كان زين الدين زيدان لاعبًا ساحرًا، تشعر أن الكرة تتبعه أينما كان. يُراوغ بتفرُّد، يُمرر بسلاسة، ويسجِّل بشتى الطرق. 

بذكر التسجيل، سجَّل «زيزو» أروع أهدافه على الإطلاق في نهائي دوري أبطال أوروبا ضد بايرن ليفركوزن. ومع ذلك، إذا ما سُئل زيدان نفسه عن أهم أهدافه التي سجلها في مسيرته الحافلة، لربما يُجيب أنه أحد هدفيه بمرمى البرازيل في نهائي كأس العالم 1998. 

في الواقع، لم يكن الفرنسي مميزًا في ضربات الرأس، وربما إذا ما استبدلنا بـ «زيزو» لاعبًا آخر أقل مهارةً وسحرًا كان ليسجِّل هذه الثنائية، ويساهم في حصد الديوك لكأس العالم كذلك. 

المشترك في قصة الهدفين اللذين سهلا مهمة حصد اللقب هو أنهما ترجمة لعرضيتين متقنتين من ضربتين ثابتتين. للوهلة الأولى تشعر أن الأمر لم يكن مخططًا له، ومع ذلك، يخبرنا التاريخ أنَّ بعض النهائيات لا تحسمها المهارات الفائقة، بل «الكرات الميتة». 

«الأندردوج» 

ينظر الناس للهدف المُسجَّل من كرة ثابتة على أنَّه هدف رخيص. 
مادز بوترجيريت، مدرب الضربات الثابتة بمنتخب الدنمارك. 

كانت ولا زالت كرة القدم لعبة محافظة بشكل عام، دأب مسئولوها على محاربة التغيير، خوفًا على هُويَّة اللعبة القائمة على الاندفاع، العشوائية والارتجال من الاندثار. بالتالي، لطالما قوبلت اقتراحات التطوير بشتى مساحات اللعبة بالرفض بدايةً، حتى إن ثبُت لاحقًا إيجابيات هذه الاقتراحات. 

بنفس السياق، لطالما كانت الضربات الثابتة مساحة مُملة، على الرغم من أهميتها. لن تجد مهاجمًا مميزًا يُفضِّل الدخول في صراع هوائي، بدلًا من الركض على الأرض، كذلك المُدربون الكبار الذين وصلوا لوظائفهم لأسباب عديدة ليس من ضمنها حُبهم لبناء فريق قادر على التسجيل من ركنية بكل تأكيد. 

لذلك، وحتى وقت قريب، كانت الضربات الثابتة بأنواعها سلاحًا للمستضعفين، الذين لا يمتلكون بين صفوفهم زيدان. لماذا؟ لأن الكرات الثابتة ليست سلاحًا مضمونًا عكس قدرات اللاعبين، وهذا جدال قد لا ينتهي إلى الأبد. 

في كتابهما، «لعبة الأرقام: لماذا كل ما تعرفه عن كرة القدم غير صحيح؟»، أكَّد «ديفيد سالي» و«كريس أندرسن» أنَّه طبقًا لإحصائيات مباريات الدوريات الخمس الكبرى التي تخص الفترة بين عامي 2005 و2011، فإن الركنيات كمثال لا تُمثِّل أي قيمة حقيقية في كرة القدم الحديثة. 

وصل الثنائي لمجموعة من الحقائق التي تتماشى نسبيًّا مع الرأي السائد. أولًا، عدد الأهداف التي يسجلها الفريق لا يزيد بزيادة عدد الركنيات التي يحصل عليها. ثانيًا، ينجح الفريق في تسديد كرة على المرمى من كل خمس ركنيات. وثالثًا، في البريمييرليج كمثال، يسجل الفريق المتوسط هدفًا من ركنية كل عشر مباريات. 

وبما أن احتمالات التسجيل من الكرات تبدو ضعيفة، على الأقل من وجهة نظر إحصائية، لا يبدو منطقيًّا بالفعل أن تلجأ له سوى الأندية الضعيفة، التي تمتلك احتماليات قليلة بالأساس لتسجيل الأهداف عبر لعب مفتوح. ولعل أبرزها «برينتفورد» الإنجليزي، وتوأمه الدنماركي «ميتلاند»

 تعمل مثل تلك الأندية قليلة الموارد على محاولة تقليص الفجوة مع كبار اللعبة، حيث تستثمر في مساحات لم يسبقها إليها أحد، مثل: التعاقد مع أطباء نفسيين، خبراء في النوم، متخصصين في التدريب على ركل الكرة، وآخرين لتدريب اللاعبين على الضربات الثابتة، بغرض الحصول على هامش أفضلية بسيط في كل مساحة، يضمن في النهاية تحقيق أفضل عائد مُمكن مقارنة بالإمكانيات المتاحة. 

الفارق بيننا وبين الفريق في المركز الثاني من حيث فعالية الضربات الثابتة هو نفس الفارق بين الفريق صاحب المركز الثاني والفريق الذي يحتل المركز 73. 
راسموس أنكيرسن، المستشار الفني السابق لنادي ميتلاند الدنماركي. 

كمثال، في موسم 2014-2015، كانت 25% من أهداف ميتلاند الدنماركي من ضربات ثابتة بفارق ضخم عن الفريق الذي يليه. بل إن النادي الدنماركي استمر متربعًا على عرش أكثر الفرق الأوروبية تسجيلًا من كرات ثابتة لمدة خمس سنوات تالية. 

بنفس الصدد، استطاع فريق برينتفورد الإنجليزي، تسجيل 15 هدفًا (30%) من أهدافه موسم 2021-2022 من كرات ثابتة كذلك. لذا علينا أن نطرح سؤالًا: كيف يمكِن أن تتخلَّى الأندية الكبيرة عن سلاح يعتبر بمثابة مهاجم جيد، بتكلفة تقترب من الصفر تقريبًا. 

التقاليد

في مقاله الذي نشر عام 2014 بعنوان: ريال مدريد مدين للضربات الثابتة، تطرَّق «شين إنجل»، محرر جارديان البريطانية، للحديث عن مدى اهتمام الأندية الكبيرة بهذه المساحة من كرة القدم. حيث استخدم إحصائيات موقع «أوبتا» التي وصل منها لحقيقة أن عدد الأهداف المسجلة من ضربات ثابتة بأنواعها في الدوريات الخمس الكبرى تراجعت منذ موسم 11/12 وحتى موسم 13/14 من 1642 هدفًا إلى 1522 هدفًا. 

في تفسيره لهذا التراجع، افترض مبدئيًّا أن السبب الرئيسي هو التغيُّر الذي حل على أساليب اللعب التي شهدت بزوغ نجم اللاعبين قصار القامة في تلك الفترة، لكن التفسير الأكثر منطقية، جاء في نفس المقالة على لسان «بول كليمنتي»، مساعد المدرب «كارلو أنشيلوتي» في ريال مدريد. 

يقول كليمنتي:

كرة القدم لعبة بسيطة، يجب عدم تعقيدها. أثناء الدفاع في الكرات الثابتة علينا المراقبة رجلًا برجل، وأثناء الهجوم، أُخبر اللاعبين أنَّهم بحاجة للوصول إلى الكرة ووضعها في الشباك. 

 من هذا التصريح يمكننا فهم طريقة تعاطي نادٍ بحجم ريال مدريد مع جزء أساسي من أجزاء اللعبة؛ عن طريق إيمان تام بجودة منفذ الركلة الثابتة، وقدرة المهاجم على تسجيلها.

بشكل شبه متطابق، أولى «أليكس فيرجسون» اهتمامًا بالركلات الثابتة أثناء آخر مواسمه مع «مانشيتر يونايتد» موسم 2012-2013، في ظل تعاقدات قليلة، وأعمار مرتفعة لمعظم عناصر الفريق. 

لجأ «فيرجسون» وقتئذٍ لحل بسيط، وهو إعطاء مهمة تنفيذ الركلات الثابتة لمهاجميه «واين روني» و«روبين فان بيرسي» عكس المعتاد؛ لأنهما أكثر عناصر الفريق قدرة على إيصال العرضيات بشكل صحيح، أو تسديد الركلات الحرة المباشرة في المرمى. 

بين موسمي 2011-2012، و2012-2013 ارتفعت حصيلة أهداف الشياطين الحمر بعد اتباع هذه الحيلة من 11 هدفًا لـ15 هدفًا من كرات ثابتة. بينما ارتفعت نسبة تحويل الكرات الثابتة لأهداف من نحو 10% إلى ما يدنو من 20%. 

العلم نور 

في 2017، وباستناده لإحصائيات أكثر تحديثًا عن تلك الخاصية بكتاب «لعبة الأرقام» أعلاه، نشر «تيد ناتسن» بعض الأرقام التي تؤكد أهمية الركلات الثابتة كمصدر للتهديف في كرة القدم. وهي أن تمثل الأهداف التي تأتي بعد ركلة ثابتة نحو 25% إلى 33% من إجمالي عدد الأهداف التي يتم تسجيلها بالدوريات الخمس الكبرى، بينما يبلغ متوسط تسجيل الفريق الواحد من الركلات الثابتة في المباراة الواحدة 0.3 إلى 0.8 هدف، أي ما بين 11 و30 هدفًا كل موسم. 

بالتالي، كان لا بد لأحد الأشخاص أن يبدأ بالاستعانة بشخص يساعده على استغلال كل فرصة متاحة لتسجيل هذه النسبة المهولة المُهملة من الأهداف. الرجل هو المدرب «والتر زينغا»، الذي استعان بـ «جياني فيو»، البنكي الذي أدرك قبل وقت طويل أهمية الكرات الميتة. 

حصل «فيو» على شهادته التدريبية بعد تقديم أطروحته التي تحمل عنوان «المهاجم صاحب الـ 15 هدفًا»، والتي يدعي من خلالها امتلاكه لنحو 4830 طريقة مختلفة لتنفيذ الركلات الثابتة، نعم الرقم الذي قرأته صحيحًا! 

ومع ذلك، يُصر «فيو»، الذي ساهم في فوز إيطاليا ببطولة أمم أوروبا 2020، أن التدريب على الضربات الثابتة يختلف تمامًا عن كتيب الألعاب الخاص بكرة القدم الأمريكية. في الواقع، يختار المدرب الطريقة المثالية طبقًا لقدرات لاعبيه، وبعد دراسة وتحليل طريقة دفاع المنافس بالركلات الثابتة، ومن ثم يستقر على طريقة أو اثنتين فقط. 

حقيقةً، تتخطى مسألة تحديد الخطة المناسبة لتنفيذ الضربات الثابتة كرة القدم من الأساس. طبقًا لـ «سيمون أوستين»، الذي قام بتحليل طريقة تعامل فريق «برينتفورد» مع الضربات الثابتة هجومًا ودفاعًا، عادة ما يمزج مدرب الضربات الثابتة بين مختلف الرياضات، بل بين الرياضة والفنون أو استراتيجيات الحروب. 

يرى فيو كذلك أن العامل النفسي مُهم جدًّا لنجاح الضربة الثابتة. كانت طريقة «التوأم» التي صدرها للعالم عام 2005 بعد شراكة مع عالم النفس الإيطالي «أليساندرو تيتامانزي» فعَّالة جدًّا لإرباك حرَّاس المرمى، حيث يقوم ثنائي الهجوم طوال القامة بالوقوف حائلًا بين الحارس والكرة. 

نحو القمة 

حاليًّا، وبعد ثبوت فعالية امتلاك شخص متخصص في كل مساحة فنيَّة بكرة القدم، لم يَعُد هذا الهامش الضئيل من الأفضلية متروكًا للأندية الصغيرة، بل تسارع الأندية العملاقة للحصول على خدمات أصحاب التخصصات النادرة كالمتخصصين بالكرات الثابتة أو رميات التماس. 

حسب «أندرياس جيورسون»، الذي عمل في «أرسنال» الإنجليزي كمدرب للركلات الثابتة، فانبهار مدربي الصفوة بنتيجة عمل المتخصصين في الركلات الثابتة يأتي من منطلق الجهل. حيث لا يُمكن أن تحظى الكرات الثابتة باهتمام وشغف لاعب سابق يشق طريقه التدريبي. بل على النقيض يضع المدربون الشباب التكتيكات وبناء الفرق وإدارتها صوب أعينهم. 

في النهاية، وبغض النظر عن الأسباب، فكل الطرق تصُب في مصلحة التنافس في كرة القدم بشكل عام. فمثلًا؛ بعد موسم 2018/2019، لجأ «بيب جوارديولا»، المدير الفني لمانشستر سيتي، لتعيين «نيكولاس خوفير» قادمًا من برينتفورد، لعلاج القصور في التسجيل من الركلات الثابتة، والتي شهدت ارتفاعًا ملحوظًا بمجرد وصوله. نفس الشيء الذي حدث بمجرد استقدام «يورجن كلوب»، مدرب ليفربول، لمدرب متخصص برميات التماس قادمًا من برينتفورد أيضًا.

إذن، هل يكمن الحل في التعاقد مع متخصص بالكرات الثابتة وإهمال التكتيك وإدارة اللاعبين نفسيًّا؟ للأسف هذا السؤال خاطئ يبحث عن إجابة خاطئة؛ حيث إن احتمالية التسجيل بأي موقف بكرة القدم قليلة بالأساس، ونسبة الـ 30% تلك هي متوسط عدد الأهداف، وتحسب بأثر رجعي، لذا لا ضمانات، لكن الأكيد أن التخطيط لأي شيء قد يؤتي ثماره، عكس تركه للصدفة، أو جودة اللاعبين الذين قد يخونون مدربهم يومًا ما.