أثناء عشاء مع صديق، قادنا النقاش إلى الاقتصاد ونموذج الرفاه الإسكندنافي باعتباره النموذج الأنجح على الإطلاق. علّق الصديق بقوله: «هذه أنظمة جيدة، يتمتع مواطنوها برعاية صحية مجانية، تعليم مجاني، تعاون ومشاركة العمال في المصانع،… إلخ».

لكن الشك في نجاحات الرأسمالية بشكل عام، حتى ولو اتخذت طابعًا إنسانيًا تملكني، وتساءلت عما يمكن أن نكتشفه، إذا قمنا بسبر أغوار هذا النظام، وإدراك ما وراء المشهد الطوباوي الذي تصدره تلك البلدان إلى العالم الخارجي، باعتبارها التحقق المادي للجنّة على الأرض.

هَرم النموذج الإسكندنافي الاستثنائي

تعتبر الدول الثلاث (السويد، الدنمارك، النرويج)، الثلاثة أضلاع في هرم النموذج الشمال أوروبي، حتى وإن تداخلت خصائص كل من فنلندا وآيسلندا مع الدول، لكن الدول الأولى تقدّم باعتبارها أسعد دول العالم التعيس، بفضل تطبيقها لسياسات اقتصادية واجتماعية فريدة، نعِم بفضلها مواطنو هذه الدول برفاه عيش لم يتوفّر لسواها من سكان الكوكب.

ورغم بعض الاختلافات، تشترك البلدان الثلاثة في خصائص معينة: قطاع عام كبير (30% من الأيدي العاملة على حسب (The economist: The Nordic countries, the next supermodel) عدد سكان صغير (10،23 مليون نسمة للسويد، 5،806 مليون نسمة للدنمارك و 5،328 مليون نسمة للنرويج في 2019)، مستوى عالٍ من النقابات والتنظيمات النقابية الحامية للعمال، مع نظام تجارة حرة وحرية انتقال لرؤوس الأموال. بهذه الخصائص، فإن النموذج الإسكندنافي هو في الواقع اقتصاد «هجين»، مزج بين أساسيات الرأسمالية، وبعض مظاهر الاشتراكية. باختصار، وجد هذا النموذج تماسكًا معينًا، «وضعًا راهنًا» معينًا بين العمل ورأس المال.

ولكن هل هذا النموذج ممكن في العموم ؟ هذا السلام –حتى لو مؤقت– بين رأس المال والعمال؟

تكمن استثنائية هذا النظام، في استحالة تطبيقه على البلدان الرأسمالية الأخرى، خاصةً دول العالم الثالث، فهناك ظروف اقتصادية وسياسية واجتماعية وتاريخية وجغرافية جعلت من الممكن إنشاء النموذج الإسكندنافي لم تتوفّر لغيره من البلدان. كما يقول الاقتصادي فريديرك فراح:

شمال أوروبا أبعد ما يكون عن أن يكون هذا النموذج الطاهر الذي يجب تقليده. دعونا لا ننسى أبدًا أن النماذج الاجتماعية هي قبل كل شيء وطنية، وهي نتيجة لتسويات تاريخية لا يمكن تكرارها أحيانًا.

من الأشياء التي يجب ملاحظتها تاريخيًا أنّ هذه البلدان لم تعانِ كثيرًا من الحربين العالميتين الأولى والثانية. فبينما دمرت الدول الأوروبية الأخرى كليًا أو جزئيًا بسبب الحربين، وبالتالي تأخرت في إعادة بناء اقتصاداتها، بدأ الإسكندنافيون اقتصاديًا واجتماعيًا، على أسس جيدة. فمثلًا، في السويد، خلال الحرب العالمية الأولى، بينما مات الملايين من رجال الطبقة العاملة في الخنادق في الحرب المروعة، استفاد الرأسماليون السويديون من بيع خام الحديد والمواد الأخرى.

أما في الحرب العالمية الثانية، تعاونت السويد وكانت شريكًا اقتصاديًا لألمانيا النازية وتاجرت مع الحلفاء أيضًا. وبالنسبة للدنمارك، فإنّها تمتعت بعلاقات مميزة مع ألمانيا النازية وكانت تحت «الحماية». فقط النرويج، من بين الدول الثلاث، عانت من آلام الحرب (ولكن لم تدمر تمامًا مثل روسيا أو ألمانيا مثلاً). لاحقًا ستتلقى الدول الثلاث مساعدات مالية من خطة مارشال، والتي ستساعدهم في تعزيز اقتصادهم.

بين عامي 1945 و 1973، سيتوسع النظام الرأسمالي بشكل كبير. تم حساب متوسط النمو العالمي بنسبة 4.8٪ سنويًا خلال هذه الفترة، مما سوف يساعد مرة أخرى اقتصاد تلك البلاد الثلاثة. فكما تقول مادلين جوهانسون، عدم الانخراط في الحروب ساعد تلك البلاد على تحسين وضعهم الاقتصادي، وفي السويد على وجه التحديد لم يكن هناك تدمير ولا إعادة بناء، كان هناك قدر أكبر من فائض القيمة الإضافية المتاحة. ولم تحتفظ الطبقة الحاكمة بهذه الأرباح الإضافية لنفسها فحسب، بل دعمت إنشاء دولة الرفاهية.

 يجب أن نتذكر أن لا شيء يتم بسهولة، خاصة في السياسة. فالصراع الطبقي كان على أشدّه في تلك البلدان، ولأسباب عديدة كانت النقابات قوية للغاية هناك. وقد أتاح ذلك تقديم تنازلات من قِبل رأس المال، في فترة ما بين الحربين وخاصة بعد الطفرة الرأسمالية بعد عام 1945. فكما يقول كال كولمان وجوناس فولداجر عن الدنمارك: «تم كسب الامتيازات بالنضال ولكن تم التفاوض على المكاسب من خلال الدولة، حيث كانت الاشتراكية الديمقراطية، والبيروقراطية النقابية، التي كانت تمثل من 60% لـ 80% من العمال، تتفاوض نيابة عن الطبقة العاملة». أصبحت الدولة منخرطة في كل شيء، من خلال هذا التعاون بين الرأسماليين وبيروقراطية الدولة. اكتسبت الرأسمالية الدنماركية سلامًا طبقيًا واكتسب العمال أحد أعلى المستويات المعيشية في العالم.

إذن، فهي سياسة نجحت لفترة معينة وظرف تاريخي محدد بمساعدة الظروف الجغرافية والسياسية والاقتصادية والظروف الخارجية، مرتبطة بحركة نقابية قوية للغاية جعلت من الممكن تحقيق وإنشاء هذا النموذج.

حدود النموذج الإسكندنافي

تجعل مزايا النموذج الإسكندنافي الكثير من الناس يعتقدون أنه نموذج «يجب اتباعه». ولكن كما قلنا أيضًا، هذا النموذج خُلق في ظروف معينة، لا يمكن تطبيقها أو نقلها كما هي في بلاد أخرى، خصوصًا في بلاد عالم ثالث، ومع أزمات حدثت في العالم مثل أزمة 2007-2008 وأزمة كورونا.

أيضًا، هذا النموذج الرأسمالي ذو وجه «إنساني» له حدود. فتلك البلاد الإسكندنافية، تظل بلدانًا كان وما زال نمط إنتاجها رأسماليًا، ومع وجود طبقة اجتماعية مهيمنة تسيطر على المجتمع: البرجوازية. طالما أن هذه الطبقة موجودة، فإنها سترغب -في ظل ظروف اقتصادية واجتماعية معينة- في التوسع اقتصاديًا وخوض صراع طبقي ضد العمل. هذا ما حدث في السويد في سبعينيات القرن الماضي، على سبيل المثال، حين زاد اتحاد أرباب العمل السويدي عدد أعضائه وجمع الأموال وأطلق حملة دعائية ضد التنظيم القانوني المفرط، ومن أجل تحرير الاقتصاد، والحد من الضرائب وتقليل الالتزامات المفرطة لدولة الرفاهية، أو خطة مايدنر، قبل أن تطبق من الأساس، (وهي خطة سويدية اقتصادية للتحكم الاجتماعي التدريجي على الملكية)، فشلت، وتم محاربتها بشراسة من قبل رجال الأعمال، رغم التأميمات ودولة الرفاهة وقوة النقابات، كانت تمتلك بعض العائلات حصة غير متكافئة من وسائل الإنتاج، فطالما أن هناك رأسمالية، ستكون هناك دائمًا «هذه الرغبة في تحرير الاقتصاد» وهذه الحركة ذهابًا وإيابًا للطبقات الاجتماعية بين العمل ورأس المال.

أيضًا، نظرًا لأنّ تلك البلاد لم تخرج من الرأسمالية، فهي أيضًا عرضة للأزمات الاقتصادية وكل ما يمكن أن تحدثه الرأسمالية كمشاكل اقتصادية. فمثلاً في عام 1991، أدى انهيار الفقاعة في أسعار الأصول الذي أعقب ارتفاع أسعار النفط إلى هروب رؤوس الأموال وإفلاس داخلي في السويد، أدت هذه الأزمة إلى بطالة جماعية وهجوم مباشر على دولة الرفاهية السويدية (تم إلغاء 90 ألف وظيفة في القطاع العام في أوائل التسعينيات)، وعلى الرغم من حدوث انتعاش اقتصادي في السويد بعد ذلك، إلا أنّ الهجوم المنتظم على دولة الرفاهية السويدية لم يهدأ. لقد انخفضت ضرائب الثروة، وازداد عدم المساواة وكذلك الفقر.

ولأنّ الواقع أثبت الأزمات كجزء في بنية النظام الرأسمالي، فالسويد كدولة رأسمالية، ليست استثناءً. كذلك البطالة والفقر واللا مساواة لم تترك السويد. بالطبع، لن نرى صور الفقر الشديد القبيح مثل دول أفريقيا أو في آسيا أو حتى في بلاد أوروبية أخرى (فرنسا على سبيل المثال)، ولكن هناك بالتأكيد بطالة وفقر في بلد مثل السويد.

وهكذا، كما يشير الاقتصادي فريدريك فراح، في مقال له على جريدة لوفيجارو الفرنسية، عام 2018، فإن النظام السويدي «قد تحرر» و«أصبح غير متساوٍ من نواحٍ عديدة»، ويرجع ذلك أساسًا إلى ارتفاع الأجور المرتفعة من الأساس، والهبات الضريبية، وتخفيض الضرائب على القيم العقارية، وارتفاع أسعار المساكن، وبطالة 18٪ من ذوي المهارات المتدنية والبطالة العامة التي وصلت لـ 8.2٪ من السكان في 2020.

بالإضافة إلى ذلك، أظهرت أزمة كورونا خلل النظام السويدي في الصحة، بسبب الخصخصة في قطاع الصحة، وتحرير سوق العمل وتوحيد العقود غير المستقرة، لذلك عندما احتاج سكان السويد إلى أجهزة التنفس الصناعي في بداية الوباء، أصبح من الواضح للجمهور أن السويد لم يكن لديها ما يكفي من هذه الأجهزة الحيوية. فقبل التحرير، احتفظت المستشفيات في جميع أنحاء البلاد بمخزون 2000 جهاز تنفس وكان عددًا مكافئًا إضافيًا متاحًا في مخزون الطوارئ. الآن العدد الإجمالي لأجهزة التنفس المتاحة هو /101 من هذا الرقم. تعاني السويد أيضًا من نقص مزمن في الأدوية، بعد خصخصة الصيدليات وتفكيك مخزون الدولة، فتم تحطيم نظام الرعاية الصحية الاجتماعية إلى أشلاء، وتحويلها إلى وحدات منفصلة في المنافسة مع بعضها البعض.

استغلت البرجوازية السويدية ارتخاء الحركة العمالية والنقابية، بالإضافة إلى الأزمات، لشن هجوم مباشر على المكاسب الاجتماعية. فعلى الرغم من استمرار وجود مساعدات اجتماعية، إلا أنّ الفقر وعدم المساواة والبطالة، بالإضافة إلى الكورونا، أبعد ما يكون عن القضاء عليها بل إنها آخذة في الازدياد. فكما يقول فرديدك فراح:

لا تزال مسألة وجود الطبقات الاجتماعية والعلاقات التي تحافظ عليها فيما بينها تُطرح في المجتمع السويدي. لأكثر من ثلاثين عامًا، بالكاد تعرف الفئات الشعبية سياسات مواتية لها بصراحة. إنها الفئات الغنية التي استفادت من التغييرات في الضرائب والتطورات الاقتصادية الأخيرة. ازداد الصراع بين رأس المال والعمالة ولا تزال شبكة القراءة هذه ذات مغزى إلى حد كبير.

إذا أخذنا دولة أخرى من النموذج الإسكندنافي، وهي الدنمارك، نجد ارتفاعًا حادًا في عدد المشردين بين عامي 2009 و 2015 بنسبة 23٪ (6،138 بلا مأوى)، وتراجع الأمن المالي. أيضًا في عام 2002، أجرت حكومة المحافظين الليبراليين تغييرات، وخفضت مزايا المساعدات الاجتماعية الكبيرة لمجموعات معينة، مثل اللاجئين والمهاجرين الجدد والأقليات العرقية. وقد عرضت هذه التغييرات كجزء من إصلاح سياسة الهجرة. ومع ذلك، كان لهذه التغييرات آثار دائمة على نظام الرعاية الاجتماعية وعلى الفقر في الدنمارك ككل، بالإضافة إلى مرونة العمل التي زادت على حساب الأمن في العمل، مع انخفاض إعانات البطالة، والسيطرة على العاطلين عن العمل، وزيادة الفقر (64500 طفل فقير في عام 2017، وفق إحصاءات مشروع بورجن ووجهات النظر الدنماركية 2019: التحولات الكبيرة ستبدأ فترة جديدة من الصراع الطبقي).

وفق مقال «الوهم الدنماركي: الفجوة بين المبدأ والممارسة في نظام الرفاهية الدنماركي»، تواصل الدنمارك تقديم نموذج مثير للإعجاب لدولة الرفاهية الفعالة. ومع ذلك، يخضع نظام الرعاية الاجتماعية فيها لتغييرات جوهرية وأساسية لم تتم معالجتها بشكل كافٍ بعد. فعلى الرغم من أن المجتمع الدنماركي يدعي التمسك بالمبادئ الأساسية لدولة الرفاهية -التضامن بين المواطنين والأحكام الخاصة بالمحتاجين- في الممارسة العملية، فإن الخطاب العام والسياسات الحكومية قد خلقت نموذجًا أكثر تحررية وفردية يبتعد عن مبادئ تأسيسها. إلى أن يتوقف الشعب الدنماركي عن التبشير الأخلاقي حول التضامن والاعتراف بالطبيعة المتغيرة لنظام الرفاهية الخاص بهم، سيزداد عدد الفقراء والمستبعدين في الدنمارك لملء هذه الفجوة المتزايدة بشكل خطير بين الإدراك والممارسة.

أمّا عن السنوات الأخيرة، وباعتراف الشعب الدنماركي نفسه، فإنّ نموذج الدولة لم يحقق هذا الهدف (أي الإطار المادي الضروري لعيش حياة معقولة). أفاد مقال نشر عام 2008 في Jyllandsposten أن استطلاعًا أجرته Ugebrevet A4 أظهر أن 59% من الذين شملهم الاستطلاع يعتقدون أن الفجوة الاقتصادية بين الأغنياء والفقراء بحاجة إلى تقليص. على حد تعبير بير شولز يورجنسن، رئيس لجنة الرفاه البديل: «لا يلتزم مجتمع الرفاهية بمبادئه الخاصة – لقد ازداد عدم المساواة، وعاد الفقر».

لقد ازداد الفقر في الدنمارك، ويهدد بالاستمرار في الارتفاع في السنوات القادمة إذا بقيت الاتجاهات الحالية على حالها». ويمكننا أن نقرأ في نفس المقال أن «هناك العديد من المؤشرات على أن الفقر في الدنمارك آخذ في الازدياد». وفقًا لمقال نُشر عام 2009 في صحيفة Avisen.dk الإلكترونية، زاد عدد الفقراء في الفترة من 2001 إلى 2006 بمقدار 55 ألف مواطن. لماذا يتزايد الفقر في بلد به نظام رعاية يهدف إلى ضمان «تمتع جميع المواطنين بحقوق متساوية في الضمان الاجتماعي؟».

هناك ما يمكن أن نطلق عليه «بداية تفكيك دولة الرفاهية الدنماركية»، وهو ما دفع عالم الاجتماع تيرف بوكر جاكوبسن إلى القول:

المنظور العام هو أنه كانت هناك فكرة أنّ الأمور أصبحت أفضل وأفضل من جيل إلى جيل. لكن هناك شيء يشير إلى أنّه ليس من المؤكد أنّ هذا سيكون الحال بالنسبة للجيل الذي ينمو الآن.

على نفس الطريق تسير السويد والدنمارك، بالرغم من معاناة السويد من هجوم أقوى وتحرير اقتصادي أكثر عنفًا.

ما يمكن أن يواجهنا بصعوبة في أطروحتنا وتحليلنا هو النرويج. والواقع أن النرويج تبدو «استثناء الاستثناء». لأنه -للوهلة الأولى- وبينما عانت السويد والدنمارك من انتكاسات وأزمات واستئناف «نسبي» للصراع الطبقي وزيادة نسبية في الفقر والبطالة، هربت النرويج -حتى الآن- من الواقع الرأسمالي. ومع ذلك، فإن الأمر يتعلق فقط بتحليل الاقتصاد لمعرفة أنّ الصرح ليس متينًا كما يبدو.

بالفعل، «النجاح» مفهوم أكثر عندما نحلل أن الاقتصاد النرويجي «يعتمد بشكل غير متناسب» على النفط، مع عدد سكان صغير جدًا (5 ملايين نسمة). فهذا يفسر سبب «النجاح»، حيث «فشلت» السويد والدنمارك. بالإضافة إلى ذلك، كدولة ذات اقتصاد رأسمالي، تستغل النرويج العمالة الرخيصة في العالم. فتستغل الشركات النرويجية مثل Equinor أو Norsk Hydro أو Aker Solutions القوى العاملة بين حوالي ثلاثين وخمسين دولة. (وحيث توجد شركات رأسمالية، خاصة العملاقة، يوجد استغلال العمل والعمال). هذه الشركات، المملوكة جزئيًا للدولة النرويجية، تستغل العمالة في جميع أنحاء العالم. يعتمد جزء من الازدهار النرويجي على استغلال العمالة خارج حدودها، فكما يقول فيكتور هوجو: «تصنع جنة الأغنياء من جحيم الفقراء». الدولة النرويجية ليست استثناء من هذه القاعدة.

كشف فيلم وثائقي تلفزيوني دنماركي عن ظروف عمل خطرة، وحالات وفاة عرضية، وتلوث، واستخدام أطفال بموجب مقاول لشركة Telenor (شركة اتصالات نرويجية متعددة الجنسيات)؛ لتصنيع أبراج الهوائيات المتنقلة. أيضًا هناك شركة نرويجية متهمة بزعزعة استقرار الصومال، من خلال جلب رجال الميليشيات المسلحة إلى مناطق النزاع بالفعل وإذكاء الخلافات القديمة. ولم تتوقف الرأسمالية النرويجية «الناجحة»، باستغلال العمالة حول العالم أو زعزعة استقرار دول عالم ثالث مثل الصومال فحسب، بل شاركت أيضًا في الأنشطة الإمبريالية، كعضو في الناتو وكدولة نفطية. وهكذا شاركت النرويج في تدمير ليبيا، وشاركت عبر شركتها Equinor في فساد ورشاوى لأخذ النفط الإيراني، وهي متهمة بالمساهمة عبر شركة Aker Solutions في انتهاك حقوق الإنسان من خلال تقديم خدمات للقاعدة البحرية الأمريكية في جوانتانامو.

بالإضافة إلى ذلك، تلوث الرأسمالية النرويجية الكوكب عبر الشركات متعددة الجنسيات، وخاصة النفطية، كما يتطلب المنطق الرأسمالي. وبالتالي، حتى لو كانت النرويج واحدة من أنظف البلدان و«أكثرها خضرة» على هذا الكوكب داخل حدودها، فإن الأمم المتحدة تعتبر مع ذلك أن التلوث الذي تصدره يضع النرويج في المرتبة 128 ويجعلها واحدة من أكبر 7 دول مصدرة لثاني أكسيد الكربون في العالم. فالنرويج بلد رأسمالية «ناجحة» بالطبع (وهو بالتأكيد نجاح مؤقت)، ولكن يأتي هذا النجاح ببؤس وإفقار بلاد وعمال آخرين وبتلوث البيئة.
هذا «النجاح» يجعل النرويجيين يسقطون في تناقض رأسمالي آخر.

في الواقع، فإن «ازدهار النرويج» (الذي رأيناه يعتمد جزئيًا على النفط وتلوث الكوكب، وعلى استغلال العمل في العالم، وأيضًا بفضل الحركة العمالية والنقابية هناك) أدى إلى حقيقة أنهم، بسبب ارتفاع أجور الموظفين النرويجيين، يريدون تقليل وقت العمل من أجل «الاستمتاع بالحياة». ومع ذلك، في نظام رأسمالي -كما رأينا- ليس على المرء «الاستمتاع بالحياة» (وبالتالي تقليل وقت العمل)، لأن هذا يؤدي إلى انخفاض القدرة التنافسية مقابل الشركات الأخرى من بلدان أخرى. ومن هنا جاء «الانزعاج» لرجال الأعمال النرويجيين، مثل قادة الشركة Norwegian منخفضة التكلفة، الذين يهددون موظفيهم بتجنيد أطقم آسيوية أكثر اجتهادًا وأرخص حسب رأيهم للرحلات الأوروبية، فعند الأزمة ترجع علاقات الإنتاج والملكية إلى أصلها. فالرأسمالي -حتى النرويجي- يهدد والعامل النرويجي عليه أن يجد حلاً للأزمة.

يتكشّف التناقض الرأسمالي بين وقت الفراغ، وانخفاض وقت العمل وانخفاض القدرة التنافسية. ففي النظام الرأسمالي، حتى مع وجود «وجه إنساني»، لا يوجد وقت فراغ «حقيقي»:

يرتبط اليوم بالوقت المنتج، والليلة بإعادة تكوين قوة العمل بفضل النوم. ومن هنا إلى الاعتقاد بأن هناك وقتًا مفيدًا (وقت العمل أثناء النهار) ووقتًا غير مفيد (وقت الثقافة أو الاحتفال أو التعايش الليلي)، هناك خط رفيع.
الفيلسوف الفرنسي ميكائيل فوسيل في Libération.

التشاركية والسيطرة العمالية على المصانع

النموذج الإسكندنافي معروف بـ «الديمقراطية العمالية». ومع ذلك، لو كان للعمال حقوق أكثر مما هي عليه في معظم البلدان الرأسمالية، حتى في باقي أوروبا، فلا يزال هناك الكثير الذي يتعين القيام به. فعلى سبيل المثال، لا تزال الدولة النرويجية (والدول الأخرى) تترك الغالبية العظمى من العمال يعملون في الشركات الرأسمالية من أجل البقاء. هذا هو الحال أكثر في الديمقراطيات الاجتماعية الأخرى.

علاوة على ذلك، وكما يجيب مايكل أ. مكارثي على سؤال: ما هي أهم أشكال السلطة؟ (أي في تلك البلدان):

تتخذ الشركات، في قدرتها البسيطة على تخصيص استثماراتها ومواردها، قرارات خاصة ذات آثار عامة ضخمة. وهذه القوة تقوض مؤسسات الديمقراطية التمثيلية.

ويستكمل الكاتب:

حتى في أفضل الديمقراطيات الرسمية -انتخابات حرة ونزيهة تمامًا- ستظل الشركات الخاصة تتمتع بنفوذ غير متناسب على مسؤولي الدولة المنتخبين الذين يتعرضون لضغوط لدعم السياسات التي تحمي جني الأرباح.

نتفق أيضًا مع رأي المفكر الماركسي لويس جيل، الذي يرى أنه طالما ظلت علاقات الملكية دون تغيير، فإن الاشتراكية الديمقراطية تديم الوضع الراهن واضطهاد رأس المال للعمل. لذلك، كما رأينا، لم يتم تثبيت خطة Meidner في السويد. هذه الخطة هددت رأس المال بشكل مباشر وبالتالي قوضتها. لذلك أيضًا، رأينا كيف هدد رجال الأعمال النرويجيين موظفيهم عندما بدأ يحدث نقص في التنافسية الرأسمالية.

الأمر نفسه ينطبق على الصندوق السيادي النرويجي، الذي أُنشئ في عام 1990 لاستثمار الأرباح الزائدة لشركة النفط الحكومية. ومع ذلك، وكما يشير مكارثي: «يُحسب له أنّه لعب دورًا نشطًا في سحب الاستثمارات من بعض المنتجات الأكثر ضررًا»، لكن الصندوق يسترشد في نهاية المطاف بالحافز للربح ويقيده المنافسة الرأسمالية العالمية. ويستكمل:

عندما تقوض الأزمة الرأسمالية النمو، تميل هذه التحالفات المضطربة إلى الانهيار وغالبًا ما تتراجع الديمقراطيات الاجتماعية إلى مساراتها الخاصة للتحرير الاقتصادي اليميني، وهي خاصية تشترك فيها مع أنواع مختلفة جدًا من الاقتصاديات الرأسمالية، مثل الدنمارك وألمانيا وهولندا والولايات المتحدة.

بالطبع لن ننكر أنّ هناك ديمقراطية في تلك البلاد الإسكندنافية الثلاثة، ولكن عندما نبحث ونسأل أين تتواجد السلطة الحقيقية في المجتمع، فالإجابة بالنسبة لنا بسيطة: السلطة الحقيقية والتوازن لصالح رأس المال. فكما يمكننا أن نقرأ في نفس المقال :«نحن نشير إلى تطلعاتنا إلى مقرطة أعمق للمجتمع مما تسمح به الديمقراطية الاجتماعية».

ليس جهنم لكنه ليس الجنة

في 2015، أعلن بيرني ساندرز «أنّ على أمريكا أن تصبح مثل الدول الإسكندنافية». هذه أمنية طيبة، ولكنها تثبت أوهام أيديولوجية الديمقراطية الاجتماعية. فالظروف التي أدت إلى هذا النموذج في البلاد الإسكندنافية غير موجودة في أمريكا: طبيعة الصراع الطبقي متباينة، والظروف التاريخية للنموذجين، وهناك فجوة كبيرة بين نسبة العمال والموظفين الأعضاء في النقابات والذين يشاركون في الضغط في عملية الصراع الطبقي في البلاد الإسكندنافية وأمريكا، وتعرضت تلك النقابات والتنظيمات اليسارية لإضرابات في أمريكا لم تحدث في البلاد الإسكندنافية،… إلخ. أيضًا، وضع الاقتصاد الأمريكي مختلف تمامًا عن وضع البلاد الإسكندنافية، فالأمنيات الطيبة تبقى محض آمال.

ولقد رأينا حدود النموذج الإسكندنافي: مع الأزمات والهجمات المتتالية ضد دولة الرفاه، عاد الصراع الطبقي، خاصة في الدنمارك والسويد. فمثلاً في السويد، كان هناك 329 يومًا إضراب في 2017. وبعد هذا التاريخ، شهدت السويد ارتفاعًا حادًا في عدد أيام العمل الضائعة بسبب الإضرابات، وبحسب جرائد يسارية فرنسية، حدث هجوم ضد حق الإضراب في تلك البلد في 2019. ووفقًا للأمانة الدولية لاتحاد العمل الوطني، إذا وقّعت نقابة واحدة على الأقل على اتفاقية لا تسمح بحق الإضراب، فلن تتمكن أي نقابة أخرى من الدعوة إلى إضراب.

أما في الدنمارك، قام عمال القطاع العام بالإضراب ردًا على المفاوضات حول اتفاقية مفاوضة جماعية جديدة. ردت الحكومة بتهديد 440.000 من العاملين في القطاع العام (من إجمالي 825.000) بإغلاق أبوابها، والتي يمكن أن تدخل حيز التنفيذ في أي وقت. ويلاحظ كاتب المقال بأنّ هذا قد يؤدي إلى أكبر صراع طبقي منذ 20 عامًا. والأمثلة كثيرة لا يمكننا سردها جميعًا هنا، ولكن يمكننا أن نستنتج بأن هناك عودة نسبية للصراع الطبقي في تلك البلاد. ليس بشراسة دول العالم النامي، ولكنه موجود. فقد اكتسبت الطبقات الحاكمة هناك سلامًا اجتماعيًا لبضعة عقود ولكنه لن يبقى إلى النهاية.

وعلينا أن نؤكد هنا، أنه ليس هدف هذه الدراسة الصغيرة أن تقلل من شأن جودة الحياة في تلك البلاد، ولكن هدفها هو تقديم رؤية نقدية لذلك النموذج، ولقد اتضح أنّ هذا النموذج يتآكل وأنه مبني على تعب ودماء العمال، سواء خارج أو داخل هذه البلاد. فإن رأس المال «هو عمالة ميتة ويشبه مصاصي الدماء لأنه يعيش فقط عن طريق امتصاص العمل الحي، ويعمّر أطول كلما زاد امتصاصه للعمل الحي» كما قال كارل ماركس.