من خلال دراسة أكاديمية تناولت تحليل مضمون صفحة «إسرائيل تتكلم بالعربية»، باعتبارها أكبر صفحات الدعاية الإسرائيلية على مواقع التواصل الاجتماعي من حيث عدد المتابعين (3.2 مليون)، توصلت الدراسة إلى نتائج هامة في أسلوب إدارة إسرائيل للصراع العربي-الصهيوني. [1]

بنسبة 21.9% من إجمالي نسبة القضايا الدينية، بدا واضحًا حرص الخطاب الدعائي الإسرائيلي على مواقع التواصل الاجتماعي على تهنئة المسلمين بالمناسبات الإسلامية، مثل شهر رمضان وعيد الفطر. وفي كل يوم جمعة يهنئ المسلمين ويتمنى لهم جمعة طيبة.

مقابل هذا الاهتمام بالمناسبات الإسلامية، تُخرِج الصفحة المسيحيين الفلسطينيين –والمسيحيين عمومًا– من الصراع العربي-الإسرائيلي، رغم أنهم يُشكِّلون قرابة 2.1% من سكان فلسطين المحتلة، بعدد يصل إلى 182 ألف نسمة، وفق مكتب الإحصاء الإسرائيلي نهاية عام 2021.

وعلى مدار عينة الدراسة (أول إبريل/نيسان 2021 إلى نهاية يوليو/تموز 2021)، لا تذكر صفحة «إسرائيل تتكلم بالعربية» المسيحية إلا عرضًا، وضمن سياق إظهار وجود تقارب بين الأديان السماوية: اليهودية والمسيحية والإسلام، وإظهار التنوع الديني في إسرائيل بأنها تضم يهود ومسيحيين ويهود ودروز. وحينما تتحدث الصفحة عن مدينة حيفا تذكر أنها تتجمل «بمساجدها ونواقيسها…»، المسيحية هنا وسيلة وليست هدفًا في حد ذاته. الهدف هو الإسلام والمسلمون.

لم تنشر الصفحة منشورًا واحدًا يهنئ المسيحيين بأي عيد من أعيادهم. تجاهلت تمامًا مشاركة شبان مسيحيين في الدفاع عن الشيخ جراح والأقصى.

مقابل إخفاء الحقائق ومحاولة طمس الدور المسيحي، تُقدم الصفحة منشورًا يتيمًا عن المسيحيين، لكنه يأتي ضمن إستراتيجية «الثنائية المتطرفة» التي تستخدمها للمقارنة بين الحياة في إسرائيل وقطاع غزة، فتزعم أن أعداد المسيحيين تراجعت في قطاع غزة، فيما يزدهر عددهم في إسرائيل.

المغالطة المنطقية هنا أن المسيحيين ممّن غادروا قطاع غزة تركوه لا للاضطهاد والتعصب الإسلامي المزعوم، وإنما لسوء الأوضاع المعيشية التي يسببها الحصار المفروض على القطاع منذ سنوات، فإسرائيل هي الداء وليست الدواء.

استبعاد فلسطين

في «الواقع الفعلي» –وليس «الواقع الافتراضي» الذي يرسمه الخطاب الدعائي الإسرائيلي الإلكتروني– تضطهد إسرائيل المسيحيين العرب، وتحاول بكل الطرق تفريغ القدس من سكانها المسيحيين. ففي عام 1967 كان المسيحيون في المدينة المقدسة يمثلون 10% من سكانها، ثم تراجع عددهم إلى 1.4% عام 2019.

لكشف الوجه الإسرائيلي القبيح تجاه المسيحيين الفلسطينيين، كتب أسقف كانتربري ورئيس أساقفة الكنيسة الأنغليكانيّة مقالًا في صحيفة «صنداي تايمز»، في ديسمبر/كانون الأول 2021، كشفا فيه أن أعداد المسيحيين تتراجع في القدس القديمة، وأنه لم يتبقّ منهم سوى أقل من ألفي مسيحي، وأشارا إلى أعمال عنف جسدي ولفظي يتعرض له رجال الدين المسيحيون وتخريب أماكن مقدسة من قبل مجموعات يهودية صهيونية متطرفة تستهدف إخراج المسيحيين من إسرائيل.

أثار المقال ضجة كبرى، دفعت وزارة الخارجية إلى الرد بأن أعداد المسيحيين تزيد في إسرائيل (ولم ترد على تناقص أعدادهم في القدس القديمة)، وأنها تكفل حرية العبادة.

حرص الخطاب الدعائي الإسرائيلي الإلكتروني على إخراج المسيحيين العرب من الصراع على فلسطين، يمكن تفسيره بأن الصراع مع الصهيونية مُركّب، يتضمن عدة دوائر: الدائرة الفلسطينية، الدائرة العربية، الدائرة الإسلامية، الدائرة الدولية، الدائرة الإنسانية. لهذا تحاول إسرائيل إخراج هذه الدوائر بأبعادها الجغرافية الواسعة، لتحصره في صراع ثنائي بين إسرائيل (ومعها ضمنًا دول محور السلام العربي) وتنظيمات إرهابية ظلامية تحكم قطاع غزة وتدعمها إيران التي دمرت سوريا ولبنان واليمن والعراق.

يريد الخطاب الدعائي الإسرائيلي استبعاد الدائرة الفلسطينية، باستبعاد فلسطين نفسها، ليجعل فلسطين ليس لها وجود تاريخي، ويُقدِّم عرب 48 باعتبارهم مثالًا على إمكانية تعايش العرب والإسرائيليين تحت ظلال الهوية الإسرائيلية، فيما الواقع يخبرنا أن الدولة الإسرائيلية لا تعترف بحقوق المواطنة الكاملة لعرب 48، لأن الدولة الإسرائيلية ليست فقط دولة دينية، وإنما هي دولة الديانة اليهودية ودولة اليهود، وبالتالي ليست دولة مواطنين، ولن تتنازل إسرائيل أبدًا عن هذه الصبغة الدينية، وإلا انهدمت الصهيونية من أساسها.

تضييق نطاق الصراع العربي-الإسرائيلي

في الدائرة العربية، يركز الخطاب الدعائي الإسرائيلي على إظهار الشرعية التي يتمتع بها الكيان الصهيوني، من اتفاقيات سلام مع مصر والأردن والإمارات والمغرب والبحرين والسودان، ويحرص على إظهار أن هناك مواطنين عرب يؤيدون إسرائيل ويتضامنون معها ضد المقاومة الفلسطينية.

وفي الدائرة الإسلامية، تحاول الإستراتيجية الدعائية الإسرائيلية كسب البعد الإسلامي، بإظهار التعايش والتقارب بين اليهودية والإسلام، وحرية التدين في إسرائيل. وسياسيًا، بإظهار ارتباط إسرائيل بعلاقات دبلوماسية مع بلدان إسلامية، مثل أوزبكستان وكازاخستان.

وفيما يخص الدائرة الإنسانية، تقدم الدبلوماسية الإسرائيلية الرقمية على منصات التواصل الاجتماعي صورة مثالية عن إسرائيل باعتبارها المواطن الصالح في المجتمع الدولي، الحريص على تضميد جراح اللاجئين السوريين، ويمد يد العون للمحتاجين في كل العالم، ويوزع الهدايا على يتامى المسلمين في تركيا وساحل العاج.

تريد الصفحة إخراج كل تلك الدوائر، ومنها الدائرة المسيحية، فإذا كانت الكنسية الغربية قد تنكرت لتراثها الديني في فلسطين والقدس، فإن الكنائس العربية والشرقية تقف مع العرب والمسلمين للدفاع عن فلسطين والقدس، وهذا ما لا تريده إسرائيل ولا صفحاتها على مواقع التواصل الاجتماعي.

ومما يُحمَد للكنسية المصرية رفضها زيارة القدس بعد حرب 1967، وسيطرة الكيان الصهيوني على الجزء الشرقي من المدينة المقدسة، واستمر الأمر في عهد البابا شنودة الثالث.

يعمل الخطاب الدعائي الإسرائيلي على منصات التواصل الاجتماعي إذن على إخراج كل تلك الدوائر بأبعادها الجغرافية الواسعة، والإمكانيات التي تدعم بها الحق الفلسطيني، ليحصر الصراع العربي-الإسرائيلي في أضيق نطاق، فهو في رؤيتها ليس صراعًا على الأرض، ولا بين المسلمين والمسيحيين من جهة واليهود الصهاينة من جهة أخرى، ولا بين إسرائيل والأنظمة العربية، ولا بين الفلسطينيين والإسرائيليين. تستبعد الدعاية الإسرائيلية كل دوائر الصراع، وتحصره في شأن ثنائي، بين إسرائيل المتسامحة دينيًا واجتماعيًا والآخر الإرهابي، مشاغبين في القدس وتنظيمات إرهابية في غزة تدعمها إيران.

تشويه المقاومة

من خلال استقراء الخطاب الدعائي الإسرائيلي يمكن استنتاج الإستراتيجيات التي يتبعها في تشويه المقاومة الفلسطينية، وتبدأ باستبعاد كل عناصر المقاومة في الشعب الفلسطيني، من عرب 48 والمرابطين في القدس، والضفة الغربية، والأسرى، وتحصر المقاومة فقط في حماس، ثم تستخدم إستراتيجية التشخيص، بتجسيد المقاومة في أشخاص بعينهم، لتعمل بعد ذلك على تحطيمهم، بالتفرقة بينهم وبين الحاضنة الشعبية الفلسطينية.

وعلى هذا يتبع الخطاب الدعائي الإسرائيلي مع المقاومة الفلسطينية عدة إستراتيجيات، على النحو التالي:

1. إستراتيجية التوحيد:

لا يمكن لقوى مهما بلغت قوتها أن تحارب شعبًا بأكمله. تعمل إسرائيل بهذه النصيحة. يتجاهل خطابها الدعائي مقاومة فلسطينيي الداخل، فلا تذكر عملًا مقاومًا واحدًا لهم، حتى مع وصمه بالإرهاب. ترى المرابطين في الأقصى ضحايا تحريض السلطة الفلسطينية وحماس. تستبعد كل عناصر المقاومة في الشعب الفلسطيني، مسلمين ومسيحيين، صبيانا وشبابًا وكبارًا، رجالًا ونساءً، أدباء وشعراء وعلماء. تحصر المقاومة فقط في حماس. حماس هي سبب أحداث حي الشيخ جراح، سبب الشغب بالأقصى، سبب معاناة أهل غزة، هي العقبة التي تسد طريق السلام. هذه هي إستراتيجية التوحيد.

2. إستراتيجية التشخيص:

إذا أردت أن تقضي على روح المقاومة فعليك أن تُشخِصنها، لا تتركها فكرة تنمو في العقول، وإنما جسّدها في أشخاص، فإذا هدمتهم فقد هدمت الثورة والمقاومة. يتبع الخطاب الدعائي لصفحة «إسرائيل تتكلم بالعربية» هذه الإستراتيجية، فالمقاومة هي قيادات حماس، وهؤلاء القادة يتركون ميادين القتال ويعيشون في بحبوحة من العيش، في فنادق الدوحة وبيروت.

3. إستراتيجية التحطيم:

بعد التوحيد والتشخيص تأتي مرحلة التحطيم، وتتبع الإستراتيجية الدعائية الإسرائيلية في ذلك طرقًا شتى، كلها تؤدي لنفس الهدف، منها اتهام قيادة المقاومة بانعزالها عن الشعب في غزة، وهي عميلة لإيران، تسرق أموال المساعدات، تُتاجِر بالأقصى والدين، لها توجهات أيديولوجية متطرفة، فهي وجه آخر للقاعدة والحوثي وداعش، وهي تتخذ مواقف مخالفة للأنظمة العربية.

ختامًا، هذه كلمات دفعني إلى كتابتها ردود الفعل على اغتيال «شيرين أبو عاقلة»، إذ بدلًا من فضح الجريمة الجديدة التي تُضاف إلى السجل الأسود للصهيونية في أرضنا، انحرف إلى جدل حول مدى مشروعية الترحم على غير المسلمين، فيما نحن أبناء أمة واحدة، تجمعنا أرض واحدة، وكفاح مشترك لتطهير أرضنا من الصهيونية المتطرفة.

المراجع
  1. سيد حامد، “توظيف صفحات التواصل الاجتماعي الإسرائيلية الرسمية الموجهة بالعربية في تحسين الصورة الذهنية لإسرائيل”، رسالة ماجستير غير منشورة، معهد البحوث والدراسات العربية، 2022.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.