اندلعت مشاجرة عنيفة في صدره بين قلبه الذي أصابته نوبة من الخفقان الهستيري، وضلوعه التي تحاول جاهدة أن تمنع هذا القلب شديد الخفقان من كسر قيودها والفرار، بينما انحدرت حبات العرق زخاتٍ زخاتٍ على وجهه الممتقع.

ليست تلك هي المرة الأولى التي يقاسي فيها تلك الحالة، فهي تتكرر معه كل بضعة أيام، قبل كل لقاءٍ كبير أو اجتماعٍ تضطره إليه ظروف العمل، أو حتى حضور المناسبات المختلفة مع المعارف أو زملاء العمل، وفي سني المراهقة المبكرة كانت تلك الحالة من التوتر الشديد تمنعه من الاشتراك في الإذاعة المدرسية، وتؤثر عليه سلبًا في الامتحانات الشفهية، وكان يظن أنها ستتحسن مع التقدم في العمر، لكن ما حدث هو العكس.

جرَّب تدخين السجائر، وشرب القهوة مرارًا وتكرارًا لتهدئة نفسه، لكنه كان يشعر أنها تزيد من توتره. كان يظن أن الأمر راجع لقلة نومه، فجرَّب أخذ المهدئات ليلًا، لكنه بمجرد أن يستيقظ ينشط معه توتره لا سيما في النصف الساعة الأخيرة قبل الاجتماع. نصحه بعض أصدقائه بأن يطلب مشورة طبيب نفسي، لكنه اشتعل غضبًا من تلك النصيحة، إذ كان من هؤلاء الذين يرون في طلب المشورة الطبية النفسية وصمةً سلبية، وأن الأطباء النفسيين يصفون عقاقير نفسية خطيرة تسبب الإدمان، ولذا فينبغي تجنب طلب مشورتهم.

الرُّهاب الاجتماعي وفرصه الضائعة

يعاني الآلاف من مثل ما يعاني منه صاحب القصة التي صدَّرنا بها هذا المقال، ويعاني الكثير منهم معاناة إضافية نتيجة أفكار سائدة خاطئة عن المشورة الطبية النفسية، فيظلُّون يحاولون السيطرة على ما يعانونه من أعراض الرهاب الاجتماعي أو فوبيا التجمعات بطرق غير علمية، لا تحل المشكلة بشكل فاعل، وتفاقم أحاسيسهم السلبية بجلد الذات، والنظرة الدونية للنفس، واتهامها بالضعف.

تُقدَّر الإحصائيات أن أكثر من 5 ملايين أمريكي (ما يقارب 1.5% من تعداد الشعب الأمريكي) يعانون من رُهاب القلق الاجتماعي، والذي يبدأ في الظهور في غالبية الحالات في سني المراهقة 12-18 عامًا. وهناك درجات ظاهرة التباين لشدة الرُّهاب الاجتماعي من مُصاب به لآخر، ويمكن لنفس الشخص أن يكون أقل قلقًا في أمكنة وأزمنة، بينما يكون شديد القلق في غيرها، فهناك من يقتصر رهابه الاجتماعي على إلقاء الخطب ومواجهة جمهور كبير في قاعة ضخمة، بينما غيره يعاني بشدة لمجرد أن يطرق الباب لكي يدلف إلى فصل دراسي أو اجتماع عادي … إلخ.

في العموم، يدفع الرهاب الاجتماعي الإنسان إلى الميل إلى عدم مواجهة المواقف المهمة، والهروب من التجمعات، والانسحاب الاجتماعي، ويتضخم لديه الهلع الشديد من تلقي النقد السلبي المباشر أو غير المباشر، ومن نظرات الجمهور الذي يواجهه، والشعور بالضغط الانفعالي الشديد أثناء حضور بعض اللقاءات والاجتماعات التي يتفاعل فيها الآخرون بشكل طبيعي، ولا يرون فيها ما يستدعي القلق والتوتر.

وبالطبع ليس كل توتر يصيب المرء قبل مواجهة الجمهور أو في المحافل الكبرى والتجمعات هو الرهاب الاجتماعي المرضي الذي نقصده، فهذا الأخير يفسد على الإنسان الكثير من تفاصيل حياته اليومية، ويعطِّل تطوره في العمل والدراسة، ويؤثر سلبًا كذلك على علاقاته الأسرية والاجتماعية والعاطفية. كما أن الشعور بالقلق نتيجة الرهاب الاجتماعي المرضي لا ينحسر مع الوقت ومع الاعتياد على المكان أو الزمان المُسبِّب له، على عكس القلق الطبيعي الذي قد يداهم أي إنسان عندما يواجه حدثًا جديدًا أو ينتقل إلى مكانٍ مختلف … إلخ، فهذا الأخير يقل تدريجيًّا، وقد يزول تمامًا بمرور الوقت وبترسَّخ الاعتياد.

أما أسباب الرُّهاب الاجتماعي، فقد اختلفت الأدلة العلمية المتاحة في تحديدها بشكلٍ قطعي، لكن يُعتقد أن الأسباب الأسرية والاجتماعية والخبرات الحياتية هي الأهم، كأن يمر الشخص بموقف عصيب ومُحرِج في مناسبة اجتماعية، فيصبح أكثر قلقًا لاحقًا عند تكرار تلك المناسبات، كذلك يزداد فرص الإصابة بالرهاب الاجتماعي لمن ينشأ في أسرة وبيئة مشحونة بالقلق والانفعال. كذلك تتضاعف احتمالات الإصابة بالرهاب الاجتماعي للأطفال الذين يحيطهم والدوهم بحماية زائدة عن الحد، وبتحكم شديد، يحول دون اكتسابهم خبرات ومهارات حياتية تزيد ثقتهم الاجتماعية بأنفسهم.

كيف يمكن قهر الرُّهاب الاجتماعي؟

على نفس القاعدة السارية في مواجهة الاضطراب النفسي، لدينا علاجات دوائية، وعلاج نفسي غير دوائي. وبتكامل جناحا العلاج معًا، يمكن أن يصبح الرهاب الاجتماعي جزءًا من الماضي، أو على الأقل يصبحُ تحت السيطرة بحيث لا يؤثر بشكلٍ ملموس على فاعلية الإنسان في جميع مناحي حياته. وسنلخص خطوات مواجهة الرُّهاب الاجتماعي في النقاط الآتية:

1. الاعتراف بالمشكلة واللجوء للمشورة الطبية النفسية

لا تتردد في طلب مشورة طبيبٍ نفسي مختص، فهي الخطوة الحتمية الأولى للتغلب على تلك المشكلة، والبدء في مسار التعافي منها، واستعادة الثقة والفاعلية في المناسبات الاجتماعية. يقيم الطبيب النفسي حالة المريض ومدى شدتها، وبناءً على ذلك يرسم خطة العلاج المناسبة، ويحيل المريض إلى المُعالج النفسي الذي سينفذ الجزء غير الدوائي من العلاج.

2. العلاج النفسي غير الدوائي

بعد نقاش المعالج النفسي مع المريض بشكل متعمق، يتعرف على نقاط القوة والضعف في شخصيته، ويحلل الأفكار الإيجابية والسلبية، ومن ثم يختار تقنيات العلاج النفسي الأنسب لكل حالة. من أشهر تلك التقنيات، العلاج المعرفي السلوكي CBT، والذي يلعب دورًا محوريًّا في العديد من الأمراض النفسية لا سيَّما اضطرابات القلق والاكتئاب، وهدفه الرئيس هو الاستبدال التدريجي للأفكار والمعتقدات السلبية لدى المريض، والتي هي مكمن المشكلة، ومصدر ما يعاني منه من قلقٍ ورهاب اجتماعي، بأفكار أكثر إيجابية، تكسر حدة الرهاب، وتعزز الثقة في النفس، وتزيد قناعة المريض بشكل حقيقي بأن الآخرين لا يراقبون كل حركاته وسكناته، وأن لكل مشاغله وحياته؛ إذ من أهم أسباب الرهاب الخوف من نظرات وآراء الآخرين.

وهناك تقنية العلاج بالتعرُّض Exposure Therapy، حيث يُعرَّضُ المريض تدريجيًّا – تحت إشراف المُعالج النفسي – لجرعات متصاعدة في الوقت والشدة من المواقف الاجتماعية التي كان يميل إلى تجنبها، حتى يعتادَ على مواجهتها. ويمكن للمعالج النفسي أيضًا تكوين مجموعات دعم وتواصل من المرضى الذين يواجهون نفس المشكلة، فهذا يُحسِّن من ثقتهم بأنفسهم عندما يجدون أنهم لا يعانون وحدَهم من تلك المشكلة، كما أن مهاراتهم الاجتماعية تتحسن بشكل كبير بالتفاعل فيما بينهم تحت إشراف المعالج المحترف في مثل هذا النوع من العلاج. وهناك تقنيات أخرى غير ما ذكرنا يستخدمها المُعالج وفق الحاجة.

3. تغيير نمط الحياة

نحتاج لنمط حياة أكثر صحية لمواجهة مختلف أنواع الاضطرابات النفسية، وفي القلب منها اضطرابات القلق والرهاب الاجتماعي. ويمكن لبعض النصائح البسيطة المباشرة أن تقوم بدور إيجابي كبير مثل:

  • ممارسة الرياضة المعتدلة غير التنافسية بشكل مستمر، مثل المشي أو الجري الخفيف نصف ساعة يوميًّا، خمسة أيام في الأسبوع، أو لعب كرة القدم مع الأصدقاء … إلخ.
  • النوم جيدًا لوقتٍ كافٍ من الليل، ويمكن اللجوء للطبيب لوصفٍ مهدئ أو دواء يساعد على النوم في حالة تعذُّر ذلك بشكل طبيعي.
  • الغذاء الصحي المتوازن الذي يعتمد على الأطعمة الطبيعية كالفواكه والخضروات والأسماك والبقوليات والألبان قليلة الدسم.
  • تقليل الكافيين (القهوة – المشروبات الغازية …) إلى أقل قدر ممكن.
  • الاهتمام بتخصيص وقتٍ كافٍ للتواصل الاجتماعي مع الأصدقاء المقربين، ومشاركتهم الهموم والهواجس أولاً بأول، لتقليل حدة القلق الداخلي، وتبادل الأفكار الإيجابية معهم ما أمكن.
  • تمارين التنفس الهادئ العميق في أوقات التوتر وتفاقم أعراض الرهاب الاجتماعي.

4. العلاج الدوائي

لدينا عدد من مجموعات الأدوية التي يمكن أن تساعد في السيطرة على أعراض الرُّهاب الاجتماعي، ويمكن للطبيب النفسي أن يصفها بالتوازي مع العلاجات غير الدوائية، أو إذا لم تحقق تلك الأخيرة النتائج المنشودة.

من أشهر الخيارات الدوائية عقار البروبرانولول (اسمه التجاري الشهير إندرال)، وهو ليس دواءً نفسيًّا، إنما بالأساس دواء للقلب، يخفض ضربات القلب وضغط الدم، وهو يساعد في السيطرة على الأعراض الجسمانية للانفعال النفسي لا سيَّما تسارع ضربات القلب وارتفاع ضغط الدم. ويمكن للطبيب أن يبدأ بجرعة بسيطة وزيادتها تدريجيًّا وفق الاستجابة، ويمكن أن يقتصر تعاطي هذا العقار عند الضرورة فقط قبل خوض الحدث الذي يسبب أعراض الرهاب (امتحان مهم – اجتماع – لقاء جماهيري …) وليس بشكل مستمر.

وفي الحالات الأشد، التي يعاني فيها المريض من أعراض قلق يصعب السيطرة عليها، يمكن للطبيب النفسي اللجوء إلى مضادات الاكتئاب المعروفة، مثل: مجموعة مثبطات إعادة امتصاص السيروتونين SSRIs، ومثبطات إعادة امتصاص السيروتونين والنور-أدرينالين SNRIs، والتي تحتاج إلى أسابيع من الانتظام عليها، بجرعات تصاعدية يحددها الطبيب، قبل أن تؤتي ثمارها.