عندما سألنا المحاضرُ الوسيم قبل 10 سنوات أن يقف كلٌ منّا ويخبره بصوتٍ مرتفع ماذا يريد أن يكون بعد 5 سنوات، نثر الشباب المتحمّس أحلامَه بين يديه، حتى جاء دوري فقال: وأنت؟ فألّفتُ إجابة لم تقنعني ولم تقنعه.

جيل «الكوبري»

يحلو لي أن أسمّي جيلنا بجيل «الكوبري»؛ لأنه يصل بين عالَمين مختلفين؛ عالم ما قبل الألفين، الساكن كهدوء الجبلِ في حضن النيل، وعالم ما بعد انفجار ثورة التكنولوجيا والاتصالات، وهو عالم على النقيض يشبه في تقلباته منْ أصابه مسُّ من الجن.

في آخِر سنوات الجامعة، كان العالَم الجديد الشابُّ يقف على الباب، ينتظرنا في الخارج حتى نَفرُغ من وداع عالمنا الشائخ الذي ألِفنا وألفناه سنين طويلة. وما إن سلّمناه أنفسنا، حتى غصّنا تدريجيًا إلى الأذقان في وحلِه، بإبهاره وتوتراته، ببريقه وكآبته.

ومع صعوبة التخلّص التام من حباله، حاولت على الأقل كسر حدته والتخفيف من سمومه بإحياء عادات واكتساب أخرى؛ عادات قديمة مثل المشي، وأخرى لاحظها المقربون مني كالنظر في الفراغ، وهناك ما احتفظت به لنفسي سرًا، وأهمها مشاهدة مقاطع لسمير غانم.

ضحكٌ للضحك

منذ الطفولة وسمير غانم قريبٌ منّا، حولنا في كل مكان، تجده حاضرًا بانتظام، إمّا بجسَده على الشاشة أو بجمله الشهيرة التي نتداولها بيننا في الشارع والمدرسة لإشاعة البهجة. وفي الأعياد لا يملُّ التلفزيون المصريُّ عرضَ مسرحياته الأشهر على الأطلاق، وأنا كذلك لا أملُّ من تكرار مشاهدتها.

ظلّ سمير غانم واحدًا من مصادر التسلية والترفيه التي اقتصرت في ذلك الوقت تقريبًا على ما يقدمه التلفزيون، وظلّت إطلالته سببًا لبهجة طفلٍ يُرضيه لكي يضحك -ملء الفم- مجرد تغيير مفتعل في الصوت أو الشكل، أو طريقة غريبة في المشي والملبس. كان يشبه الأطفال في حركات، كأنه واحد منّا.

خلت الكوميديا التي قدمها سمير غانم تقريبًا من أي تلميح سياسي، ولم يُغلّفها يومًا بموعظة اجتماعية. لم يهتم بأن يقدم نفسه في صورة المناضل ولا الواعظ الاجتماعي المهموم بأوجاع الوطن، بل كان يفرُّ من ذلك فرار صوفيٍّ من صخب الدنيا، صنعَ لنفسه عالمًا مُختلفًا، وكوميديا «أورجانيك» تخلو من البهارات. لقد أراد أن يقدم ضحكًا للضحك فقط.

كوميديا بلا مخالب

في بدايات الشباب، اهتزت عندي مكانة كوميديان الطفولة المفضَّل، تأخر للوراء قليلًا؛ بسبب مدرسته الكوميدية التي لم تُناسِب حالة شاب يفور بحماس ثوري كجيفارا، ومستعد لتغيير العالم كغاندي. في هذه المرحلة يكون الواحد منّا متحفزًا، سريعَ الغضب، مُعترضًا على كل شيء وأي شيء، لأنه بالطبع يفهم كل شيء.

لهذا صرتُ أكثر انجذابًا لكوميديا عادل إمام التي لعب فيها كثيرًا على الوتر السياسيّ، بل واستهوتني الكوميديا المغلَّفة برداء الوعظ والحكمة التي حملَ لواءها محمد صبحي في مرحلة ما. فهذه كوميديا تصلح مثلًا لمشاركة مقاطع منها مع الأصدقاء على منصات التواصل الاجتماعي لتبدو عميقًا، مهمومًا بقضايا الأمة والتغيير، وليس شابًا غرًا ساذجًا لم يكتمل شعر ذقنه بعد.

أمّا كوميديا سمير غانم، فهي كوميديا مستأنسة بلا مخالب، بلا قيمة. هل كنت غبيًا؟ ليس في ذلك شك.

كوميديا عبثيّة بامتياز

في مرحلة لاحقة هدأت فيها ثورة حماس الشاب، بعد أن كال له الواقع لكمات متتالية وانقطعت أنفاسه، جريًا لمواكبة متطلبات العالم الجديد، وأدرك أن الدنيا عصيةٌ على الترويض مثلها كموج البحر إن استقبلته بصدر مفتوح جعل عاليكَ أسفلك. صارت غايتي الوصول إلى شاطئ هادئ أطلّق فيه الدنيا لحين، أجلس رائق البال معتدل المزاج مستعدًا لمصافحة القطط في الشوارع.

فبقدر ما تضغط التكنولوجيا -سمة العصر الحالي- على أعصابك، بقدر ما تُوفِّر لك سبلًا للتنفيس، ومنها «اليوتيوب» الذي منحنى فرصة إعادة اكتشاف صاحب المزاج العالي.

وجدته أصل الضحك، المصدر بدون إضافات، المادة في حالتها الأولى. لا يحكمه نص ولا يخضع لقواعد ولا يسير وفق خطة، يرتجل بعفوية، ببساطة، كمن يقود دراجته باسطًا يديه في الهواء، ليس مُخلصًا لشيء سوى تقديم كوميديا عبثيّة بامتياز. لو عاش سمير غانم في زمن تعدد الآلهة، لجعلوه إلهًا للعبث دون شك.

هذا العبث الذي تمسَّك به طيلة مشواره تقريبًا هو الذي ميّزه عن غيره. لم أصُدِّقه كطبيب، لم أصُدِّقه كمحامٍ، لم أصُدِّقه كمعلمٍ، وكل دور أداه كنت أراه يقدم سمير غانم نفسه، المخلص للهزل والضحك فقط، ولا تعنيه تفاصيل الشخصية التي يتقمّصها. هل ينقص ذلك من قيمته الفنية في أعين النقاد؟ ربما، ولكن ليس عندي على الأقل، فالضحك للضحك فقط قيمة، بل قيمة كبيرة رغم أنف الجميع.

منذ ذلك الوقت وأنا أتعامل مع سمير غانم تعاملًا مختلفًا، لم يعد عندي مجرد اسم علم يدل على شخص بعينه، بل تخطى ذلك إلى الصفة التي تعبّر عن حالة معينة من البهجة، حتى صار صديقي يسألني «إنت عامل دماغ ايه النهاردة؟»، فأجيبه «أنا عامل دماغ سمير غانم».

لو وُضع اسمه في القاموس لكان مرادفًا للبسمة والاسترخاء و«روقان» البال والانفصال عن الواقع. لا أعلم لماذا يتناول الناس الأقراص المهدئة؟ لماذا يمارسون اليوجا؟ لماذا يقرؤون ألف كتاب وكتاب عن السعادة؟ ما دام بإمكانهم مشاهدة مقطع لسمير غانم!

انقضى ضعف المدة التي ذكرها المدرب الوسيم، ولو كرّر سؤاله اليوم سأجيبه:

أنا عايز أكون سمير غانم جدًا جدًا.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.