمكنه من أدواته.

لقد قدّم عرضاً متسقاً للتاريخ المصري الحديث، وقد انتقل من الخاص الذي تمثل في كل حلقة من حلقات النضال المصري من أجل التحرر، إلى العام الذي هو موقع البرجوازية المصرية في التاريخ المصري.

وعبر صفحات كتابيه «البرجوازية المصرية وأسلوب المفاوضة» و«الكارثة التي تهددنا»، يقدم بياناً سياسياً دون صوت عال، دون هتاف، يقدم بالتأريخ والتحليل الذي يضع الحدث في سياقه المادي المكاني والزمني، يقدم لقارئه مادة دسمة لفهم التاريخ المصري كمفتاح لفهم الحاضر واستشراف المستقبل. إننا نستطيع أن نبدأ بالفرضية وننتهي بعد قراءة مشروع صلاح عيسى بالقانون الذي أكّده التاريخ، الذي يحكم مسار التطور البرجوازي من النشأة للممات.

ثم إنه عبر بقية أعماله يلتزم نفس الخط، ففي «أفيون وبنادق: سيرة سياسية واجتماعية لخُط الصعيد» يناقش الرجل في بناء درامي جميل ظاهرة الأشقياء وأولاد الليل، ويتناول تحديداً قضية الخُط، ويؤسِّس لها على أرضية اجتماعية واقتصادية وسياسية، ليخرج بالظاهرة من إطارها الإجرامي المجرد لما هو أشمل وأعمق، فالخُط كان واحداً من كثيرين احترفوا الجريمة بدافع ظرف جمعي مرت به البلاد وإن اختلفت الاستجابات الفردية، بمعنى أنه رأى الخُط ضمن ظاهرة اجتماعية سعى عبر استجلاء أحداثها البحث عن قانونها العام الحاكم. وهذا هو ما يُميِّز المؤرخ أو يفترض أن يتميز به المؤرخ، ليس باعتباره حكّاءً بل باعتبار أن لديه من التفاصيل ما يمكنه من تكوين الصورة الكلية على أساس الكشف عن جوهر الظواهر.

على جانب آخر، استكمالاً لنفس المشروع، قدّم صلاح عيسى في عمليه «مثقفون وعسكر» من جزأين و«تباريح جريح»، مجموع مقالاته التي نشرها داخل وخارج مصر منذ بدأ عمله الصحفي، وهي المقالات التي اتضح فيها جنين الفرضية التي شكّلت جوهر مشروعه، حيث تناول عبر هذه المقالات الصراع على الجبهات السياسية والثقافية منذ بداية الستينيات، تناولاً عميقاً يتضح عمق تأثير هزيمة يونيو فيه، الهزيمة التي زلزلته، ومن الواضح أنها قد أطلقت التساؤل الذي في ضوئه أطلق مشروعه، التساؤل عن مسئولية الهزيمة، وهل كانت قدراً أم كان بالإمكان تلافيها!

لست هنا بصدد تعداد أعمال صلاح عيسى، لكني أود الإشارة إضافة للأعمال المذكورة أعلاه إلى «هوامش المقريزي» و«حكايات من دفتر الوطن» وعمله العظيم «الثورة العرابية» الذي يحلل فيه الثورة العرابية، لا من باب تكرار السرد، بل من باب تحليل الجوهر الاجتماعي والقوى الطبقية للثورة، ما يجعله أحد أهم الأعمال التي تناولت حلقة رئيسية من حلقات الكفاح الوطني المصري، ليس فقط لعمق ما طرحته من مطالب، بل أيضاً لما ترتّب عليها والآلية التي آلت بها إلى الهزيمة في التل الكبير.

وبعد، يكتسب التاريخ في حضرة صلاح عيسى بعداً مغايراً، ويتجلى التاريخ الوطني المصري لحماً ودماً، بانوراما مكشوفة على السطح وفي العمق، تتجادل الطبقات وتتشكل في خط بياني متشابك صاعد تارة وهابط تارة، تسكن فيه التفاصيل حيث يجب، تتكامل الجزئيات على محور قانونها التاريخي لتشكل الصورة الحتمية الكاملة، لنرى فيها تاريخ بلادنا الذي لم نعشه في أحداثه، لكن نحيا امتداداته.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.