فاجعة مالية أصابت القطاع المصرفي بإغلاق السلطات الأمريكية لبنك سيليكون فالي. تلك الحادثة تمثل أكبر انهيار لبنك أمريكي منذ الأزمة التي ضربت الاقتصاد العالمي عام 2008. يتركز نشاط البنك في تمويل الشركات التكنولوجية الناشئة، ويُقدم البنك نفسه بأنه الشريك المالي لاقتصاد الابتكار. قدم البنك خدمات مصرفية لنصف الشركات التكنولوجية في الولايات المتحدة الأمريكية، كما يقدّم الدعم لأكثر من 2500 شركة رأس مال استثماري، وهي الشركات التي تقدم بدورها التمويل والدعم للشركات الناشئة.

لكن يخشى الاقتصاديون من أن يمتد تأثير انهياره إلى باقي الاقتصاد الأمريكي ككل. مثلما حدث في الأزمة العالمية التي اندلعت شرارتها من بنك ليمان براذرز.

الانهيار تضاعف أثره جراء قيام المودعين بعمليات سحب ضخمة من البنك، خصوصًا أن البنك يحتفظ بأموال المودعين على هيئة سندات، فشكّل ذلك ضربة قاضية للبنك الذي يعاني من مشاكل مالية في الأصل. الإجراء المتبع في حالات إعسار البنوك هو أن توضع أموال المودعين تحت سيطرة المؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع. تعهدت المؤسسة بتغطية حسابات المودعين التي تصل إلى 250 ألف دولار كحد أقصى، لكنها لم تعط أي ضمانة لأصحاب الحسابات التي تتجاوز هذا الرقم بخصوص رد أموالهم من عدمه.

ليكون بذلك مصير النسبة الأكبر من إجمالي المبلغ الذي يصل إلى 176 مليار دولار مجهولًا، وينتظر المودعون اليوم الذي تحدده المؤسسة الفيدرالية لإعادة فتح فروع البنك كي يتمكن المودعون من سحب مدخراتهم. وزارة الخزانة الأمريكية أرسلت رسالة طمأنة للمودعين بتصريحها بأنها تثق في قدرة المنظمين الماليين الأمريكيين على تجاوز الأزمة.

الأزمة بدأها البنك بإعلانه أنه يتطلع إلى جمع أكثر من 2 مليار دولار من رأس المال الإضافي. الإعلان الطموح كشف حقيقة أن البنك خسر 1.8 مليار دولار في عمليات بيع الأصول، أي خسارة مهولة في بيع السندات التي يملكها البنك. الإعلان المجرد أدى لحالة من الذعر لدى المستثمرين والمودعين فانهار سهم البنك بنسبة 60% يوم الخميس 9 مارس/ آذار الجاري. ثم صُفع البنك بانهيار إضافي بنفس القيمة، 60%، في تعاملات ما قبل السوق يوم الجمعة، ما دفع البنك والبورصة إلى وقف التداول على السهم، فبدأ هجوم الشركات والمودعين لسحب مدخراتهم.

انهيار بلا إنذار

بجانب صدمة الانهيار فإن المفاجأة شكلك الصدمة الأكبر في المشهد. فلم يكن أداء بنك سيلكون فالي في السنوات العشرة الأخيرة سيئًا، أو يُنذر بأن البنك قد ينتهي بهذه الصورة المدوية، بخاصة مع تضاعف قيمة أصوله. ففي نهاية عام 2016 كانت أصول البنك تُقدر بـ45 مليار دولار، وتضاعفت تباعًا لتصل في نهاية عام 2020 إلى 115 مليار دولار.

تلك القيمة الضخمة زادت من ثقة الشركات الناشئة في البنك، فانهمرت الأموال المتدفقة على البنك من الشركات التكنولوجية عالية الأداء. نتيجةً لذلك اشترى البنك كميات ضخمة من السندات على مدار العام المنصرم، متبعًا بذلك نهج العديد من البنوك في العام الماضي. واحتفظ بكمية قليلة من الأصول في قبضة يده، أو في استثمارات قصيرة الأمد، ووضع النسبة العظمى في السندات طويلة الأجل كونها ذات العائد الأكبر.

لم يتوقع البنك الناجح أن قرارات الفيدرالي الأمريكي سوف ترتد عليه بهذه الصورة. نتيجة قرارات رفع الفائدة المتعاقبة التي يصدرها الفيدرالي الأمريكي لتهدئة التضخم باتت الاستثمار غير مربح بشكل جيد، فجفت مصادر تمويل الشركات الناشئة والتكنولوجية. بالتالي بدأ عديد من عملاء البنك من الأفراد والشركات سحب أموالهم لتمويل مشارعهم الخاصة وتعويض نقص التمويل الخارجي. ما اضطر البنك إلى بيع بعض أصوله من السندات، لكن تصادف طرح الفيدرالي الأمريكي لسندات بعائد أعلى، فأصبحت قيمة سندات سيليكون غير مجزية على الإطلاق.

هذه التفسيرات توضح لماذا انهار بنك سيليكون فالي، لكنها لا توضح لماذا يخشى المصرفيون من تطور الأمر لأزمة مالية كبرى. الإجابة لأن إعسار أي بنك يخلق حالة من عدم الثقة في مختلف القطاعات المصرفية. فيتهافت المودعون لسحب مدخراتهم من كافة البنوك. لهذا بدأت أسهم فيرست ريببلك بنك في الانخفاض بأكثر من 20% من قيمتها، وتستمر في الانخفاض تباعًا. كذلك انخفضت أسهم سيجنتشر بنك. كما عانت بنوك ضخمة ومهمة من الانخفاض مثل بنك جي بي مورجان، وويلز فارجو، وسيتي بنك. لكن ضخامة تلك البنوك ساعدتها في العودة للصعود في الساعات الماضية، غير أنه لا يمكن لأحد التكهن بما سيؤول إليه الوضع في النهاية.

فقد الثقة في النظام بالكامل

المتفائلون في هذه الأزمة يقولون إن أزمة سيليكون فالي لن تتوسع لتمثل أزمة في القطاع المصرفي بالكامل. صحيح أن قيمة أصول البنك تصل إلى 210 مليارات دولار أمريكي، لكنها في الوقت نفسه تمثل نسبة ضئيلة من الأصول المالية في القطاع المصرفي. فالبنك يحتل المرتبة السادسة عشرة في وسط البنوك الأمريكية. بينما بنك واحد مثل جي بي مورجان تبلغ أصوله 3.2 تريليون دولار منفردًا. كما أن البنوك الكبرى تحتفظ بنسبة كبرى من السيولة في مقابل ودائع العملاء، ولا تخاطر بالشكل الكبير الذي قام به بنك سيليكون فالي.

 لكن حتى إذا كانت الخسائر لا يُحتمل أن تصل إلى أزمة مالية، فإنها في الوقت نفسه كانت خسائر فادحة. ففي يوم واحد خسرت أكبر 4 مصارف أمريكية قرابة 52 مليار دولار. ولم يقتصر الأمر على البنوك الأمريكية فحسب. في باريس خسر «سوسييتيه جنرال» قرابة 5%. كما خسرت بنسبة متقاربة بنوك كريدي أجريكول، ودويتشه بنك الألماني، وباركليز البريطاني، ويو بي إس السويسري.

الخلاف في وقوع أزمة مالية لا يعني أنه هناك خلاف الأضرار التي لحقت بالشركات التي كانت تعتمد على البنك في تمويل نشاطها.  فمثلًا شركة روكو، لأجهزة البث منخفضة السعر، تستثمر لدى البنك 1.9 مليار دولار، لكنها حصلت منهم فقط على 478 مليون دولار قبل انهيار البنك، أي 26% من أصولها المالية. كذلك أعلنت شركة سيركل لتكنولوجيا المدفوعات أن 3.3 مليار دولار من رأسمالها يقبعون في خزائن بنك سيليكون فالي.

كما أعلنت شركة روبلوكس للألعاب الإلكترونية أن 5% من رأسمالها محفوظ في البنك. كذلك تمتلك شركة بلوك للعملات المشفرة  227 مليون دولار في البنك. وغيرهم من الشركات الأخرى مثل كامب، وأكسوم للأدوية، الذين تقدموا جميعًا بطلب لمحكمة الإفلاس الأمريكية لحمايتهم من الإفلاس. وأعلنوا كذلك أن رواتب موظفيهم سوف تصل تباعًا، لكن على حسب البنك الذي يصل عبره راتب كل موظف، ما يعني أن رواتب الموظفين التي تصل عبر سيليكون فالي مؤجلة لحين حل الأمر.

الصغار هم من يعانون

الهلع من انهيار بنك سيلكون فالي جاء مقرونًا بهلع أكبر لأن الأسواق لم تكد تفق من صدمة مشابهة. في نوفمبر/ تشرين الثاني 2022 انهارت إمبراطورية سام بنكمان. التي تُعتبر ثاني أكبر منصة لتداول العملات المشفرة في العالم. بانهيار تلك الإمبراطورية خسر الشاب وعملاؤه مليارات الدولارات في أيام قليلة. هذا الزلزال كان له هذه ارتدادية منذ أيام قليلة بإعلان بنك سيلفرجيت إفلاسه. خصوصًا أن البنك كان أكبر مخزن للعملة عند سام بنكمان. الأمر الذي استدعى فتح تحقيق لمعرفة العلاقة بين الطرفين، وعملية تبادل الأموال بينهما، التي تُعتبر هي السبب في انهيار إمبراطورية بنكمان.

بالتالي سارع العملاء لسحب أموال قُدرت بـ8 مليارات دولار، فانخفضت ودائع البنك بنسبة 68%. ولتغطية عمليات السحب المهولة قام البنك ببيع سندات من أصوله بقيمة 5.2 مليار دولار، ما تُرجم لانهيار مدو للبنك. خصوصًا بعد قراره بتسريح 40% من موظفيه. بضع ساعات لم يجد البنك أمامه بدًا من إعلان التصفية الكاملة. لكن الانهيار التدريجي والتصفية الهادئة كانت عاملًا مطمئنًا للغالبية العظمى من المودعين، وللأسواق التكنولوجية كذلك. لكن بعد يومين فقط يحدث هذا الانهيار القوي لبنك سيليكون فالي، ما طرح عديدًا من علامات الاستفهام حول بنوك التقنية.

المؤكد أن الشركات التقنية ستعاني بشدة في الأيام القادمة. فمع انهيار البنوك التي تدعمها وتمولها، توجد أزمات أخرى وأعمق. فالأزمة الاقتصادية تهدد بنقص مضطرد في التمويل. تحاول شركات التقنية التغلب على الأمر بتسريح الموظفين أو تقليل النفقات، لكن رفع معدل الفائدة يخنقها أكثر فأكثر، فقد لا تجد في نهاية المطاف بدًا من تصفية أعمالها بالكامل.

لكن لا يمكن النفاذ لما يخفي المستقبل للقطاع المصرفي، لكن تبدو رسائل البنوك الأمريكية الكبرى حازمة في هذا الصدد. وتؤكد أنها لن تسمح للأمر أن يتسع ليصبح أزمة عالمية أو كبرى. فطبقًا لكبار صنّاع القرار ومحللي الأداء المالي فإن النظام المصرفي حاليًا يتمتع بمرونة أكبر وسيولة أكثر مما كان عليه الأمر عام 2008. والأهم أن البنوك التي تُعاني في مختلف دول العالم هي بنوك أصغر بكثير من أن تشكل تهديدًا للنظام المالي بأكمله.