تحدثت كثيرًا مع العديد من مدمني الجنس، وحين وجهت إليهم أسئلة عن طبيعة المشاعر التي تنتابهم بعد تلك اللقاءات الجنسية، مشاهدة البورن، الاستمناء أو غيرها من الأفعال القهرية التي تستهلكهم تمامًا، كانت الإجابة تتراوح بين كراهية الذات، الفراغ والإحساس بالذنب، لكن ما ظل يتردد بشكل دائم على ألسنة الجميع كان الإحساس بالخزي (shame)، ولذلك لم أجد مفرًا من اتخاذه عنوانًا لفيلمي.
المخرج البريطاني «ستيف ماكوين»

بعد فيلمه الأول «جوع – Hunger»، المبني على حادثة حقيقية جرت مطلع الثمانينيات، وهي إضراب المناضل «بوبي ساندز» -المطالب باستقلال أيرلندا الشمالية عن التاج البريطاني- عن الطعام حتى الموت داخل سجنه، يعود المخرج البريطاني «ستيف ماكوين» مستعينًا بخبرات حقيقية للعديد من مدمني الجنس من أجل خلق شخصية براندون، الشخصية الرئيسية لفيلمه الثاني «خزي – Shame»، والذي عرض للمرة الأولى عام 2011، مقدمًا واحدًا من أنضج نماذج ما يسمى بأفلام دراسة الشخصية (character study film).

في هذه النوعية من الأفلام تحدد الشخصية الرئيسية مسار السرد، يصبح كل شيء تابعًا لها، ويكتسب قيمته من قدرته على إضاءة ملامح الشخصية الرئيسية ورصد الأفكار والمشاعر التي تسيطر عليها. فيلم ماكوين هو بورتريه سينمائي لشخصية «براندون/مايكل فاسبندر»، هو شاب ثلاثيني يعيش في مدينة نيويورك، يمتلك حياة وظيفية براقة، لكن حياته الخاصة خربة تمامًا، حين تزوره أخته الصغرى «سيسي/كاري موليجان» والتي لا تقل حياتها الخاصة اضطرابًا عن حياته، للإقامة عنده مؤقتًا يبدأ عالمه المختل أساسًا بالانهيار لأن وجودها يضعه أمام حقيقة إدمانه الجنس.

هذا المقال هو محاولة لتتبع الملامح الداخلية والتفاصيل الخاصة لشخصية براندون كما صورها ماكوين في فيلمه.


مسار الهرب بعيدًا عن الواقع

أحد المداخل المهمة لفهم شخصية براندون، يأتي قرب مننتصف الفيلم عبر هذا المشهد، يدخل براندون إلى مسكنه فيتناهى إلى سمعه صوت مداعبات جنسية بين أخته سيسي ورئيسه في العمل كتمهيد لممارسة جنسية قادمة، نرى براندون حائرًا ومتألمًا، يدور حول نفسه دون أن يعرف ماذا يفعل، ثم يبدأ في خلع ثيابه وارتداء ملابس رياضية وينطلق للجري. تتابعه الكاميرا في لقطة طويلة دون قطع أثناء جريه في ليل مدينة نيويورك وكأنها ترغب في تأطير هذه اللحظة.

يضيء هذا المشهد طبيعة براندون النفسية وجذر سلوكه الإدماني، فكل ما يفعله براندون هو الهرب بعيدًا من واقع مؤلم، هو واقع داخلي بالأساس، فلا يوجد في واقعه الخارجي ما يستلزم هذا الهروب الإدماني نحو الجنس الذي يستهلك أيامه ولياليه. تقول له سيسي في إحدى رسائلها الصوتية:

هذا المكان السيئ هو طفولتهما، والتي يوحي النص دون أن يصرح بأنها كانت موسومة بالمعاناة والصدمات. يقضي المرء بقية حياته في محاولة نسيان هذه الأماكن السيئة، لكنها مثل ندوب في الروح يحملها المرء معه في كل مكان. ما يفعله براندون وسيسي هو محاولة يائسة للهرب والنسيان عبر مسارات مدمرة للذات، هو عبر استغراقه القهري في الجنس وهي عبر احتياجها العاجز للآخر، لقد ظلت على نحو ما طفلة تحتاج لمن يقدم لها الرعاية والمساعدة وهو ما تطلبه من براندون بعد الفشل المتكرر لعلاقاتها العاطفية، لكن براندون هو الآخر مستهلك تمامًا في محاولاته الخاصة للنسيان والهرب.

مشهد آخر يعزز هذا المسلك الهروبي لدى براندون، بعد مواعدة مع زميلة عمل تدعى ماريانا، يثير براندون سؤالًا عن الزمن التي تحلم بالعيش فيه، بينما تختار ماريانا هنا والآن، يختار براندون عقد الستينيات، فردوس الجنس والمخدرات، زمن كهذا هو مهرب مثالي لبراندون.


تحديقة فارغة لرجل ميت

يفتتح ماكوين فيلمه بلقطة من زاوية علوية لبراندون نصف عار في سريره الذي يحتل كامل اللقطة، لا شيء يتحرك، لا الكاميرا ولا براندون، فقط تحديقة فارغة لرجل ميت. يبدأ المنبه في الرنين، تظل سكونية اللقطة كما هي لعدة ثوان أخرى، ثم يبدأ براندون في تحريك عينيه، يبعد عنه الغطاء ثم ينهض من سريره مخليًا اللقطة لينطبع عنوان الفيلم على السرير. لقطة واحدة لا تتجاوز زمنيًا الدقيقة ولكنها تخبرنا بالكثير عن شخصية براندون.

تعكس هذه اللقطة وحدة الشخصية وعزلتها والتي يعززها اللون الأزرق البارد لغطاء براندون. في لقطة كهذه عادة ما يظهر مكان شاغر للرفيق المشتهي، لكن الكادر لا يعطي أي مساحة لشخص آخر، ربما ليدلل على أن هذه الوحدة يفرضها براندون على نفسه. هناك أيضاً شيء من الخواء والموت في تحديقة براندون. هناك أيضًا شيء من العري والتخفي، ثم انطباع كلمة «خزي» على السرير يربط هذا الشعور على نحو مباشر بحياته الجنسية.

هذه الاكتشافات الأولي يعززها السرد الفيلمي فيما بعد. السرد الذي يستعير عيني براندون، ليصير كل شيء مرئيًا من وجهة نظره، على رصيف المترو، في طريقه إلى العمل نلمس وحدته في المسافة بينه وبين بقية الناس، ثم وجودهم المضبب خارج الوضوح البؤري (out of focus).

هذا النشاط الجنسي الهائل لبراندون يدور في الفراغ، لا يفضي إلى أي حميمية أو تواصل حقيقي مع الآخر. يستهلك كل طاقته لتسكين ألمه الداخلي. في محاولة منه لمواجهة إدمانه المتفاقم، يقرر مواعدة ماريانا زميلته بالعمل والتي يشعر نحوها بانجذاب ما، وهنا تأتي المفارقة الساخرة والمريرة حين يعجز عن إقامة علاقة جنسية معها ثم نراه في المشهد التالي في قمة نشاطه الجنسي وهو يضاجع عاهرة. تتبدى هنا نفس براندون كأرض خربة لا تنبت شيئًا. هذه التفصيلة تضيء جانبًا آخر من نفسية براندون.


قناع اللامبالاة العاطفية

هناك عدة مسارات نفسية تتخذها الشخصيات التي عانت من صدمات عاطفية في طفولتها، البعض يحاول نسيان هذه الصدمات بدفن مشاعره تحت ندوب الذاكرة ومحاولة تجنب العلاقات تمامًا عبر نوع من العزلة والوحدة المفروضة وقناع من اللامبالاة العاطفية، وهذا مسار براندون، والبعض الآخر يحاول تكرار الصدمة ومحاولة تغيير نتائجها، وهذا مسار سيسي التي تستهلك نفسها في علاقات تعيد إنتاج الصدمة الأولى، حيث تلقي دائمًا نفس الإهمال والرفض.

يخفي براندون جانبه العاطفي المصدوم خلف قناع من اللامبالاة، مثلما يخفي عار حياته الخاصة خلف حياته الخارجية البراقة. هذه الازدواجية يبرزها المخرج بصريًا، بتصوير وجه براندون في غالب اللقطات بينما يغوص نصفه في الظلام.

وجود سيسي في حياة براندون هو أكبر مهدد لهذا القناع، فهي تعيده دائمًا لزمن الصدمة الأولى. نرى أول ملامح عاطفية براندون حين نرى الألم الذي يكابده وهو يسترق السمع إلى حديث أخته مع حبيبها السابق وهي تستجدي محبته بينما هو يواصل رفضه.

لكن ما يفصح عن عاطفية براندون عليىنحو جلي، هو مشهد سيسي وهي تغني «نيويورك نيويورك» بينما تدمع عيناه في صمت. لحظة نادرة من التواصل الحقيقي بينهما تكشف عن هشاشتهما الداخلية وجرحهما المشترك.

هذا الجانب الذي يحاهد براندون في إخفائه لأن ظهوره قرين باستعادة الألم القديم هو سبب صده لسيسي ومحاولة إبعادها عن حياته رغم محبته لها، وهو سبب فشل العلاقة الوحيدة الحقيقية التي سعى إليها لأن نجاحها يستدعي استعادة هذا الجانب منه، استعادة الألم الذي لا يعرف سبيلًا لمواجهته إلا بالهرب.


مرايا براندون

لسنا أناسًا سيئين، لقد جئنا فقط من مكان سيئ.

يحاصر ماكوين بطله بانعكاساته في مرايا حقيقية ومجازية، انعكاسات مضببة له في مرآة الحمام وهو يمارس الاستمناء، أو هذا الانعكاس المشوه له قرب نهاية الفيلم في إحدى المرايا عقب خروجه من أحد نوادي المثليين، لكن الانعكاسات الأكثر كشفًا عن طبيعة براندون يأتي عبر مرايا مجازية مثل مسكن براندون الخاص ومشهدية المدينة، نيويورك.

المثير بشأن تصميم مسكن براندون، أنه يعكس بوضوح حالة الحصار التي يعيشها بطله، إنه أشبه بسجن أو متاهة لا تصلح للسكن بل للاختباء. كما أن المسكن بارد وفارغ أيضًا.

تتجلي نيويورك هنا في فيلم ماكوين كمدينة لا مبالية، باردة وبعيدة دائمًا داخل المشهد ولا يوجد بها ما هو حميمي أو خاص. شوارعها الخلفية الغارقة في الظلام و الواجهات الزجاجية لبناياتها الشاهقة التي تكشف حتى أكثر لحظات الإنسان حميمية وخصوصية، مثل المشهد الجنسي الذي يتسمر أمامه براندون بإحدى البنايات أثناء سيره بأحد الشوارع.

كاميرا ماكوين تعزز حس التلصص هذا داخل الفيلم، ففي مشهد المواعدة داخل أحد المطاعم النيويوركية، بين براندون وماريانا، نجد الكاميرا تتموضع خارج المطعم وكأن هناك شخصًا ما يتلصص على هذه اللحظة الخاصة بينهما.

الخطة اللونية للفيلم أيضًا تفصح بالكثير، فاللون السائد هو الأزرق البارد لون العزلة والوحدة، مع غلبة الظلام في خلفيات الصورة الذي يشير إلى ما هو خفي في روح البطل والمدينة. مع نغمات الأصفر الذهبي في مشاهد قليلة، وهو لون دافئ ومعبر عن الرغبة نجده مثلًا في المشاهد التي يكشف فيها براندون شيئًا من جانبه العاطفي مثل مشهد غناء سيسي أو لقائه بماريان، نجده أيضًا في لون شعر وملبس فتاة المترو التي تظهر مع بداية الفيلم وختامه والتي تمثل له موضوع انجذاب ورغبة.

رد فعله المتباين بين لقطتي البداية والنهاية هو نتيجة الرحلة الداخلية للبطل عبر الفيلم، بين فيض الرغبة في عينيه ومحاولة اللحاق بها بعد خروجها من المترو في مشهد البداية، ونظرات الألم والحيرة التي يتطلع بها نحوها في مشهد النهاية لتنغلق دائرة السرد.

تقف الفتاة استعدادًا للنزول، بينما يظل براندون جالسًا وغارقًا في الحيرة، هكذا ينتهي فيلم ماكوين دون أن نعرف هل سيظل يدور في نفس الدائرة المفرغة لإدمانه الجنسي، أم سيكسر هذه الدائرة ويبدأ من جديد حياة أخرى؟