يؤدي مفهوم التاريخ دوراً أساسياً في الفكر الإنساني ويستحضر أفكاراً عن سلطة الإنسان في التاريخ والصيرورة، وأثر الظروف المادية على العلاقة الإنسانية، وهذا ينتج عن فلسفة التاريخ التي تمنح الإنسان إمكانية التعلم من التاريخ. [1]

 ورغم أن «ابن خلدون» هو أول منْ فرّق بين التاريخ وفلسفة التاريخ قبل هيجل وماركس ومونتسكيو، فقد عرّفته دائرة المعارف البريطانية بأنه مؤرخ عربي وعالم اجتماع اشتهر كرائد لفلسفة التاريخ.

 إلا أن أعظم نكبات العرب أنهم يجهلون فلسفة التاريخ، يجهلون حتى النقطة التي بدأ عندها تاريخهم، والنقطة التي بدأها عندها انحدار هذا التاريخ. ولعل أكبر أخطاء القادة، في العالم العربي، أنهم يُسقِطون من حسابهم هذه الملاحظة، ومن هنا تبدأ الكارثة، لأن كوارث التاريخ تحيد بالشعوب عن طريقها، ونجد هذا في الكارثة التي أصابت العالم الإسلامي في «واقعة صفين»، فأخرجته من جو المدينة الذي كان مشحوناً بهدى الروح، وبواعث التقدم، إلى جو دمشق حيث تجمعت مظاهر الترف، وفتور الإيمان. [2]

غاية التاريخ

صار العالم الإسلامي يجمع أكواماً من مظاهر الترف والرفاهية من منتجات الحضارة الحديثة، أكثر من أن يهدف إلى بناء حضارة، وقد تنتهي هذه العملية وفق مقتضى قانون الأعداد، إلى «حالة حضارية»، نتيجة تكدس منتجات الحضارة داخل المجتمع. [3]

ولكن شتان ما بين الحالة الحضارية التي يعيشها المسلمون وصنع الحضارة، فالفارق شائع بين استهلاك منتجات الحضارة، وصناعة الحضارة. ويعود ذلك لأننا نجهل النقطة التي بدأنا عندها تاريخ صناعة حضارتنا، وهي النور الذي أضاء غار حراء، إيذاناً ببعثة محمد، صلى الله عليه وسلم. وتلك المعرفة ببداية التاريخ هي الأهم في فلسفة تاريخنا، لأنها تُحدِّد نهايته وغايته. وبداية التاريخ كما يُخبرنا القرآن كانت بأمر من الله في السماء:

«إِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ قَالُوٓاْ أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ»
سورة البقرة: 30.

أمّا نهاية التاريخ فستكون بأمر من الله أيضاً إلى أرض المحشر:

«يَوۡمَ تُبَدَّلُ ٱلۡأَرۡضُ غَيۡرَ ٱلۡأَرۡضِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُۖ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ ٱلۡوَٰحِدِ ٱلۡقَهَّار»
سورة إبراهيم: 48.

وما بين بداية التاريخ حتى بعثة رسولنا الكريم (صلى الله عليه وسلم)، تدخّل الله في التاريخ بإهلاك الأمم:

«وَإِذَآ أَرَدۡنَآ أَن نُّهۡلِكَ قَرۡيَةً أَمَرۡنَا مُتۡرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيۡهَا ٱلۡقَوۡلُ فَدَمَّرۡنَٰهَا تَدۡمِيرٗا (16) وَكَمۡ أَهۡلَكۡنَا مِنَ ٱلۡقُرُونِ مِنۢ بَعۡدِ نُوحٖۗ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِۦ خَبِيرَۢا بَصِيرٗا»
سورة الإسراء: 16-17.

ولكن ببعثة خاتم المرسلين توقف الله عن التدخل في التاريخ، إيذاناً بقرب نهاية التاريخ. [4]

كما روى الإمام البخاري عنه عليه الصلاة والسلام:

بُعِثْتُ أنا والسَّاعَةَ كَهذِه مِن هذِه، أوْ: كَهاتَيْنِ، وقَرَنَ بيْنَ السَّبَّابَةِ والوُسْطَى.

بينما ترى النظرة العلمية الحديثة أن التاريخ بدأ عندما كانت الأرض مجرد نقطة صغيرة في كون بحجم لا يمكن تخيُّله، وأن الحياة على هذا الكوكب بدأتْ من اندماج عرضي للغازات، ثم تطورتْ بواسطة قوى الانتخاب الطبيعي الجامدة. وتماشياً مع هذه الرؤية لنشأة الإنسان، يرفض الغرب افتراض أن للتاريخ أيَّ غاية أبعد من الغايات الفردية للبشر؛ الذين يصنعون التاريخ من أجل إشباع شهواتهم وغرائزهم، ومن ثَمَّ ينتهي التاريخ إلى لا شيء. [5]

ويرى هيجل في كتابه «فلسفة التاريخ» أن تاريخ العالَم ليس إلَّا تقدُّم الوعي بالحرية، حتى خلص إلى نقطتين هما:

  • أن يحكم الأفرادُ أنفسَهم وفقاً لضمائرهم وقناعاتهم.
  • أن يتم تنظيم العالَم بكل ما فيه من مؤسسات اجتماعية وسياسية بصورة عقلانية، وفقاً لرؤية الأفراد الذين يتبعون ضمائرهم وقناعاتهم الشخصية، وبهذا لا تكون هناك قيود على الحرية. [6]

لذا نرى الغرب يُقر قوانين تبيح الشذوذ والسحاق والقتل الرحيم، ما دام أفراد المجتمع يختارون إقرارها وفق ضمائرهم وقناعاتهم الشخصية.

التسلية والثقافة

ولأن التاريخ بدأ بالمصادفة باندماج عرضي للغازات، وسينتهي إلى لا شيء، ولا غاية له إلا حرية الإنسان في إشباع شهواته وغرائزه، تحول الجنس والخمر من كونهما مجرد إشباع للرغبة إلى موضوع فلسفي، مثل الخمر عند «امرئ القيس» قبل الإسلام فلم تكن مجرد سائل يُذهِب الوعي ويستيقظ المرء في اليوم التالي عنده صداع خفيف ويستأنف حياته، إنما هي جزء من فلسفة التاريخ لأن الجنس والخمر يعبران عن إحساس عميق بالغربة والوحدة والخوف من العدم، هو إحساس لا يمكن أن يواجهه الإنسان بشكل مستمر، فالإنسان الجاهلي ذكر أنواع الخمر في مقدمة المُعلقات، هرباً من السؤال النهائي عن نهاية التاريخ والغاية منه التي تشكل عنده العدم. [7]

وقد انتقلت هذه الفلسفة من امرئ القيس إلى الإنسان الغربي، لذا فنحن لسنا أمام إنسان مُدمن للخمر أو مدمن للجنس، إنما إنسان يفعل ذلك وفق مبدأ فلسفي هو اللذة. [8]

وهذا يفسر الرغبة العارمة في ممارسة الجنس في العلن من دون أي خصوصية، حتى أصبح الجنس جزءاً من الحياة العامة. وهذا يُفسر أيضاً إصرار الغرب أن يصبح الشذوذ الجنسي حقاً إنسانياً طبيعياً يجب تقنينه، ما دام أنه جاء وفقاً لحرية الأفراد وقناعاتهم، فلا غاية أو هدف للتاريخ أبعد من الغايات الفردية للإنسان اللاهث وراء شهواته وغرائزه.

وقد أخبرنا القرآن عن هذا بقوله تعالى:

«وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ»
سورة الجاثية: 24.

وهنا حقّق كأس العالم في قطر 2022 نبوءة المفكر الأمريكي «صامويل هنتنجتون» في «صدام الحضارات»، فالصراع في العالم كما يقول لن يكون أيديولوجياً أو اقتصادياً، بل سيكون الانقسام الكبير بين البشر، والمصدر الغالب عليه ثقافياً. [9]

وتعد الثقافة منتجاً نهائياً لأي حضارة، إذ يُعرِّف «ويل ديورانت» الحضارة بأنها: نظام اجتماعي يُعيِن الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي. [10]

والثقافة التي تمثلها الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، تسيطر بالفعل على السياسة الدولية، وتُجسِّد مؤسساتها مبادئ الغرب الأساسية التي تستمر في الانتشار عبر العالم، ولكن الإسلام هو الحضارة الرئيسية الوحيدة في العالم التي لديها مشاكل أساسية مع هذه الثقافة. [11]

وظهرت هذه المشاكل الأساسية لثقافة الغرب مع الإسلام في كأس العالم (قطر 2022)، عبر احتجاج غربي عارم على منع ارتداء شارة الشواذ جنسياً، ومنع تداول الخمور. وهي ليست مجرد أدوات لإشباع الشهوات والغرائز، بل تشكل موفقاً فلسفياً للحضارة الغربية ناتج عن فلسفة التاريخ، الذي هو بلا غاية ولا هدف سوى إشباع رغبات البشر، وهذا يفسر ما نراه من إصرار وعناد واحتجاج قوي.

كما أكد كأس العالم ما ذهب إليه صامويل هنتنجتون من أنك «ستجد في الشرق الأوسط شباباً يرتدون الجينز، ويشربون الكوكاكولا، ويستمعون إلى موسيقى البوب»، ويتابعون أفلام هوليوود، ودوريات كرة القدم الأوروبية بشعف واهتمام بالغين، ولكن رغم ذلك ما زالوا يركعون ويسجدون نحو مكة، ويرفضون المنتج النهائي للحضارة الغربية (الثقافة)، رغم تكدس المنتجات والبضائع الاستهلاكية الغربية لديهم، وما جعلهم يعيشون «حالة الحضارة» من دون المشاركة في صنعها.

 وهذا يدحض الافتراض القائل إن ظهور وسائل الاتصال الحديثة، وانتشارها يؤدي إلى تحول كبير في الاتجاهات والأفكار، لأن الأمر كما يقول «مايكل فلاهوس» التسلية لا تعني التحول الثقافي. [12]

لأن النور الذي أضاء غار حراء، رغم خفوته، ما زال يؤدي دوراً أساسياً في تاريخ الفكر الإنساني، ويستحضر أفكاراً عن سلطة الإنسان في التاريخ والصيرورة، ويطرح فلسفته ليقاوم -حتى وأتباعه ضعفاء خاضعون للغرب- الحضارة الحديثة، ويعطي إضاءة أن المسلمين قد يتعلمون من التاريخ لعل جزءاً من جو المدينة الذي كان مشحوناً بهدى الروح، وبواعث التقدم يعود إلينا، مصداقاً لقوله تعالى:

«لْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»
سورة آل عمران: 104.
المراجع
  1. مجلة حكمة، «موسوعة ستانفورد للفلسفة»، ترجمة طريف السليطي.
  2. مالك بن نبي، «شروط النهضة»، صـ 47.
  3. المرجع السابق.
  4. عبد الوهاب المسيري (تحرير: سوزان حرفي)، «العلمانية والحداثة والعولمة»، ص 165.
  5. بيتر سينجر، «هيجل: مقدمة قصيرة جداً»، ترجمة: محمد إبراهيم السيد، مؤسسة هنداوي.
  6. المرجع السابق.
  7. عبد الوهاب المسيري، «رحلتي الفكرية: في البذور والجذور والثمر»، صـ 179-180.
  8. المرجع السابق.
  9. صامويل هنتنجتون، «صدام الحضارات»، صـ 10.
  10. ويل ديورانت، «قصة الحضارة»، جـ1، ص3.
  11. محمد عمارة، «الإسلام في عيون غربية»، ص 49-50.
  12. مرجع سبق ذكره صـ 96-97.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.