لربما عنّ للأمير الشاب محمد بن سلمان أن يشن حربًا عسكرية شعواء في باحته الخلفية، اليمن، ما إن تسلم بع مقاليد السلطة في المملكة. لم يأت الأمير ببدع من الأمر، فالكل يعرف ربما منذ خلق الله ميكافيلي ومن بعده أن نصرًا عسركيًا خاطفًا هو صك لا تنتهي صلاحيته للإمساك بتلابيب السلطة والمجد والخلود الوطني.فريدريك الثاني حاكم بروسيا الشاب ذو الـ 28 عامًا تولى العرش خلفًا لأبيه الجبار الذي أعدم صديقه أمام عينيه ليعلمه درسًا واحدًا «أي بني لكل امرئ قدر هو لاحقه فلا ينزعنّك التثقف عن عرشك المستحق». فريدريك العظيم محب الأدب والفن والفلسفة والعلم، محب فولتير وصديقه وخصيمه فيما بعد، لم يبدأ حكمه إلا بحرب عسكرية خاطفة انتزع فيها مقاطعة سيليسيا من عرش هابسبورغ في النمسا وبرهن للجميع أنه ليس غض العود مستباح الحمى وإن كره حياة الثكنات وفضّل حياة الثقافة.لا يتشابه الأميران في الحروب العسكرية فقط، مع ملاحظة الفرق في أن فريدريك انتصر في معركته بينما لا يزال بن سلمان عالقًا في مستنقع لا يعرف منه مخرجًا. لم يقف أي من الأميرين عند حدود من سبقه، بل سعى كل منهما لتغيير شكل مملكته لتناسب مقاسه وأفكاره، ولأن الجديد شديد الوقع على المجتمع، خصوصًا إذا كان هذا المجتمع محافظًا، أتت برامجهم تحت مسمى الإصلاح. أطلق الأميران إذن، كل منهما، برنامجه «الإصلاحي الخاص الذي سيغير وجه الدولة». اعتبر فريدريك نفسه الخادم الأول في الدولة ولم يربط سلطاته المطلقة بأي هبة سماوية. عارض العبودية وإن لم يمنعها وسعى لإعادة توزيع الأراضي وكان يرى أن الدولة القوية في حاجة إلى مواطنين سعداء ومتنورين. كان فريدريك مستبدًا يرى بأولوية الشؤون العسكرية لكنه كان يتبع الأفكار التنويرية التي يعتنقها صديقه فولتير[1]، حتى أنه ورث منه كراهيته لليهود باعتبارهم دخلاء على الدولة وغير مفيدين. كان فريدريك في برنامجه الإصلاحي، وبمشورة من فولتير، وفي عصور ازدهار موضة التنوير، يبني أمة قومية عسكرية قادرة على النجاة والاستمرار في عالم بدأ شعاعه يبزغ في الأفق البعيد.قد يبدو مصطلح «المستبد المستنير» الذي يتكون من شقي «الاستبداد» و«التنوير» مصطلحًا ينطوي على تناقض ذاتي، لكن كانط الذي كان على غرار فولتير يؤمن بهذا المصطلح ويراه الشكل الأنسب للحكم، برّر هذا التناقض قائلا: «إذا اعتبرنا الشؤون البشرية بشكل عام نجد أن كل شيء متناقض»[2]. بالنسبة لكانط الذي يرى أنه لا يعيش في عصر متنور، إنما في عصر التنوير، ليس هناك شكل أنسب للحكم يؤدي الوظيفة التي لخّصها قائلا: «جادل كما تستطيع وفيما تشاء، ولكن أطع». أما بالنسبة لفولتير فكان يرى أن شكل الحكم الأنسب هو أن تتركز السلطة في يد من هو مؤهل لقيادة المجتمع نحو السعادة. وكان يرى أن البرلمانات في عهده لم تكن سوى نوع من المحاكم دون فاعلية.محمد بن سلمان على الجانب الآخر من الجغرافيا والتاريخ، لم يتّخذ مستشارًا فيلسوفًا مثقفًا، فقد ولّى زمن التنوير والثقافة، والساحة اليوم لا يعلو فيها سوى صوت الاقتصاد. في عصر النيوليبرالية، كان لا بد للأمير الشاب أن يتخذ من شركة استشارات اقتصادية، كانت في حالته هي شركة ماكنزي، صاحبًا ودليلا. وما دام الأمر كذلك، لم تخرج خطة «رؤية السعودية 2030» لبناء الدولة-الأمة السعودية في أشد أوقات حاجتها لهكذا بناء، بل لهذه الخطة[3] هدف واحد هو إعادة هيكلة الاقتصاد السعودي في عصر ما بعد النفط ليناسب المزاج النيوليبرالي. «مجتمع حيوي» هو محور من محاور الرؤية الطموحة؛ لكن هذا المجتمع الحيوي ليس مجتمعًا أكثر ثقافة ورقيًا، أو أكثر قدرة على المشاركة السياسية، إنما هو مجتمع أكثر تحملا للأعباء الاقتصادية في العهد الجديد. أما المحور الثاني وهو «الاقتصاد المزدهر» فينظر بعين نيوليبرالية حتى إلى الأماكن المقدسة، فلا فلاح للمملكة ما بعد النفطية إن لم يصل عدد حجاج البيت ومعتمريه 30 مليونًا في العام. هذا بالطبع إلى جانب عمليات خصخصة تنال كل ما يمكن أن يذهب ثمنه لتمويل صندوق استثماري سيادي جديد يرجى له أن يكون الأكبر في العالم وأن يمسك بتلابيب الثروة العالمية وليست المحلية فقط. فريدريك العظيم لم تتجاوز إصلاحاته حد القول؛ ففي النهاية هؤلاء النبلاء ملّاك الأرض هم عماد عظمته وقواد جيشه ودرعه ضد أخطار الخارج والداخل. لكن بن سلمان ولي عهد مملكة فيها «حلف الأمير والإمام» يبدو راغبًا في إخضاع جناح الأمير، متجاوزًا سدنته ورؤسائه واحداً تلو الآخر، قد لا يكون آخرهم ابن عمه محمد بن نايف أمير الظلام وولي العهد السابق ورجل الأمن القوي الذي فرض عليه الأمير الشاب مؤخرًا إقامة جبرية غير معلنة بحسب بعض التقارير الصحفية. هو إذن مستبد ثائر على تقاليد الموائمات والموافقات التي ميزت البيت السعودي الحاكم لعقود.هو مستعد كذلك أو ربما مجبر على التضحية بجناح الإمام، وذلك لإنفاذ وعوده بمجتمع أكثر انفتاحًا يسمح بدور السينما والحفلات الغنائية. هو الأمر الذي عارضه فيه مفتي المملكة ورئيس هيئة كبار العلماء عبدالعزيز بن عبدالله آل شيخ قائلا: «الحفلات الغنائية والسينما مفسدة للأخلاق ومدمرة للقيم ومدعاة لاختلاط الجنسين، مشيرًا إلى أن السينما تعرض أفلامًا ماجنة وخليعة وفاسدة وإلحادية»[4].لا يبدو بن سلمان غافلا عن حتمية الصراع البادي في الأفق وهو مستعد لذلك وفقًا لتصريحه لمجلة الفورين بوليسي الذي كشف فيها عن أن هؤلاء المحافظين دينيًا من منظوره ثلاثة أقسام: قسم راض، وقسم مشاغب ستتم معاقبته، وقسم يؤثر السلامة والسكوت. رغم هذه الثقة التي يبديها الأمير إلا أن جناح الإمام ليس قليل العدد أو ضعيف النفوذ، فتيار السلفية الرسمي في المملكة واسع الإنتشار في كل مفاصل الدولة بما فيها السفارات الأجنبية والمحاكم ومؤسسات إنفاذ القانون والفتوى والوزارات وسواها من مؤسسات الدولة.يبقى أن حرب الأمير الإصلاحية التي يخوضها للاستبداد والتنوير ليست حربًا على غرار ما خاضه الأمراء في العهود الأخيرة للملكية في أوروبا، والتي جاءت تحت ضغط حركة وتغير في توازنات الطبقات الاجتماعية وأدوات الإنتاج والضرورات الإمبريالية، بل هي أقرب للتنظيمات العثمانية في القرن التاسع عشر أو الإصلاحات التي قام بها شاه إيران في ستينيات القرن الماضي مدفوعيْن بضغوط خارجية ورغبة أثيرة في البقاء في السلطة والاستئثار بموارد العباد والبلاد.حقق ولي العهد الشاب الأمير محمد بن سلمان إذن شرط الاستبداد، سواء الداخلي بتركيزه للسلطة في قبضته، أو خارجيًا باستقوائه عسكريًا ودبلوماسيًا على أي خصم إقليمي لسيادته ونفوذه وتصوراته في المنطقة. ويبقى تحقيقه لشرط المستنير؛ إذ لا يبدو أن بإمكانه تحقيق هذا اللقب في زمن لم يعد زمنًا لتحرير العقل، إنما هو زمن تحرير الاقتصاد، ربما يجوز في هذه الحالة إذن أن نسميه بـ «المستبد النيوليبرالي».

المراجع
  1. ملامح من الفكر السياسي عند فولتير، عارف عادل مرشد،
  2. إجابة عن سؤال ما التنوير؟ إيمانويل كانط، ترجمة عبدالله المشوح
  3. رؤية السعودية 2030
  4. مفتي السعودية: الحفلات الغنائية والسينما فساد للأخلاق ومدمرة للقيم ومدعاة لاختلاط الجنسين