هل من الضروري أن يؤمن الإنسان بالله على الطريقة الإسلامية كي يستطيع إنجاز أفعال خارقة أو تأتي على يديه كرامات على الطريقة الصوفية؟

السؤال الأعمق من ذلك، هل من الضروري أن يؤمن الإنسان بشريعة دينية معينة كي يحقق نفس المعجزات؟

سؤال تبدو إجاباته مختلفة من معتقد لآخر، بين رافض ومؤيد، ولكن من وجهة نظر صوفية يمكننا أن نجد إجابة مثيرة.

الشيخ الصوفي المسلم محيي الدين بن عربي يرى– رغم إسلامه- أنه ليس من الضروري ذلك؛ فقد أثبت كرامات الرهبان في أديان أخرى، وأثنى عليهم، بل وأثبت إمكانية تحقيق تلك المعجزات أو الكرامات حتى لمن لا يؤمنون بشريعة سماوية.

يقول ابن عربي:

ولما كان من لا يؤمن بالشرائع المنزلة يشاركنا في الرياضة والمجاهدة وتخليص النفس من حكم الطبيعة، ويظهر عليه الاتصال بالأرواح الطاهرة الزكية، ويَظهَر حكم ذلك الاتصال عليه مثلما يَظهَر على المؤمنين العاملين منا هذه الأعمال بحكم الشرائع المنزلة، وَقَع التشبيه والاشتراك بيننا وبينهم في هذا القدر عند عامة الناس.

ثم يضيف عن هؤلاء الروحانيين الذين لا يؤمنون بشريعة سماوية (يقصد من لا يؤمنون بالديانات الإبراهيمية: الإسلام والمسيحية واليهودية):

ولما تعلَّقوا بالعلوم التي يعطيها كشف الرياضة وإمداد الأرواح العلوية، «انْتَقَش في هذه النفوس الفاضلة جميع ما في العالم، فنَطَقُوا بالغيوب».

كلام ابن عربي واضح، فهو يثبت لمن لا يدينون بشريعة معينة إمكانية التنبؤ بما غاب عن الناس، والاتصال بالأرواح العلوية، بمدد من الله بحسب ما يتضح في سياق حديثه، رغم عدم إيمانهم به على الطريقة التقليدية.

ولعل ذلك يتسق مع أفكار ابن عربي التي سماها «دين الحب»، الذي جعل قلبه قابلًا لكل صورة، فهو مرعىً لغزلانٍ، ودير لرهبانِ وبيتٌ لأوثانٍ، وكعبة طائفٍ، وألواح توراةٍ، ومصحف قرآن.

ما سبق يأخذنا إلى محاولة تحليل «الكرامة» أو الفعل الخارق للعادة، الشائع عند الصوفية.. لماذا لا يقتصر عليهم ونراه في ثقافات أخرى غير إسلامية؟ وإن كانت هذه الظواهر غير مستساغة وفقًا للعلوم العقلية، فكيف تحدث؟ وما الرابط المشترك بين الصوفية المسلمين وغيرهم من أصحاب الديانات أو المذاهب الروحانية الأخرى؟

الكرامة بين الدين والعلمانية: خوارق بلا دين

المعرفة عند الصوفية مركزها القلب لا العقل، فهي أداة الكشف الباطني والإلهام الروحي الذي يبلغه الإنسان بتصفية نفسه وتطهير قلبه.

فالقلب عند الصوفي الشهير أبو حامد الغزالي هو محل العالم الحقيقي، لأنه «نطفة ربانية مدبِّرة لجميع الجوارح»، معتبرًا استقباله وترجمته للمعارف، كالمرآة التي تعكس صورة من يقف أمامها، حيث يقول:

كما أن للمُتَلوَّن صورة، ومثال هذه الصورة ينطبع في المرآة، كذلك لكل مَعْلوم حقيقة، ولهذه الحقيقة صورة تَنْطبع في القلب.

وقسّم الغزالي مراتب الإدراك التي يتدرج خلالها الصوفي السالك طريقه إلى الله، وجعل أعلى مراتبها مرتبة الكشف الروحي، التي تحدث عندها «المعرفة الروحية»، أو ما يعرف عند الصوفية بـ«علم الباطن».

هذا العلم الروحي عند الغزالي هو: نور يظهر في القلب عند تطهيره وتزكيته من صفاته المذمومة، وينكشف عن ذلك النور أمور كثيرة كان يسمع (الصوفي) من قَبْل أسمائها، فيتوهم لها معاني مجملة غير واضحة، فتتضح إذ ذاك، حتى تحصل المعرفة الحقيقة بإدراك حقائق علم الدنيا وعلم الآخرة، ومثل هذا الأمر ممكن في جوهر الإنسان، لولا أن مرآة القلب قد تراكم صدؤها وخبثها بقاذورات الدنيا.

نفس المعنى يؤكد عليه محيي الدين بن عربي، حيث يقول عن استشفاف ما يجري في نفوس الآخرين، ومعرفة ما بداخلهم من دون أن ينطقوا به:

الأرواح الإنسانية إذا صَفَت ارتَقت مَعارج حتى ترى قلوب العباد، فتعرف ما تحويه صدورهم، وما تنطوي عليه ضمائرهم، وما تدل عليه حركاتهم. وكل قلب كتاب مسطور لكل ما فيه من الخواطر والعلوم. وبعضهم يَرتَقِم في مرآة انطباع الذي في نفس الغير على وجه المقابلة لصفائها.

الغزالي وابن عربي والصوفية عمومًا، حتى من غير صوفية المسلمين، يعتقدون أن في الإنسان قوة غير القوى الحسية والعقلية، قوة ترى الحقيقة في صورة لا هي محسوسة ولا هي معقولة، بل «مُتَذَوَّقة».

في المقابل فإن تجارب -يمكن أن توصف بالعلمية- خارج الإطار الديني، تعتقد أن للمعرفة وسائل أخرى غير عقلانية تتسم بالغموض، ومنها ما قيل عن العقل الباطن، والتنويم المغناطيسي، والقدرات النفسية الفائقة.

الشاعر الفرنسي ألفريد دي موسيه (تـ1857م) يقول عن إنتاجه الفكري:

أنا لا أعمل، ولكن أسمع فأنفعل، فكأن إنسانًا مجهولًا يناجيني في أذني.

وكذلك يقول مواطنه الشاعر الشهير ألفونس دو لامارتين (تـ1869م) عن الإلهام المعرفي الذي يأتيه:

لست أنا الذي أفكر، ولكن أفكاري هي التي تفكر لي.

نفس الأمر أيضًا عند رينيه شار الشاعر الفرنسي (تـ1988م)، الذي حكى أنه قد يبدأ مساءً في كتابة قصيدة شعرية، ويصعب عليه إتمامها قبل نومه، فإذا نام واستيقظ وجدها تامة في ذهنه فيكتبها.

ما نقلناه عن شعراء علمانيين يلتقي بشدة مع حكايا الصوفية عن الإلهامات والمعارف التي تأتيهم بطرق لا تتبع الأسس العلمية المنطقية، كما نقلنا عن الغزالي وابن عربي.

وتفسير هذه الصور بدأ يدرسه علم حديث يُهاجَم كثيرًا من العلماء التقنيين أو المعمليين، ألا وهو «الباراسيكولوجي»، الذي يدرس ظواهر الإدراك فوق الحسية، والقوى الخارقة للإنسان، من منطقة على هامش الحقل العلمي السيكولوجي، لا من ناحية الغيبيات الدينية.

ولأن المنطق العلمي يدرس الظواهر المعقولة، فإن محاولة تفسير الظواهر اللامعقولة بالاقتراب من المنطق العلمي مسألة تخضع للهجوم دائمًا، ولكن الوقائع الواردة في مصادر الباراسيكولوجي، وكتب التراث الديني، وعلى ألسنة كثير من الناس، في الديانات التقليدية أو الفلسفية الروحية، تصر على وجود هذه الظواهر، كما سنبين.

يا سارية الجبل: التخاطر بين الإيحاء والمعجزة الدينية

القصة الأكثر شهرة في التراث الإسلامي التي يرددها الصوفية وغير الصوفية عن التخاطر، هي التي تحكي ما حدث بين الخليفة عمر بن الخطاب والصحابي سارية بن زنيم الدؤلي الكناني، خلال فتح نهاوند في بلاد فارس.

كان عمر يخطب على المنبر في المدينة المنورة، وفجأة أثناء الخطبة نادى: «يا سارية: الجبل، الجبل، من استرعى الذئب الغنم فقد ظلم». فاستغرب سامعو الخطبة من الصحابة الحاضرين في المسجد.

ولكن بعد أن قدم سارية إلى المدينة وبعد أن تحقق النصر للمسلمين، تبين أن سارية وهو على أبواب نهاوند سمع هاتف عمر في أذنه فعلًا، وكان هذا الهاتف سببًا في أن يصعد إلى سفح جبل هو ومن معه.

وتبين له بعد ذلك أنه إن كان قد ظل أسفل الجبل كان سيهلك من جيش الفُرْس، وإن صعده ومَرّ الفُرس سينجو ومن معه، وترتب على ذلك نصر المسلمين بالفعل.

هذه القصة الخارقة لها نظائر في العصر الحديث، خارج السياق الإسلامي، بل ويجوز خارج السياق الديني التقليدي عمومًا.

في جنوب أفريقيا، وتحديدًا في روديسيا كان الطبيب البريطاني كيركلاند G.B.Kirkland يعمل في مستشفى حكومي هناك، في حقبة ثلاثينيات القرن العشرين، في زمان ومكان ليس به أي تقنية للاتصال الهاتفي.

ويحكي الطبيب أن مواطنًا أفريقيًا نُقل إلى المستشفى مصابًا بطعنة اخترقت كبده. وسأل الجريح الطبيب كيركلاند ما إذا كان سيعيش حتى صباح الغد، فأجابه بأن ذلك غير محتمل.

هنا أعرب الجريح عن أمنيته في أن يعيش حتى تتاح له على الأقل رؤية ذويه ليودعهم قبل الموت، ولكن المعضلة أنهم يعيشون في قرية تبعد خمسين كيلومترًا عن المستشفى، والوصول إلى القرية يحتاج عبور مسالك صعبة في غابة استوائية، وهو أمر يستغرق 9 ساعات أو أكثر، وليس هناك أي طريقة لإبلاغ أهله إلا السير عبر هذه الغابة.

لكن الجريح المُحتَضِر قال إنه «سينادي على ذويه»! وكان ذلك مساءً عند غروب الشمس، وقبل شروق شمس اليوم التالي بوقت قصير جاءت الأسرة بكاملها، بعد مسيرة ليلية طويلة، لتودع جريحها الراقد على سرير الموت.

الطبيب أكد أن المريض أو أي شخص بالمستشفى لم يستخدم أي وسيلة اتصال بدائية، كإرسال إشارات عن طريق قرع الطبول بأسلوب الاستغاثة، لتنتقل هذه الاستغاثة عبر الآفاق إلى آخرين يقرعون طبولهم أيضًا، حتى تصل الاستغاثة إلى أهل الجريح.

ولكن ما حدث هو أن الجريح أخذ ينادي في تضرع واستغاثة على أهله الذين يبعدون عنه 50 كيلومترًا، فسمعوه وأتوا إليه.

هذا التأثير عن بُعد نابع عن فكرة الإيحاء، وقد أجريت تجارب موثقة عليه منذ عام 1886، حين نوّم العالم النفسي الفرنسي المعروف البروفيسور بيير جانيه والطبيب إم جيبر، امرأة ريفية فرنسية تسمى «ليوني»، تبلغ من العمر خمسين عامًا، تنويمًا مغناطيسيًا.

حدث ذلك من خلال الإيحاء الذهني على مسافات تراوحت بين ربع ميل وميل كامل دون علمها، وبالفعل وجدت السيدة في بيتها غائبة عن الوعي.

وتجارب الإيحاء والتأثير عن بعد كثيرة ومعروفة، وأجريت على مسافات أبعد من ذلك بكثير، بحسب ما تخبرنا المصادر، ووصلت حد عدم التقيد بأي حواجز مكانية أو مسافات.

وصل الأمر حد أن ينظر المعالج الروحاني في صورة من يريد التأثير عليه، بتركيز شديد، حتى يبدو وكأنه توحد معه، ثم يبث به طاقته الروحية، ليؤثر عليه حتى ولو كان على بعد آلاف الأميال.

الشفاء من الأمراض: معجزة عابرة للأديان

كثيرًا ما نجد قصصًا عن شفاء مريض على يد شيخ صوفي، أو راهب مسيحي أو بوذي أو من ديانات أو فلسفات روحية أخرى، من دون أدوية أو طب، ولكن بأساليب روحية قد تحدث بالصدفة أو بالعمد.

لا داعي لسرد قصص من هذا النوع فهي معروفة، ويمكن بضغطة بحث على محرك البحث جوجل أن نجد منها الكثير، ولكن ما ينبغي توضيحه أن الكهنة في الحضارات القديمة كانت لهم أساليب في الشفاء تشبه كثيرًا هذه المعجزات.

فقد كانت هناك عادة «التكيس»، أي الضغط براحتي اليدين على مكان المرض في الجسم لتحقيق نتائج شفائية، وقد كان المصريون القدماء يسمون هذه العادة «ألكا»، أما الصينيون فسموها «تسي».

وهذه اللمسة هي التي صارت جزءًا من الحياة الدينية المسيحية، ولها صدى كبير في الإسلام، منذ عهد النبوة.

الطب الحديث يفسر هذه الظواهر بأنها خاضعة لقوة الخيال والإيمان اليقيني به، وتأثير ذلك على الجهاز العصبي الذي يتدخل لدى الجهاز المناعي ويقنعه بمقاومة المرض.

ويؤكد الطب الحديث أن عقيدة المريض واقتناعه بالشفاء عن طريق هذا الدواء وهذا الطبيب لها دور بارز في إتمام شفائه؛ وقد ثبت مثلًا أن أدوية تسمى البلاسيبو placebo، وهي عقاقير وهمية ليست لها أي فعالية، يمكنها أن تعالج مريض لمجرد أنه حين تناولها كان متأكدًا أنها ستشفيه، ولا يعلم أنها بلا فعالية.

شروط الاتصال الروحي التي توفرت لابن الخطاب

كيف يحدث التأثير الروحي وتتم معجزات الشفاء والتخاطر والمعرفة والإلهام وغيرها من غيبيات؟ خاصة وأنها قد تنجح وقد تفشل، وهناك من يصدقها بقوة، كما أن هناك من يهاجمها أيضا بقوة.

سؤال يأخذنا إلى بعض الشروط التي يجب توافرها في الشخص الذي يؤثر والآخر الذي يتأثر، والأجواء المحيطة بهما، كما سنوضح.

أولًا: القوة الروحية للشخص المؤثِّر أو من يأت على يدي الفعل الخارق، وقدرته على بذل مجهود عاطفي يتحد به مع من يؤثر عليه، وفي ذلك يقول المعالج الروحاني الألماني كورت ترامبلر:

أفكر في المريض وأحاول تمامًا أن أنفذ إلى أحاسيسه. وبعد هذا التركيز الذهني مباشرة أشعر في جسدي بمواضع الاضطراب الصحي الذي ينتابه، فأشعر بآلامه وضعفه، وأعلم أين تكمن علل معاناته.

وبعد التواصل التخاطري الناتج عن العاطفة الشديدة بين الطرفين، وبث الطاقة الروحية الغامضة من المُعالج الروحاني باتجاه المريض تبدأ عملية الشفاء، والمثير أن هذا الشفاء يشعر بها المعالج الروحاني أيضًا، بحسب ما يوضح ترامبلر.

ثانيًا: تسليم الشخص الذي يتأثر أو يوحَى إليه أو يُعَالَج بإمكانية تأثره بالقوة الروحية، وعدم وجود شك بداخله يحجب انتقال الطاقة الروحية إليه، ولذلك فإن أبناء البيئة الغربية الذين يسيطر عليها العلم المادي العقلي لا تشيع بينهم هذه الظواهر، لأن استعدادات الناس النفسية والعقلية لا تقتنع إلا بالمعقولات.

أما في البيئات الأقل تصديقًا للعقل، أو البدائية، فإننا نجد شيوعًا لهذه الظواهر بينها، لأنها لم تتأثر كليًا بالعلوم العقلية وما زالت الأساليب الروحانية متمكنة منهم ولو بنسب متفاوتة.

ثالثًا: تزداد قوة الإقناع بشكل كبير أمام جمهور يشاهد التجربة الروحانية «بين مُعالِج ومريض مثلًا»، بشرط أن يكون هذا الجمهور مستعدًا للتصديق ومؤمن بقوة المعالِج وبالفكرة ذاتها.

الجمهور العاطفي المقتنع بالفكرة والحاضر للتجربة يذكرنا بجمهور الممثل أو المطرب الواقف على خشبة المسرح، فهو إن وقف أمام جمهور يحبه ويصفق له تزداد جودة فنه ويخرج أفضل ما عنده، والعكس، وكذلك المشارك في صلاة جماعية حين يدخل في نوبة خشوع عاطفية، ويبكي تأثرًا من بكاء من حوله، الذين بالطبع يؤثرون بانفعالهم العاطفي على إمام الصلاة فتزداد حالته العاطفية تأثرًا ويبدو ذلك في دعائه وقراءته.

وقد يفسَد الاتصال بين المعالج والمريض، إن وجد بالمكان شخصًا متشائمًا أو غير مقتنع بالأمر ويعترض على الفكرة، فيشوش على التجربة ويقطع الاتصال ويشتت الطاقة الروحانية.

ووفقًا لهذه القواعد فإن عمر بن الخطاب حين تخاطر مع سارية، كان في لحظة روحانية شديدة الخصوصية، فقد كان فوق المنبر يعظ الناس، وفي لحظة اتصال عاطفية قوية مع نفسه المؤمنة.

وساعد على ذلك أنه كان يقف في مكان الرسول، بما للأمر من هالة روحانية، وأمامه صحابة الرسول الذين يصدقونه أشد تصديق، فلمح إليه عقله الباطن بأن سارية في مأزق، فحدث التواصل الخارق بينهما.

المراجع
  1. «الفتوحات المكية» لابن عربي
  2. «إحياء علوم الدين» للغزالي
  3. «الباراسيكولوجي والطب» لألفريد شتلتر
  4. «التصوف والباراسيكولوجي» لعبدالستار الراوي
  5. حاضِر علم التخاطر في العالم « The Present Situation of the Parapsychology in the World» لموتوياما هيروشي Motoyama Hiroshi

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.