أنا فين والقمة فين؟ لم يستطع بلوغ القمة إلا اثنتان: أم كلثوم وفاتن حمامة.

يُقال إن هذا كان رد سعاد حسني عندما سألها أحد الصحفيين في ثمانينيات القرن الماضي: إذا كانت قد وصلت للقمة بعد نجاحاتها الساحقة.

حقّقت سعاد حسني نجاحًا استثنائيًا في تاريخ السينما المصرية؛ فلم تأتِ ممثلة قبلها أو بعدها تمتلك تلك الموهبة الفطرية أو ذلك القبول النادر. وُضِع اسمها في الصف الأول دائمًا؛ حتى أنها كانت تُقارن بنجمات جيلها والأجيال السابقة، ورأى البعض أنها تفوقت عليهن جميعًا بلا شك.

تظلم المقارنات الممثل، وتختصر الألقاب تاريخه وتحصره في بضع كلمات. وإذا أردت أن تتأمل مشوار الممثل، فعليك أن تنظر لجملة أعماله ولتَطور أدائه بمرور الوقت. وفي السطور القادمة، سنتناول أوجه تميز سعاد حسني التي جعلتها تتحول من مجرد فتاة جميلة بسيطة إلى ممثلة عظيمة لها تاريخ فني حافل.

سعاد حسني التي لا تُشبِه أحدًا

تتميز سعُاد بأنها خليط فني من الصعب تحقيق مثله. في وقت ظهورها، عُرِف أنها تُجيد التمثيل والغناء والرقص وتأدية الاستعراضات. وكان هذا لونًا جديدًا لم يره الجمهور من قبل. لتُصبح بهذا فنانة شاملة؛ فقد كانت نموذجًا حيًا للممثلة المتكاملة، حيث إن الممثل الحقيقي هو من يستطيع أن يفعل كل شيء ويؤدي أي دور مهما كان مُختلفًا أو غير شائع.

كما أنها ظهرت في وقت كان كثير من الممثلات يتكلمن ويمشين بصورة نمطية لا تتغير كثيرًا، ليُفاجأ الجمهور بفتاة رقيقة باستطاعتها أن تتحدث بنغمة سريعة، تضحك بصوت مُرتفع، تمشي بخفة وسُرعة، وحركتها حرة تلقائية بلا قيود، وهي بهذا تَخَلَّتْ عن مدرسة منْ سبقنها في الأداء ليكون لها أداؤها الخاص الصادق.

في أولى مراحلها الفنية، قامت ببطولة مجموعة من الأفلام التي تُعد «خفيفة» كما نُطلِق عليها مثل: ليلة الزفاف، للرجال فقط، حواء والقرد، الساحرة الصغيرة، وغيرها. وهي أفلام كشفت عن موهبة الكوميديا وخفة الظِل القابعة بداخلها. كذلك اشتركت مع ثلاثي أضواء المسرح، وكانت تُغني وتؤدي معهم الرقصات بمهارة في فيلمي: شباب مجنون جدًا، والزواج على الطريقة الحديثة.

الوجه الآخر لسُعاد

مع هذا، فقد برز اسمها خلال وقت قصير في أفلام هامة غيرَّت مجرى السينما المصرية؛ مثل: غروب وشروق، الزوجة الثانية، القاهرة 30، وزوجتي والكلب. وهُنا ظهرت موهبتها التمثيلية الحقيقية وقدرتها على أن تؤدي جميع الأدوار، وبهذا فقد حققت تنوعًا قويًا في الأدوار التي أدتها حتى بلغ هذا التنوع ذروته فيما بعد في أفلام مثل: أين عقلي، الاختيار، شفيقة ومتولي. بالإضافة إلى علامات سينمائية أُخرى مثل: موعد على العشاء، غريب في بيتي، الكرنك، والجوع.

أكثر ما يُميز أداءها هو مبدأ السهل الممتنع، فمع النظرة السطحية قد يبدو الأداء بسيطًا، ولكن مع النظرة الأعمق تجد أداءها عبقريًا مُغلّفًا بالبساطة الرائعة. كانت ترتدي ثوب الشخصية بطبيعية ودون تكلف، لينسى المُشاهد مع الوقت أنها سعاد، بل هي حتمًا الشخصية التي تؤديها، وساعدت على ذلك عيناها النفّاذتان اللتان تكشفان ما بداخل عقل وقلب الشخصية بشكل رائع وصادق.

والمثير للدهشة حقًا أن موهبتها قد وُلِدت ونمت بشكل فطري تمامًا، فهي لم تدرس التمثيل أو الغناء أو الرقص في أيٍ من المدراس أو المعاهد الفنية، فقط تدرّبت على يد الكاتب الكبير «عبد الرحمن الخميسي»، وتلّقت دروسًا للإلقاء، لتنطلق هي بعدها بسرعة مُذهلة في بناء مشوارها الفني الثري بذكاء.

سُعاد عيناها تتغيران وتُعطيك البساطة مثلًا وهي تُجسد دور فلاحة بسيطة أو فتاة من طبقة فقيرة، ولديها قدرة على التلقائية في الأداء.
المخرج الكبير «سمير سيف» عن سعاد حسني.

الحاضرة مع الجميع

رآها الجهور برفقة معظم الممثلين المصريين: أحمد مظهر، أحمد رمزي، عُمر الشريف، فؤاد المُهندس، شكري سرحان، محمد عوض، حسن يوسف، كمال الشناوي، محمود مرسي، عزت العلايلي، أحمد زكي، وعادل إمام… وغيرهم. شاركت رشدي أباظة عديد الأفلام، ما يصل إلى أكثر من 12 فيلمًا، وكوَّنَتْ أيضًا ثُنائيًا رائعًا مع أحمد زكي، على الرغم من فارق السِن بينهما، ليُصبحا فيما بعد أهم وأجمل ثُنائي فني عَرَفَته الشاشة. كذلك لم تخشَ أن تقف أمامها وجوه جديدة في عدة أفلام، مثل: حسين فهمي، نور الشريف، محمود عبد العزيز، وأحمد زكي، وذلك في بداية مشوارهم الفني. كما صنعت هي والممثل الكبير نور الشريف ثنائيًا رائعًا؛ وقدّما ما يقرب من ثمانية أفلام، من بينها الكوميدي والاجتماعي والدرامي والنفسي.

وفي عامي 1981 و1983، أطلَّت على الجمهور بفيلم «المشبوه» ثم «حب في الزنزانة»، والاثنان من بطولة الممثل الكبير عادل إمام. وإذا نَظرنَا لمساحة أدوارها -خاصة في المشبوه- سنجد أنها مساحة صغيرة مُقارنة بمكانتها. ولكن بنظرة من جانب آخر؛ سنكتشف جرأتها كممثلة لم تهتم بمساحة الدور طالما أنه سيضيف لمسيرتها. فسُعاد في هذين الدورين تركت أثرًا لم يَكُن في استطاعة أي ممثلة أخرى أن تتركه.

تحدي نموذج المرأة المثالية والتقليدية

تُعَد أول ممثلة مصرية تُحطم تمثال الفتاة المثالية التي لا تُخطِئ ولا يجب عليها أن تُخطِئ، وكذلك نموذج المرأة التي دائمًا ما تظهر في صورة الضحية المغلوبة على أمرها التي لا حيلة لها. فقد قامت بدور الزوجة الخائنة المُضطربة في «غروب وشروق»، والفتاة المُصابة بازدواج الشخصية أو «اضطراب الهوية التفارقي» في فيلم «بئر الحرمان»، ودور الفتاة الجامعية التي تعيش ممزقة بين رغبتها في أن تحيا حياة الطالبة الجامعية كغيرها من الفتيات وبين حياتها كابنة راقصة في شارع محمد علي في «خلي بالك من زوزو». وكذلك «شفيقة» التي يتلاعب بها القدر لتُصبِح ضحية ثلاثة رجال من طبقات اجتماعية مُختلفة، إضافة إلى دور الصديقة الخائنة في «الحب الضائع»، وغيرها من الأدوار.

فسعاد حسني هي أول منْ مهّد الطريق أمام الممثلات -بما فيهن نجمات السنوات اللاتي سبقنها- لكي يقدمن الأدوار القوية الجريئة التي تلمس وجدان البشر جميعًا، مع الابتعاد عن قصص الحب الحزينة الخيالية التي ملَّ منها الجمهور. وتشترك هذه الأدوار جميعًا في أنها تحمل صراعًا قويًا في طيّاتها؛ فلا تسير الشخصية على وتيرة واحدة، بل تسير في مختلف الاتجاهات التي تكون متناقضة غالبًا. فإذا نظرت إلى الأفلام المصرية التي تناولت قضية اجتماعية ونسائية أو حتى نفسية هامة، ستجد أن لسعاد حسني فيلمًا واحدًا على الأقل.

ولعل العامل الأبرز الذي وجَّه سُعاد في طريق الواقعية في بدايات طريقها هو عملها مع رائد الواقعية، المخرج الراحل «صلاح أبو سيف» في فيلمي «الزوجة الثانية» و«القاهرة 30». وظلت تتوَّلى بطولات أهم الأعمال الاجتماعية والسياسية الواقعية برفقة مخرجين واقعيين مُتميزين آخرين، مثل «كمال الشيخ». تعاونت أيضًا مع المُخرج «سعيد مرزوق» في فيلمي «الخوف» و«زوجتي والكلب»، وكان الأخير تجربة واقعية نفسية معقدة ورائعة.

كما عزّز عملها مع المخرج الراحل «يوسف شاهين» في فيلمي «الاختيار» و«الناس والنيل» موهبتها، وأضاف لمسيرتها الكثير؛ خاصةً وأن العمل مع مُخرج مثل يوسف جاهين هو بمثابة دخول الممثل في عالم فريد لا يستطيع التألق والاستفادة منه سوى القليلين. وهذا بالإضافة إلى عملها مع أهم وأكبر مخرجي السينما: عاطف سالم، حسام الدين مصطفى، علي بدرخان، حسن الإمام، هنري بركات… وغيرهم.

انتمت الشخصيات التي قدّمتها لعوالم أهم المؤلفين والأدباء: مثل الأديب الكبير «إحسان عبد القدوس»، وكذلك الرائع الراحل «نجيب محفوظ»، الذي قدَّم السيناريو والحوار والقصص الأصلية لبعض الأفلام الهامة.

وإذا استمرينا في السرد، فلن تنتهي نوعية الأدوار الجريئة التي بَرعت فيها وعبرَّت بها عن نموذج آخر للمرأة؛ المرأة القوية حتى في أشد لحظات ضعفها؛ المرأة التي تمشي عكس التيار السائد في المجتمع المصري خاصةً والعربي عامةً، كما أنها كانت جميعها أدوارًا تُسلِط الضوء على قضايا المجتمع وقتها. ولهذا أرى أن لقب «السندريلا» لا يليق بممثلة مثلها؛ فهو لقب يُعبر عن أدوارها المبهجة ويُصوِّر جمالها وأنوثتها الأخّاذة فقط -وإن كان يمثل جزءًا من حياتها باعتبار أنه كان لها ستة عشر أخًا وأختًا- ولكنه مع ذلك لم يعبر عنها كممثلة أتقنت جميع الأدوار بصورة متساوية.

إنها أعظم الممثلات اللواتي شهدتهن السينما المصرية، فهي ذات طاقة تمثيلية كبيرة، فهي فنانة شاملة تجمع بين التمثيل والرقص والغناء. أمّا الشيء الثاني الذي ميز سعاد حسني فقد كان مصريتها الصميمة، لذلك فقد كنت أسعد كلما قدمت سعاد حسني إحدى رواياتي، لأن شخصياتي تتسم بالطابع المصري الصميم نفسه الذي اشتهرت به فنانتنا العظيمة.
نجيب محفوظ عن سعاد حسني في مقال خاص له عنها بعد رحيلها لمجلة الكواكب عام 2003.

أدوار هامة وشهرة عربية

كان لسعاد القدرة على الوصول للعالم العربي بسهولة بسبب شعبيتها الكبيرة، وهناك فارق كبير بين الشعبية والنجومية، وإن كانت قد حظيت بالاثنين. وقد قدمت فيلمين عربيين مصريين: «القادسية» و«أفغانستان لماذا»، وهما فيلمان سياسيان وتاريخيان من الدرجة الأولى. الفيلم الأول عراقي مصري من إنتاج دائرة السينما والمسرح العراقية عام 1981، يُصوِّر معركة القادسية التي وقعت بين الجيش الإسلامي والجيش الفارسي، وهو من إخراج «صلاح أبو سيف». أمّا الثاني، فهو فيلم مغربي من إنتاج عام 1984 ويتناول قضية الاحتلال السوفييتي لأفغانستان.

ومن الأدوار الهامة كذلك التي أظهرت قدرتها العالية على تقديم أداء مُحترف هو فيلم «عصفور الشرق»، المأخوذ عن رواية «عصفور من الشرق» للأديب الكبير «توفيق الحكيم». الفيلم من بطولة نور الشريف، وظهرت فيه سُعاد في دور رئيسي وهام في مجرى الأحداث. المميز في شخصية «ريم» التي قامت سعاد بدورها هو أنها فتاة خرساء، فلم تنطق سعاد حرفًا في جميع مشاهدها، ونابت تعبيرات وجهها وإشارات يديها عن الكلمات التي لم ينطق بها لسانها. وقد تم تسجيل هذه الأفلام وغيرها كأفلام نادرة خالدة، لا تجرؤ على المشاركة فيها سوى ممثلة جريئة وذكيَّة وموهوبة.

استعراضات فنية متكاملة

لم تستغنِ سُعاد عن الغناء والرقص في أفلامها؛ فمعظم الأفلام كان يتخللها استعراضات فنية قوية تُعبِر عن بعض أحداث الفيلم ومضمونه. فكان الاستعراض جزءًا لا يتجزأ من الفيلم. ولم يَكُن هذا مُتاحًا عند أي نجمة أخرى. فالاستعراضات في الحالات الأخرى كانت بمثابة إضافة وليست ضرورة، ولكنها في حالة فنانتنا كانت ضرورية لا غِنى عنها بفضل أدائها المميز لها. ولم تَكُن هذه الاستعراضات وسيلة للتعبير عن البهجة والفرحة فقط، بل كثير منها كان يُعبر عن اليأس والخوف ومتاعب الحياة المُختلفة.

سعاد حسنى هي سيدة التعبير السينمائي الاستعراضي؛ فكان وجهها يتلون ليُعَبِر عن كل المآسي بنفس الروعة التي يُعبر بها عن الفرحة والأمل، وكان أيضًا لكل استعراض موضوعه الخاص. ففي عيد الأم، يجب أن تسمع: «يا ماما يا أمَّا يا أمّاتي»، وفي عيد الربيع، نسمع «الدنيا ربيع والجو بديع»، وفي معظم المناسبات أو المواقف، تجد استعراضًا بأغنية جميلة ممتعة.

إنني أعتبرها أم كلثوم الغناء في السينما الغنائية.
الناقد المسرحي «عبد الفتاح البارودي» من حوار له مع «محمد السيد شوشة».

وقدمت أيضًا نُخبة كبيرة من الاستعراضات والأغاني المتنوعة في مسلسلها التليفزيوني الوحيد: «حكايات هو وهي» برفقة الفنان «أحمد زكي»، فلم تخلُ حلقة من أغنية واستعراض باهر على الأقل، لتُصبِح هي الممثلة الأولى والأخيرة التي تًقدم عملًا دراميًا استعراضيًا غنائيًا، إضافة إلى أن إنتاج مسلسل مُكون من مجموعة حلقات متصلة منفصلة كان يعد حينئذ أمرًا جديدًا ومُبتكرًا.

الأب الروحي والفني

وعصير العنب العنابي العنابي
نُقطة ورا نقطة يا عذابي عذابي
يكشفلي حبايبي وأصحابي
يوحدني وأنا في عز شبابي
والقلب على الحُب يشابي
والحب بعيد عن أوطانه
من أغنية «بانو بانو»، غناء: سعاد حسني، وكلمات: الشاعر «صلاح جاهين».

كانت هذه الأغنية أشهر ما غنته سعاد حسني من كلمات الشاعر والفنان الكبير «صلاح جاهين»، وذلك في الفيلم الدرامي ذي الطابع الفلكلوري «شفيقة ومتولي». فقد قدّما معًا أروع الأفلام التي كانت من تأليفه أو كتب لها السيناريو والحوار، وتملؤها الاستعراضات التي لا تزال كلماتها حية معنا حتى الآن. ولكن علاقة سُعاد وصلاح لم تَكُن مُجرد علاقة فنية، فصلاح كان «لسان حال» سعاد، كما ذكرت هي بنفسها في مقابلة صوتية لها مع «صفاء أبو السعود» عام 1998.

فمن المعروف أنه كان بمثابة الأب الروحي والمُرشِد الذي لعب دورًا رئيسيًا في تكوين شخصيتها الفنية والثقافية. كلمات جاهين وآراؤه في السياسة والثقافة وأحوال مصر وأحوال الفن، هي من الأسباب الرئيسية في نُضجها كممثلة وفنانة شاملة، وبالطبع كإنسانة لها رؤية وفِكر. كان صلاح يعاني من الاكتئاب وهناك آراء جديَّة تقول إنه مات مُنتحرًا، وأغلب الظن أنهما تشاركا في كل شيء ولعل أهم ما جمع بينهما هو حالة الحزن الدفينة داخل روح كل منهما.

وإذا ذكرنا صلاح جاهين، فلابد أن نتطرق إلى الفيلم المصري الذي حقّق نجاحًا لم يسبقه مثيل، ليس في مصر فقط ولكن في الوطن العربي بأكمله، وهو فيلم «خلي بالك من زوزو». فقد كان ثمرة تعاون رائعة بين ثلاثة من المُبدعين: سُعاد حسني وصلاح جاهين والمُلحن الكبير «كمال الطويل»، مزجت فيه سُعاد بين التمثيل والرقص والغناء بشكل أكثر كثافة عن أي عمل سابق، كما أنه من أفلامها المُفضلة أو ربما هو الأفضل على الإطلاق بالنسبة لها كما هو معروف.

جرَّب في مرة أن تفتح موقع اليوتيوب، وتكتب في خانة البحث: «قصائد صلاح جاهين»، ستجد العديد من رُباعياته قد قامت سعاد بالإلقاء الصوتي لها. وفن الإلقاء لا يحتاج فقط إلى اللباقة والصوت العذب والقراءة الفصيحة، بل كذلك إلى إحساس عالٍ وقُدرة على التعبير، تجعل من كل كلمة معنى مُكتملًا في حد ذاته لا ينقصه شيء، وهذا ما قامت به سعاد ببراعة لا يُمكِن وصفها.

عندما تسمع هذه الكلمات الرائعة بصوتها، تشعر أن صوتها قد أضاف إلى الكلمات الكثير والكثير، فهي لم تَكُن تُلقي مجرد شعر، بل شعر كتبه إنسان ينتمي لعالمها الخاص وأثّر فيه تأثيرًا قويًا. وقد قامت كذلك بإلقاء آخر قصيدة كتبها الراحل بعنوان «ربنا»، في نفس المقابلة الصوتية التي ذكرناها آنفًا؛ وكأنها كانت تُريد وبشدة إحياء وربط اسمه باسمها إلى الأبد قبل أن ترحل هي الأُخرى.

حياة خاصة ثرية أضافت للحياة الفنية

وأخيرًا، من النادر أن تخلق الحياة الهادئة المُستقرة فنانًا مختلفًا. وحياة سعاد حُسني كانت تملؤها المتاعب والصعوبات: بداية من انفصال والدها عن والدتها وما تركه هذا من أثر في نفسها، وما قيل عن عدم نجاحها في أن تُصبِح أمًا وفشل أكثر من محاولة حمل لها بسبب مجهودها الشاق في العمل والاستعراضات، إلى الطريقة التي رحلت بها عن حياتنا.

وكل هذا يدل على أن هذه السيدة لم تنعم بالحياة الشخصية الهادئة التي نعمت بها أخريات، ومن الواضح أن الحياة الصاخبة صنعت منها فنانة قلَّما يجود بها الزمان، حتى أنها كانت شخصية قلقة لا تنضم للمشاريع الفنية بسهولة، بل تستغرق وقتًا في التفكير وتلتزم بالتدقيق الشديد أثناء العمل.

كتب «محمد زهدي» الناقد الفني في مجلة «الشبكة» مقالًا قصيرًا تناول فيها رؤيته لسعاد حسني كممثلة بارعة دائمة القلق شديدة الحساسية لكل من حولها، وأن جوهر شخصيتها هو الصدق؛ تُمثِل من أجل التنفيس عن القلق المُتواصل، ولهذا أصبح التمثيل بالنسبة لها «ممارسة حياة وليس ممارسة لمهنة أو حِرفة»، على حد تعبيره.

قررت سُعاد أن تكتب ردًا عليه وطلبت نشره في نفس العدد. وقد قالت من ضمن ردها:

أنا لن أخرج من دائرة القلق، لأن القلق جزء من تكوين الفنان… كل ما في الأمر أنني أحس بالمسئولية… أنا أريد أن أحقق شيئًا له قيمته الفنية.

مضمون الرد يوحي برفضها لفكرة أن تُتهَم بالقلق أو الحساسية الشديدة، ولكنها في حوار لها مع نفس المجلة أكدت على ما تحاول نفيه بدون قصد. فقد قالت ضمن حوارها:

التحرك أمام الكاميرا ليس بالأمر الهين… إنه يأخذ من دمي وفكري وإحساسي الكثير.

وأخيرًا، من الصعب أن تتناول رحلة فنية طويلة كهذه في بضعة سطور في مقال، ولكن بعد التطرق لهذه التفاصيل، نستطيع الآن أن نكوَّن صورة مقبولة عن هذه الفنانة الكبيرة الذي سيطر عليها القلق والصدق وحُب العمل وعشق الفن. ظهرت على الساحة الفنية بشكل مفاجئ في فيلم من بطولتها بعنوان «حسن ونعيمة»، ورحلت كذلك بصورة مفاجئة، وكأنه قُدِرَّ أن يكون كل ما في حياتها بدايةً من ميلادها وشهرتها وحتى وفاتها مميزًا يستحق الوقوف والتأمل.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.