هذه نصوص قصيرة، داومت على كتابتها على فترات متباعدة، وضمنت بعضها مجموعة قصاصات، إنها مجرد خاطرة مثل خواطر الشعراء، تعن لك فجأة ثم تترك وترحل. لا أستطيع تصنيفها، لا أعرف إن كانت قصصًا أم قصائد نثر. إنها حالات خاصة قد تقترب أحيانًا من شكل القصة القصيرة جدًّا، وأحيانًا لا تكون إلا مجرد فكرة، أو ما يشبه قصيدة النثر. أظن أنها تستجيب لميلي القديم لكتابة الشعر، فلها نفس وقع القصائد عندما تتراءى لي، ونفس سطوتها، فهي تستبد بي أحيانًا وأجد نفسي ألاحق تلك الخواطر الشاردة. الحقيقة أنني أُفرِّق بينها وبين القصص القصيرة بحدس داخلي، لا أتمكن من الإمساك به وصوغه في كلمات، لكنها في النهاية لحظة مُكثفة أو انطباع أو موقف أو حتى فكرة، تثير انتباهي ورغبتي في تشكيلها.

هناك من يحسب عليك خطواتك

عندما فتحت باب الشقة كنت كحلزون يندس في صدفته اللولبية. مصدر تلك الصورة، شعوري بضعف الأعصاب وارتعاش أصابعي وأنا أفتح الباب، نفس الرعشة التي لاحظتها وأنا أوقع بالحضور منذ عدة أشهر، والتي عرفتني أنني أصبحت عجوزًا رخوًا، لم أعد أتحمل حياتي، وقادتني لأرتب إجازة قصيرة في شقة بعيدة مملوكة لأحد أقاربي.

بدَّدتُ الرائحة المكتومة لخليط التراب وتنفس الأثاث والمراتب والجدران، بفتح كل شبابيك الشقة، ووقفت قليلًا في الشرفة. تمددت على كنبة وقضيت أغلب الوقت في سماع الموسيقى وفي التذكر، ثم نمت نومًا متقطعًا سمعت خلاله هبوب الريح وصوت مطر، وشخص يطلب منى الرحيل. استيقظت في الفجر أحاول تذكر ما حدث في العام الماضي وأوصلني إلى حالة الوهن وعدم الرغبة في الحياة.

انتبهت إلى صحيفة قديمة موضوعة على منضدة صغيرة بجوار التليفزيون. الجرائد القديمة تشعرني بمرور الزمن. الماضي يتيبَّس في الصحف. فكرة مريحة أن السنوات الماضية ما زالت موجودة في مكان ما، وأن الجرائد هي قبر الماضي. استخدام لفظ قبر مثير للتشاؤم، لنستخدم لفظ متحف، مخزن، غرفة الكراكيب.

أمسكت الصحيفة ورحت أقلب صفحاتها كأنها صحيفة اليوم، وافترضت أن أهرام الجمعة في الرابع والعشرين من سبتمبر (أيلول) 2004 هو صحيفة اليوم، وأنني رجعت في الزمن لأعيش في يوم الجمعة ذاك.

كان الجرنال مُغبَّرًا، مرَّت عليه أعوام، عليه بقايا طعام، وعلامة لكوب شاي. لا بد أنه أقدم من هذا التاريخ، ومنحنى ذلك حرية التجول في الزمن، فنحن الآن بعيدون عن تاريخ الجرنال بأكثر من عشرة أعوام. عندما محوت أقواس الزمن الحالي، والماضي الذي تحمله الصحيفة، شعرت بحرية شخص يحلق في الفضاء، فذلك الزمن المطاطي طيب للتمدد، وغدًا ذلك اليوم من سبتمبر يقع في نقطة أحددها بنفسي على خط طويل غائم، كان موقعه حسنًا لأنه غني بالتفاصيل التي تجعل منه يومًا حقيقيًّا.

كنت هناك في سبتمبر عندما كان الطقس خريفيًّا معتدل الحرارة، على السواحل الشمالية، والشوارع خالية بعد دخول المدارس، والرئيس يخطب في ختام مؤتمر الحزب الوطني، وشركة اسمها «الريف الأوروبي» تعلن عن مساهمة حقيقية في حل مشاكل مصر الكبرى: تآكل الرقعة الزراعية، التكدس والزحام، الفجوة الغذائية، التلوث البيئي، البطالة، وذلك بزراعة مساحة عشرة آلاف فدان قمح، مرحلة أولى، حجر فقط (مجانًا) للإخوة العرب والمصريين بالداخل والخارج: شاركوا في دعم اقتصاد مصر بمزرعة قمح بوادي النطرون، سعر الفدان 16000جنيه أو 2500 دولار فقط، ولن تتم الزراعة أو البيع إلا بعد إتمام إجراءات التملك من الجهات الرسمية.

أعددت الخطط لأكون غدًا السبت في مبنى الإدارة في شارع جامعة الدول العربية أطلب التفاصيل وأرتب نفسي لشراء الأفدنة، وشردت في حلمي القديم أن أعيش في منطقة صحراوية.

عشت تلك الأحداث والمقالات والتعليقات بدون الحس الكئيب الذي يرافق قراءتها طازجة، واستكمالًا لطقوس قراءتي للجريدة، قرأت صفحة الوفيات، وبحثت عن حظي في ذلك اليوم الذي قال:

هناك من يحسب عليك خطواتك.

عاد القلق، لقد كان ذلك حقيقيًّا تمامًا، فهناك منْ يحسب عليَّ خطواتي، شبح يسير معي كالظل، صوت خافت يهمس لي أن أرحل من هنا.

تبدَّدت لحظة الانفلات من أقواس الزمن، والتحليق في الفضاء، وهذا الذي ظننت أنني أهرب منه طلع لي من لعبة الهروب نفسها، حيًّا وحقيقيًّا، كأن منْ يحسب عليَّ خطواتي اختبأ لي في صحيفة قديمة في تلك الشقة البعيدة، لكي يؤكد لي ما يتكون سرًّا في أعماقي أن عليَّ أن أرحل.

نساء عاريات

وريقات لامعة طارت من فوق سطح أحد البيوت، واستقرت فوق غطاء بالوعة المجاري، أمام مخزن الدقيق التابع للفرن. فتح عم باسل باب المخزن وتردد صوت الصاج الصدئ في الشارع. ركن الشاب العربة الصغيرة ذات العجلتين التي يحمل عليها أكياس الدقيق. وقف ينظر إلى الصور اللامعة فوق البالوعة.

قال عم باسل:

بسرعة… الشيف هيخصم لك يوم.

لم يسمع الشاب وظل بصره مُعلقًا بالصور، وعم باسل يرفع صاج باب المخزن ويسنده بيده ليعبر الشاب ويحمل شوال الدقيق. نسي الشاب كل ما حوله وترك عم باسل يقف رافعًا صاج باب المخزن بيديه. التقط الصور من فوق غطاء البالوعة.

ثلاث صور من ورق المجلات الأجنبية المصقول اللامع لنساء عاريات. زعَّق عم باسل في الشاب، وترك الصاج لينزل مرة أخرى إلى الأرض، ووقف يتابع معه صور النساء الشقراوات العاريات، بدهشة وتعجب، من الأجساد الفارعة والصدور النافرة والبشرة الملساء والوجوه الجميلة تطل منها بسمة خفيفة على الشفاه، والعيون الخضراء تنظر في عينيه نظرة تفيض بالتسامح والفهم، كأنها تعرف أنه يراها وأنه معجب بها ويتمنى أن يلمسها.

حضرت اللهجة العراقية التي اختفت تحت لهجة المصرية مُعوجة، وقال عم باسل غافيًا لثوانٍ عن نفسه: «حلو وايد». قال الشاب بانبهار: «النسوان دي الواحد يلاقيها فين؟».

الشغل واقف يا بهيم منك له.

نادى الشيف من نهاية الشارع. صحوا من غفوتهما، وبسرعة خبَّأ الشاب الصور في جيب بنطلونه المُغبَّر بالدقيق، ولمعت عيناه ببريق وتشوُّف، ودبَّت في جسده دفقة من الحيوية، وبحركة واحدة، حمل شوال الدقيق على ظهره، وألقاه على العربة، وأمسك المقابض بعزم وراح يدفعها بسرعة في الشارع الخالي، فهناك في جيبه ترقد نساء عاريات، سوف تثير دمه وتُمنِّيه بمتع لا نهاية لها في اللحظات المختلسة للراحة في ركن الفرن.

صداقة

الحاجة «هانم» في غرفة نومها، لا زال جسدها يرتعش مما حدث أمس في توجيه العلوم في الإدارة التعليمية، لم تنم لحظة واحدة طول الليل، تدفع نفسها لارتداء ثيابها، والنزول إلى العمل لتسلم وظيفتها الجديدة، غير قادرة أن تستوعب التغير الذي طرأ فجأة على صاحبتها ورفيقة عمرها «نوال السيد».

أمس في الإدارة أطلت الضغينة فجأة، كراهية واضحة لا تتغطى بالمجاملات ولا تضع اعتبارًا لعِشرة العمر، عندما جاءت البوسطة وفيها جاءت الترقيات وظهر أن الحاجة هانم قد عُيِّنت موجهًا أول للعلوم بدلًا من نوال المتساوية معها في تاريخ التخرج والتعيين والترقيات، لكنها أكبر في السن ببضعة شهور. ظهرت كراهية لم تظن الحاجة هانم لحظة أنها موجودة، فقد كانتا كالشقيقتين من أيام كلية التربية في نهاية السبعينيات حتى الآن.

أين كانت مختبئة تلك الضغينة؟ هل كل ما عاشته مع صاحبتها كان قشرة؟ حملت مفاتيح الشقة والسيارة الفيات الصغيرة، مرتبكة الخطوات نزلت السلم، خائفة مما هو مُخبَّأ من عنف تحت الجلد اللامع للوجوه المُرحِّبة المبتسمة، هناك هوة رأت أغوارها السوداء أمس في الإدارة.

وقفت حائرة أمام سيارتها الصغيرة وفضَّلت أن تأخذ «تاكسي»، خائفة من ارتباكها ورجفة جسدها وهي ترى صديقتها أمس تخبط على المكتب بكفيها حتى انزاح منديل الرأس وانزلقت النظارة حتى أرنبة الأنف، وظهرت الملامح المتقلصة تشع بالكراهية والشر، وبدلًا من الصوت الهامس ظهر صوت تخين خشن، يتخطى النوافذ المفتوحة وينطلق في فضاء غُرف الموجهين والإداريين، يصف الحاجة هانم بأنها ساقطة تستغل جمالها لكي تحصل على ترقيات ليست من حقها، وأن ادعاء الطيبة لم يعد يدخل على أحد، فقد ظهر معدنها الخسيس، وأنها أنانية لا يهمها غير نفسها وأنها أحق منها بالترقية.

لا تعرف الحاجة هانم كيف ستتخطى ما حدث أمس، فقد خُيِّل إليها أن صاحبتها كادت أن تمد يدها وتخنقها، ومالت إلى التفكير إلى أن هذا الموقف سوف يظل نيئًا لن تتمكن من استيعابه، وأنها سوف تظل تشعر برجفة في كيانها مثلما تشعر الآن والتاكسي يسير بها في شوارع المدينة التي تخص بالطلاب.

طول الليل تبحث عما فعلت حتى يحدث ذلك الانقلاب في مشاعر صاحبتها، وباتت الآن مقتنعة أنه الحسد والغيرة. لأول مرة تنتبه إلى أهمية العوامل المساعدة في التفاعل الكيميائي رغم أنها درست الكيمياء ودرَّستها ثلاثين عامًا، العوامل الخفية التي تساعد في تحول المواد.

لم تنتبه أن جمالها كان يثير غيرة زميلتها من أيام الجامعة، وأنها الآن وهي تقترب من الستين، لا تزال تحظى بنصيب وافر منه، العيون الواسعة الخضراء، الجسد الطويل المتناسق، والذوق الرفيع في اختيار الملابس، وزوجها يعمل رتبة كبيرة في الجيش، ورغم أن زوج نوال مهندس بترول يعمل في شركة كبيرة، لكن يبدو أن نوال كانت تشعر أنها وزوجها في الجانب المظلم وهانم وزوجها في الجانب المشرق من الحياة.

لاحت لها نقطة التحول صغيرة غير واضحة، تغير بسيط في اللهجة حديث عن الحظوظ في مساء جمعة أثناء الزيارة الأسبوعية، قالت نوال بغضب، إن هناك ناسًا مكتوبًا عليها الشقاء طول عمرها، وناسًا يأتيها كل شيء إلى باب بيتها دون أن تبذل أي جهد، كان ذلك بعد طلاق ابنة نوال.

الآن يظهر لها الخط الرفيع. منذ طلاق ابنتها لم تستطع نوال أن تتحمل الجانب المظلم ففاض بظلماته، وجاءت الترقية لتكون العامل الهش الذي دفع بصاحبتها إلى إظهار غيرتها وكراهيتها المطمورة، شعرت برجفة جسدها قوية وهي تنزل من التاكسي أمام بوابة الإدارة التعليمية وتفكر جديًّا أن تتنازل عن الترقية.

تراكم اليوميات

يثير حيرتي تراكم اليوميات.

عندما تبدأ الكتابة تكون منساقًا لتسجيل فكرة، انطباع، حكاية. لا تفكر في علاقة ذلك بمرور الزمن. لا تفكر في أن تلك النتفة الصغيرة من حياتك التي وضعتها في الكراسة، هي لبنة صغيرة ستكون – أثناء قراءتها بعد سنوات – قد حملت دليلًا على وجود تلك اللحظة، وفي نفس الوقت ستقف شاهدًا على أن اللحظات مثل خيوط الدخان، تتبدد بسرعة.

سوف تكشف زيف فكرة الصلابة التي أحاطت باللحظة أثناء وجودها. سوف تعني شيئًا غريبًا له منطق الحضور/الغياب، منطق الثبات/الحركة، وسوف تعني في النهاية أننا نغادر حياتنا أثناء عيشها.

ست الناظرة

الجو متوتر. همهمات وصيحات خافتة، ضحكات صغيرة. تقف مديرة المدرسة وفي يدها الخرزانة على باب دخول الطالبات: «بسرعة يا بنت أنتِ وهي». تعود إلى الفناء مرة أخرى، ثم ترجع لتطل على جموع البنات القادمات من أول الشارع.

قبل أيام ضبطوا فتاة تُدخِّن سيجارة بانجو في الحمام. من لحظتها لم تهدأ المديرة. فصلت البنت واجتمعت بمجلس الآباء، وحذَّرت الجميع من الكارثة. بعد تلك الواقعة أصبحت لا تستقر في مكان، من فصل إلى فصل ومن طرقة إلى الفناء، عيونها تلمع ويحيطها حس بالذهول. يشعر المرء أن أعصابها تكاد تتحطم. تكلم نفسها وهي تمر في الطرقات:

هذه أفضل مدرسة في البلد، ما بالك بالمدارس الأخرى.

قالت وكلية المدرسة:

اعذروها يا جماعة، لم تعد تنام، البنات مسئولية كبيرة.

«أم السيد» عاملة المدرسة تقف صامتة مرتبكة، قالت لأحد المدرسين: «الهوجة دي عشان إيه؟ الكلام ده بيحصل على طول».

كانت تقف بجانب الباب المفتوح، في ذلك الصباح. عادت المديرة إلى البوابة ونظرت إلى عمق الشارع. لا تزال البنات يأتين على مهل ودلع. قالت بغضب: «اقفلي البوابة». حرَّكت «أم السيد» الباب الكبير ثم توقفت بعد أن انصرفت المديرة.

بعد قليل اقتربت بنتان. عبرت واحدة ثم أخرى، وأخرى. لم يبقَ على الرصيف المقابل سوى عدة بنات يتبادلن المزاح. قالت «أم السيد» بلهجتها الريفية: «أنتوا اللي هتجننوا الولية في آخر أيامها». ورنَّ جنزير البوابة وهي تضع فيه القفل بصخب في صمت الشارع.

يقين

بدوي توفيق، الصول في القوات البحرية، لا يصدق أنه سيموت، وحتى بعد أن مرض مرضًا خطيرًا، عندما قارب على الستين من عمره، ظل على يقين أنها وعكة وستمر، وأنه ما إن يعود إلى بلدته، وينام على المصطبة في دار أبيه، فسوف يسترد عافيته.

عقولنا العميقة تتلاعب بنا، لا نفهمها، نُصدِّق الظاهر منها، فقد تحورت رغبة الصول بدوي الأصلية في أن يموت في دار أبيه، ويُدفن في مقبرة عائلته، إلى يقين بأنه إن رجع إلى بلدته ونام فوق المصطبة، يطير هواء العصاري الجلباب من فوق ساقيه، ويلمس جسمه، فسوف يسترد عافيته، ويعود إلى بيته في باكوس، عفيًّا كما كان.

في صباح يوم شتوي وفي قلب نوة من نوات إسكندرية، قام من النوم وقد أخذ القرار. طلب من زوجته أن تتصل بربيع سائق الميكروباص، جارهم، لكي يحمله إلى البلد. اضطربت وحاولت أن تُماطل قائلة: ننتظر على ما الجو يروق، أصر الصول، وتعصب. ارتدت الجلباب الأسود، وفي قلب المطر الكثيف، مشت بمحاذاة حيطان البيوت، حتى طرقت باب الأسطى ربيع السائق، وأخبرته أن يجهز نفسه صباح الغد ليسافر بهم إلى البلد.

تصرف الصول بدوي مُنكرًا فكرة الموت التي كان جسده يعرفها خالص المعرفة، وظل متعلقًا بظاهر التفكير لأنه لا يستطيع مواجهة معرفة الجسد العميقة بأنه لم يبقَ له في الحياة غير أيام. كان عليه أن يودع الإسكندرية التي عاش فيها منذ أن كان فتًى صغيرًا جاء من بلدته ليتطوع في البحرية.

في الدار قال لزوجته: «مش قلت لك؟ أنا خفيت أهو».

عاد إليه مرحه وظل يحكي لهم عن أيام زمان وعن أول مرة نزل البلد بالبدلة الميري كأنه الزعيم جمال عبد الناصر، عادت إليه الروح ونام ليلته الأخيرة في الحياة، بثقة أنه سوف يجد نفسه في الصباح وقد صحا، وسيتصل مرة أخرى بالأسطى ربيع بالتليفون لكي يعيده إلى بيته في باكوس.