كانت الوصاية السورية على لبنان بعد الحرب، وإلى يوم الجلاء السوريّ عنه في 26 أبريل/نيسان 2005 وصائية أيضاً على كل من النفوذين السعوديّ والإيرانيّ فيه. فسوريا استطاعت لمدّة غير قليلة من الزمن، أن تنخرط في تحالف مع إيران، في مواجهة نظام صدام حسين في العراق بالدرجة الأولى، وأن تبني علاقة متقدّمة مع السعودية ودول مجلس التعاون، بشكل ينأى بنفسه عن تواقيع الخصام «الأيديولوجي» بين البعث اليساري والنظم الملكية في الستينيات، وعن صدى «التظلمية السنَّوِيَّة» في الداخل السوريّ، ويخفف من تداعيات تشبيك نظام الأسد مع إيران بوجه العراق، ويؤسس على زيارة الملك فيصل بن عبد العزيز عام 1974 كلحظة تأسيسية، تتواشج مع المعادلة الملِكة لدى النظام السوري نفسه بعد انقلاب حافظ الأسد على رفاقه واستيلائه التام على السلطة في نوفمبر/تشرين الثاني 1970: نظام التصاهر بين الضباط البعثيين «الأقلويين» ومصالح البرجوازية المدينية السنيّة، بالشكل الذي يتسنّن فيه هؤلاء الضباط نوعاً ما، و«تتعلون» فيه هذه الشرائح الداخلة في عهدتهم من البرجوازية.

اتفاق الطائف المبرم في السعودية أواخر الثمانينيات، في اللحظة الفاصلة بين توقف «حرب التحرير» التي أعلنها رئيس الحكومة العسكرية المؤقتة الجنرال ميشال عون ضد الجيش السوري وحلفائه المحليين، وبين انفجار الصراع الدامي بين عون و«القوات اللبنانية» فيما اشتهر بتسمية «حرب الإلغاء» – هذا الاتفاق، كان اتفاقاً بين سوريا والسعودية، بين حافظ الأسد والملك فهد، بمباركة أمريكية؛ لكنه كان اتفاقاً على الزغل أيضاً.

لم ينص الاتفاق على انسحاب كامل للقوات السورية من لبنان، وإنما على انسحابها إلى البقاع بعد سنتين على إقرار الإصلاحات التي جاء بها الطائف بصورة دستورية. قدّم الطائف من ناحية أخرى كل ما يلزم كي يكون النظام من بعده محتاجاً للتشغيل من قوة وصائية فوق هذا النظام. ترويكا بين الرئاسات الثلاث، أزمة تحديد صلاحيات، مروحة واسعة للتعطيل يبيحها الدستور. نسق دستوري سريع العطب يحتاج كل أسبوعين إلى تدخل من الوصي عليه لإعادة تشغيله. وفي هذا، ظهر أن ضباط النظام السوري الذين تولوا التحكم بالحكم في لبنان بعد الحرب أجادوا.

لكن وصايتهم لم تكن على الأطراف الداخلية فقط، بل على الدورين السعودي والإيراني في لبنان، وسوريا كانت بحاجة إلى هذين الدورين لتقعيد وصايتها على هذا البلد، كما لخدمة أجندتها التفاوضية من بعد انطلاقة عملية السلام في مدريد، كما لخدمة المصالح الداخلية الحيوية لاستقرار النظام البعثي الأسدي نفسه في سوريا.

الوصاية السورية

من جهة، فرضت الوصاية السورية وصايتها على نفوذ إيران في لبنان. هي التي لم تستطع نهاية الثمانينيات الحيلولة دون سيطرة مسلحي «حزب الله» على المناطق الشيعية غير المتصلة ببعضها البعض، بين الضاحية الجنوبية وجنوب لبنان والبقاع الشمالي، بشكل قوّض من جغرافيا «حركة أمل» الأقرب إلى سوريا. لكن نظام الأسد، الذي كان سباقاً للقيام بمجزرة ضد عناصر «حزب الله» في ثكنة فتح الله أواخر فبراير/شباط 1987، وصارم في إبعاد نفوذ الحزب المباشر عن بيروت الغربية وحصر سيطرته في المركز بالضاحية الجنوبية، إلا أنه كان يحتاج إلى ما يقوم به «حزب الله» من عمل عسكري في الجنوب ضد الاحتلال الاسرائيلي، وتحديداً في مرحلة ما بعد مؤتمر مدريد، والشروع في المفاوضات السورية الإسرائيلية، وذلك تعويضاً عن خمود جبهة الجولان بعد حرب أكتوبر، وتأميناً لقوة ضاغطة من شأنها رفع أسهم القضية السورية في استرجاع الهضبة المحتلة بشكل كامل، أي حتى بحيرة طبرية.

التعقيد هنا أن سوريا كانت تريد الاستفادة من مهارات فصيل موال لنظام ولاية الفقيه في إيران، فصيل لا يرتضي أساس لعبة التسوية في مدريد وبعدها مع إسرائيل، ولا يقيم وزناً لمقولات حافظ الأسد حول السلام العادل والشامل. ولاحقاً، في لحظات ظهر فيها تقدم في المفاوضات بين سوريا وإسرائيل قبل أن تصل الأمور إلى انسدادها المعروف، كانت لإيران انتقادات واضحة لهذا المسار. مع هذا، كانت سوريا عملياً، معتمدة على الفصيل الموالي لإيران في لبنان والضد للتسوية، من أجل رفع حظوظها التفاوضية.

بالتوازي، فرضت سوريا وصايتها على النفوذ السعودي في لبنان. تخوفت مبكراً من أن ينقلب الدور بينها وبين السعوديين، وأن ينقلب جيشها في لبنان إلى مجرد أداة حمائية للنفوذ السعودي المتمثل بشكل محوري في التسعينيات بالحكومات التي ترأسها الرئيس رفيق الحريري. أدركت الوصاية السورية أنها إما أن تطوّع هذا النفوذ السعودي في لبنان لها، وإما أن تُطَوّع له، وتسمح لنموذج الحريري بظهور نماذج شبيهة له في سوريا نفسها، ومن داخل بطانة النظام نفسه. وهو ما حدث تقريباً، وبشكل سريع بالنتيجة، فبعد مقتل من كانت تعدّ له عملية التوريث، باسل الأسد، ظهر الاستقطاب بشكل واضح، في كل من سوريا ولبنان، بين مناخ يقوده عبد الحليم خدام في سوريا، نائب الرئيس آنذاك، ورفيق الحريري في لبنان، والى جانبه- مشاكساً- زعيم الأرجحية عند الدروز وليد جنبلاط، وبين المناخ المتشكل حول بشار الأسد في سوريا، والضابطين إميل لحود وجميل السيد في لبنان. هنا كانت فكرة التحكم السوري في النفوذين الإيراني والسعودية تمرّ بقطوع خطر.

نهاية الوساطة السورية

بالنهاية عندما طوينا صفحة التسعينيات، ودخلنا في القرن الحالي، بدأت سوريا شيئاً فشيئاً تخسر قدرتها على الوصاية على النفوذين الإيراني والسعودي في لبنان، بل صار نفوذها أكثر فأكثر يمرّ من خلال اقتدار النفوذ الإيراني نفسه، ثم تراجع نفوذها لصالح القسمة بين نفوذ إيراني، متمحوراً حول التشكيل العقائدي – العسكري والتعبوي الجماهيري في الطائفة الشيعية الذي يمثله «حزب الله»، وبين نفوذ سعودي، متمحور حول الظاهرة الحريرية، بما لها من مكنة في الأوليغارشيا المالية والعقارية.

بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري بتفجير إرهابي مروّع لموكبه، وانقسام الناس بين ساحتين، 8 و14 آذار، وانسحاب الجيش السوري، وتواصل الاغتيالات التي استهدفت في معظمها شخصيات من 14 آذار أو قريبة من هذا المناخ، كانت القسمة تظهر أكثر فأكثر بين نفوذين، سعودي من جهة، وإيراني من جهة أخرى، وواجه النفوذ الإيراني خطر عزله في البيئة الشيعية، في مقابل تكتل المسيحيين والسنة والدروز، سوى أن تناقضات هكذا تكتل عادت وأسعفت الإيراني، إذ ظهر التناقض المسيحي السني سريعاً.

كان ميشال عون العائد من منفاه الأقوى شعبياً بين المسيحيين، ورفض فكرة ترؤسه للجمهورية من المسيحيين الآخرين ومن الزعامتين البارزتين في السنة والشيعة، جعله يتقرّب من «حزب الله»، وهو الذي كان يلوم أساساً الأطراف الأخرى على ترددها في المطالبة بنزع سلاح هذا الحزب. اختلط الحابل بالنابل. حفيظة الآخرين في 14 آذار من ميشال عون، زاد شعبيته في المسيحيين في انتخابات 2005 النيابية. ومن موقعه كمكتسح وتياره للمقاعد النيابية في المناطق المسيحية، عقد التفاهم التحالفي مع حزب الله.

صارت القسمة بين تحالفين، أحدهما سعودي – أمريكي الهوى، يضم الزعامتين السنية والدرزية والأقسام المسيحية المواجهة لعون، والآخر يضم الثنائي الشيعي «حزب الله» و«حركة أمل» وتيار عون، إضافة للمرتبطين مباشرة بنظام دمشق. وقد ظهر تدريجياً ضمن هذا التحالف تصدّعاً في العلاقة بين أمل ورئيسها نبيه بري، رئيس البرلمان المستدام من 1992 الى اليوم، وعون وجماعته، في حين ازدادت العلاقة بين عون و«حزب الله» تصلّباً، بل أناطت به الإمبراطورية الإيرانية دور زعيم مسيحيي الشرق، وهي الإمبراطورية الإيرانية المنبعثة بعد انهيار نظام صدام حسين، والتي صار النظام السوري مطواعاً لها أكثر، بعد تدخلها لإنقاذه، وصار لبنان مساحة مفتوحة أكثر لنفوذها بعد الجلاء السوريّ عنه، وبنتيجة حرب تموز 2006.

المدهش في كل هذا ما حصل بعد اغتيال الرئيس الحريري (فبراير/شباط 2005) ثم رحيل الملك فهد (أغسطس/آب 2005). كان فهد هو الراعي المباشر للظاهرة الحريرية في لبنان. تبدلت العلاقة برحيل كل من الحريري الأب وفهد – وعلى الرغم من أن تسمية سعد الحريري وريثاً لوالده جاءت من العائلة الحاكمة، وثمة من يقول، من الأمير، حينذاك، الملك اليوم، سلمان بن عبد العزيز. شيئاً فشيئاً صارت السعودية تقارن بين «حصانها» في لبنان و«حصان» إيران فيه. تجد أن حصان إيران في لبنان نافع لإيران، وأن حصانها في لبنان غير نافع لها. وأكثر، بين «حزب الله» وإيران وحدة حال، التزام قلبي وعقلي مطلق، وليست هي الحال مع سعد الحريري، رغم كونه مواطناً سعودياً، لا بل بسبب كونه مواطناً سعودياً، تقاسم مقاعد الدراسة مع أبناء العائلة المالكة.

صارت علاقة السعودية بالحريري الابن باثولوجية بشكل متسارع. مرة تغضب منه لأنه لم يرض بالتقارب السعودي السوري على حساب المحكمة الدولية الخاصة بقضية اغتيال الحريري الأب، ومرة تحسبه مفرطاً في إرث الحريري الأب، ومرة تطلب منه المبيت في سرير بشار الأسد، ومرة تحاسبه على تقاعسه أمام النفوذين السوري والإيراني، وهكذا.

خاضت السعودية الصراع مع حصانها في لبنان، بدعوى تلكؤه عن مواجهة ايران بشكل صلب وجذري حين تأزمت الأمور بشكل صارخ بينها وبين الجمهورية الإسلامية. هكذا خيض الصراع الإيراني – السعودي في وعلى لبنان في السنوات الأخيرة. بالنسبة إلى السعودية، كان لهذا المسار موجبه، إذ اكتشفت السعودية أن أهم ورقة لها في لبنان ليست سعد الحريري، ولا المسلمين السنة، بل قبل كل شيء آخر قدرتها، هي، على الانسحاب من لبنان، ومقاطعته، بدءًا من مقاطعة الحريري نفسه! ولم تكن هذه النظرة مستندة على الوهم فقط. لا بل إنها تستند الى حيثيات ظهر بوضوح أنها مؤثرة، وظهر أيضاً أن خصم السعودية في لبنان، «حزب الله»،محصن إلى حد ما بوجه هذا الأسلوب، وأن أمريكا تارة وفرنسا تارة أخرى تعملان على ضبط هذا الأسلوب السعودي حيال لبنان في نفس الوقت.

الحرب في اليمن

انتقل لبنان إذًا من صراع بين نفوذين إيراني وسعودي في إثر خروج الوصي السوري منه، بشكل متزايد بعد نشوب الصراع السعودي الإيراني على سوريا، وعلى الإقليم بشكل عام، إلى عتبة جديدة بعد الحرب في اليمن بين السعودية والجماعة الحوثية المدعومة من إيران و«حزب الله». مع هذه العتبة الجديدة، صارت دينامية الصراع تمر من خلال معاقبة السعودية لوكيلها في لبنان سعد الحريري، في مقابل إيجابيتها تجاه «القوات اللبنانية» التي رأت فيها ما يحاكي نموذج حزب الله من الجانب الآخر، دون أن يكون هذا معتمدها الأساسي؛ إنما ما تعتمد عليه بشكل أساسي هي قوة مقاطعة لبنان. وهي قوة حقيقية. هذا في وقت كانت فيه حكومة نجيب ميقاتي تمني النفس بإنقاذ مالي، طريقه تذهب بشكل أو بآخر في اتجاه السعودية.

تدرك السعودية جيدًا أن هذه أقوى قوة ضاغطة لها على الوضع اللبناني. أخصامها في لبنان يكابرون على ذلك لكنهم ليس عندهم أدنى فكرة عن كيفية وقف الانهيار الحاصل. إلا الفكرة التي تجعلهم في نفس الوقت يطلبون إنجاداً مالياً من حيث لا يحبون، المؤسسات الدولية ودول الخليج، ولا يحبون في نفس الوقت أن يظهروا بمظهر المتذلل من أجل ذلك، بل يعتبرون أنه يمكنهم تحصيل ذلك بالقدرة على إظهار ما لهم من مخالب.

وبين المخالب، واقعية أو وهمية، ومنطق التذلل والتزلف، يبقى شيء أساسي واحد: تاريخ ما بعد الوصاية السورية في لبنان كان تاريخ وقوع البلد في أسر نفوذين إيراني وسعودي، لكل منهما أسلوبه، لكن حصيلة اجتماع الأسلوبين هو انهيار ليس فقط الاقتصاد والمعاش، بل قبل كل شيء فكرة عن لبنان.

الفكرة التي قدّمها وزير الإعلام جورج قرداحي عن لبنان أمام برنامج برلمان الشعب هي فكرة معادية لمفهوم الحرية في كل مكان من بلاد العرب. قامت القيامة ضده، للمفارقة، في الجزئية التي حاول فيها استثناء اليمن عن هذا العداء الموصوف لفكرة الحرية، واعتقد فيها أنه يمكنه أن يتكلم كجو بايدن عن الموضوع، وأن يدلي بدلوه في ذات الوقت كشخص ولو كان في مسيرته تخليط بين بلاطين، إلا أنه عضوي في ما يعرف بمناخ الممانعة الإيراني السوري.

حتى في ظل الوصاية السورية، كانت علاقة لبنان مع فكرة الحرية أقوى، بل تقوت في وجه الوصاية. في مرحلة صراع النفوذين الإيراني والسوري، تسممت جدياً علاقة لبنان مع فكرة الحرية، هذه العلاقة التي ظلت، ولو في الخيال، تمنح لبنان حباً من أبناء الشعوب العربية المختلفة.

وفي قضية قرداحي مؤخراً، هذا ما حصل بالتحديد. بدل مواجهة حالته كنموذج على شخص عنده مشكلة حادة، هوس في معاداة الحرية لأبناء هذه المنطقة من العالم، جرت مواجهته من موقع التباري في طعن مفهوم الحرية. هذا المفهوم الذي، ورغم كل تباعد بين التاريخ الفعلي للبنان وبينه، ظل في أصعب المراحل يمد فكرة لبنان بما يعين للاستمرار. وهو ما يبدو كما لو أنه نضب الآن.