أعلن تحالف المعارضة التركية رسميًّا ترشيح كمال كليجدار أوغلو ليكون ممثله في الانتخابات الرئاسية القادمة. كمال أوغلو هو رئيس حزب الشعب، أكبر أحزاب المعارضة، وبترشحه عن الطاولة السداسية صار المنافس الأبرز للرئيس التركي الحالي، رجب طيب أردوغان.

يعرفه أنصار أردوغان بأنه «الرجل الذي لا يستطيع تحمل مسئولية 5 خراف». جملة لاذعة قالها أردوغان في حقه عام 2017، ولم تفارقه من حينها. جلب كليجدار ذلك النقد اللاذع لنفسه. فبينما كانت تركيا على أعتاب الاستفتاء الدستوري الحاسم الذي يُحول تركيا للنظام الرئاسي، خرج كمال لينتقد تلك التعديلات الدستورية بأنها ستخلق نزاعًا كبيرًا بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء. ليُذكره أردوغان بأقسى الوسائل أن التعديلات الدستورية المطروحة ستلغي منصب رئيس الوزراء أصلًا. لتكون تلك اللحظة من أسوأ لحظات الرجل الذي ظهر بهيئة التائه الذي لا يعرف مضمون الاستفتاء ولا على أي شيء يعترض.

كليجدار أوغلو من مواليد شرقي الأناضول لعائلة تنتمي للطائفة العلوية. أنهى مدرسته التجارية بمرتبة الشرف. ثم انتقل للعاصمة كي يُكمل دراسته الجامعية، فدرس في أكاديمية أنقرة للدراسات الاقتصادية والتجارية، لأنه لم يكن مسموحًا حينها لخريجي المدارس التجارية بالتقدم للقبول في الجامعات، وتخرَّج فيها عام 1971. ظل مشغولًا بنشاطاته الاقتصاديه والعادية بعيدًا عن المعترك السياسي حتى عام 2002. كان يعمل في مؤسسة الضمان الاجتماعي التركية حتى وصل لمنصب مديرها عام 1997.

الطالب الذي لم يكن يمتلك زيًّا مدرسيًّا، لأنه واحد ضمن 7 أطفال ولم يستطع والده إعالتهم، بدأ نشاطه السياسي عام 2002 بالانضمام لحزب الشعب، الذي أسسه كمال أتاتورك. في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2002، خاض انتخابات البرلمان التركي. كذلك خاضها في أغسطس/ آب عام 2007، وصار عضوًا في البرلمان في الدائرة الثانية في إسطنبول. ارتفعت طموحاته وترشح لرئاسة بلدية إسطنبول في الانتخابات المحلية لعام 2009. لكنه حصل على 37% فقط من الأصوات، وفاز مرشح العدالة والتنمية.

ثم في عام 2010 استقال دينيز بايكال من رئاسة حزب الشعب، فانتخبته الهيئة العامة لحزب الشعب الجمهوري خلفًا له. لتكون الخطوة التالية للرجل هي الصراع على رئاسة تركيا بالكامل، في خطوة احتاجت المعارضة التركية سنوات طويلة لتقرر أخيرًا الاصطفاف خلف رجل واحد لإزاحة أردوغان عن السلطة.

الأيديولوجيا ليست واحدة

في البداية قررت المعارضة إنشاء تحالف يُعرف بالطاولة السداسية لاختيار رجل واحد. فميرال أكشنار، رئيسة حزب الجيد، خرجت من الطاولة وعادت إليها أكثر من مرة. كانت تعارض تمامًا اختيار كليجدار ليكون ممثل المعارضة. كانت تريد أن يكون واحدًا من اثنين، أكرم إمام أوغلو، رئيس بلدية إسطنبول، أو منصور يافاش، رئيس بلدية أنقرة. رغم أن الاسمين ينتميان لحزب الشعب الجمهوري أيضًا، إلا أنها تميل إليهما أكثر.

لكن بعد اجتماعات متعاقبة توصل الفرقاء إلى حل وسط. إذ يكون للرجلين منصب رفيع حال وصل كليجدار إلى السلطة. وأن يكونا على الأقل في منصب نائبي الرئيس، وأن يُمنحا سلطات تنفيذية. محاولة ترضية أكشنار تأتي من أن حزب الجيد هو ثاني أكبر أحزاب الطاولة السداسية، بعد حزب الشعب الجمهوري.

بينما تتآلف الطاولة من أربعة أحزاب أخرى بجانب الاثنين السابقين. حزب الديموقراطية والتقدم بقيادة علي باباجان، والحزب الديموقراطي بقيادة جولتكن أويسال، وحزب السعادة بقيادة تميل كارامالا أوغلو، وحزب المستقبل بقيادة أحمد داود أوغلو. يمكن القول بأن ما يفرق تلك الأحزاب أكثر مما يجمعها.

فأحمد داود أوغلو كان حتى سنوات قريبة في مظلة العدالة والتنمية. يُعتبر الرجل مهندس عهد أردوغان، إلا أن الخلاف بينهما يتلخص في رغبة أوغلو في عدم خلق أي مشاكل مع جيران الدولة التركية، عكس ما يفعل أردوغان. كما أنه انتقد ما وصفه بالميل الاستبدادي لدى أردوغان. لكن ما دون ذلك فالرجلان يلتقيان في نقاط كثيرة، ربما أكثر مما يلتقي به أوغلو مع الطاولة التي يجلس حاليًّا إليها.

كذلك علي باباجان هو نائب سابق لرئيس الوزراء وحليف مقرب لأردوغان، وكان عاملًا مهمًّا في جذب الاستثمار الأجنبي لتركيا حين كان وزيرًا للاقتصاد. وخلافه مع أردوغان يتعلق بسيادة القانون والديموقراطية. وهي أمور قد تظل موجودة في ظل إدراك كليجدار أوغلو أنه صاحب الحزب الأكبر، وأنه مدعوم بميرال أكشنار، صاحبة ثاني أعلى حزب. فقد لا يبالي كثيرًا برضا، أو ترضية، أحمد داود أو علي باباجان.

ما يعني غياب التوافق الأيديولوجي، أو حتى الاتفاق بين أطراف الطاولة على مشاريع طويلة الأمد، فما يجمعهم فقط هو إسقاط أردوغان، ثم التفكير والتفاهم لاحقًا على ما سيحدث بعد ذلك. فالمعارضة، رغم وجود 6 أفراد على الطاولة، لم تفكر خارج الإطار التقليدي والمعتاد من المعارضة، إسقاط النظام ثم التمني أن كل المشاكل سوف تُحل تلقائيًّا بسقوطه.

دائمًا في المركز الثاني

رغم أن حزب الشعب الجمهوري هو فرس الرهان في هذا السباق، إلا أن الواقع السياسي التركي يقول العكس. فحزب الشعب لم يفز بأي أغلبية ديموقراطية منذ انتهجت تركيا نهج التعددية الحزبية. المرات المحدودة التي حقق فيها الحزب فوزًا كانت هي المرات التي يسبق فيها انقلاب عسكري يزيح له منافسيه من السلطة والحياة السياسية، ثم يلجأ الناخب لحزب الشعب باعتباره الحزب العلماني الذي يحمل إرث مؤسس الدولة التركية الحديثة.

منذ عام 2002 بدأ الحزب في استعادة زخمه في الشارع، لكن كحزب معارض لا حاكم. ووُلدت ثنائية مستمرة حتى اللحظة بحلول العدالة والتنمية أولًا، ثم حزب الشعب ثانيًا. لأن حزب الشعب يظل دائمًا في نظر الناخب جزءًا من الماضى، وللآلة الإعلامية لحزب العدالة والتنمية الفضل في هذا التصور الشعبي. لهذا كانت معظم استطلاعات الرأي تكشف أن الناخب قد لا يعرف لمن يُصوت، لكنه بالتأكيد يعرف أنه لن يُعطي صوته لحزب الشعب الجمهوري.

انتعاش الحزب وتغير مفهوم المواطنين عنه يعود الفضل فيه لكمال كليجدار. فبدأ الرجل ينتهج نهجًا يساريًّا، ويهتم بالحياة العادية للمواطنين، وبالأحوال المعيشية والرفاه الاجتماعي. وأعلن الرجل إمكانية القبول المشروط بارتداء الحجاب في الجامعات، وهو ما يُعد انقلابًا كبيرًا على مبادئ مؤسس الدولة والحزب، أتاتورك. ما أثار نقمة معتقني مبادئ أتاتورك في الحزب.

يعارض كليجدار، 74 عامًا، التعامل التركي الحالي مع سوريا. وأعلن أنه سيعيد العلاقات مع سوريا إذا وصل للحكم. كما انتقد قطع العلاقات مع إسرائيل الذي حدث عام 2008. وأكد أن ذلك يضر بتركيا ومصالحها. لكنه عاد وكرر انتقاده حين عادت العلاقات التركية الإسرائيلية إلى طبيعتها مؤخرًا.

خلافات مسكوت عنها

هذه الخلافات العميقة تبدو ساكنة الآن، ويبدو الحزب مصطفًا بالكامل حول الرجل لإزاحة أردوغان القابع في السلطة على مدى عقدين من الزمان. لكن كل تلك القلاقل الكامنة تُعتبر قنابل موقوتة قد تنفجر في أي وقت. سواء فاز كليجدار أو لم يفز.

 فالطاولة السداسية بالكامل تتحد حاليًّا لأن العدو المشترك هو أردوغان، لكن إذا أزيح من السلطة فسيطالب كل شريك بنصيبه من السلطة التي لولاه لما وصل التحالف إليها. وعلى رأسهم ميرال أكشنار التي تصر، وحصلت على وعد، بزرع رجلين مناصرين لها في قلب السلطة. فإذا انقلب كليجدار على هذا الاتفاق في أي مرحلة، فقد تشرذمت المعارضة. وبالطبع إذا رضخ لاعتراضات أكشنار المتكررة، فسيكون رئيسًا غير مقنع لأبناء حزبه أو باقي الشعب التركي المتحفز ضد حزب الشعب بالفعل.

كما أن أجنحة حزب الشعب نفسها سوف تتصارع إذا باتت في موضع السلطة التنفيذية. فأردوغان قد جعل البلاد ذات هوى إسلامي أو ديني. وسمح بالعديد مما كان ممنوعًا في نظر العلمانية التركية. فسيكون على كليجدار الاختيار، إما بالإبقاء على ما هو موجود من تلك المظاهر، وهو ما سيزعج أنصار أتاتورك. أو يقرر إزالة تلك المظاهر التي لا تتوافق مع قناعات الحزب الأصيلة.

بالتالي يهدد بتفجير الوضع مع الجناح اليساري في الحزب، ومع الناخب الذي اختار الحزب بصورته اليسارية لا الأتاتوركية. الذي اختار كليجدار تحديدًا لأنه تعهد للجميع أنه لن ينام طفل في تركيا جائعًا، كما نام كليجدار جائعًا أحيانًا كثيرة بسبب فقره. فالنضال ضد الفقر هو المحرك الأساسي لدخوله المعترك السياسي، وهو عامل الجذب الأكبر الذي يغري عين الناخب في كافة الدول.

خصوصًا في الحالة الراهنة؛ لأن المعارضة لا تملك مشروعًا واضحًا سوى إسقاط أردوغان. ولا تُقدم للناخب أي حلول للمشاكل بعد وصولها للرئاسة. ما يعني أنها مهددة بفقدان عدد ضخم من الأصوات التي أتتها طمعًا ورغبةً في حلول لمشاكلها، وتراهن المعارضة فحسب على الناخب الأيديولوجي الذي اختارها لأنه يريد إسقاط النظام القائم فحسب. وهو رهان جريء ومقامرة قد ترتد في وجه المعارضة سواء في الانتخابات الراهنة، أو حتى إذا فازت، لكن قد تؤدي بسياساتها غير الواضحة إلى عودة قوية للعدالة والتنمية في الانتخابات القادمة.