عندما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها عام 1945، بدأ العالم يستشعر انقسام القوى العالمية المهيمنة إلى قطبين تمثَّلا في الولايات المتحدة الأمريكية والتي تحولت إلى مظلة تمثل التوجه الغربي الرأسمالي المنفتح على الحريات؛ وعلى الجانب الآخر من العالم كان الاتحاد السوفيتي بعقيدة فكرية يسارية شيوعية تحمل أمل «المساواة والتقدمية» للدول المستضعفة التي عانت آثار الاستعمار الأبيض سابقاً، وفي ظل هذا الاستقطاب العالمي لم يكن هناك بديل عن منافسة بطيئة، شرسة، غير علنية شهدت حروباً باردة على أصعدة عسكرية واستخباراتية واقتصادية، والأهم من ذلك: صعيد التكنولوجيا.

كان التفوق التكنولوجي الألماني النازي –خاصة على الصعيد العسكري والصناعي- في الحرب العالمية الثانية درساً لا يُنسى لقوى العالم، فأدركت كُل من أمريكا والاتحاد السوفيتي أن السباق في مضمار التفوق التكنولوجي هو ما سيكون الضامن الأقوى للتفوق العالمي والهيمنة المنشودة؛ فبدأت أولى المنافسات بين القوتين العظميين آنذاك فيما يعرف باسم سباق ريادة الفضاء، والذي افتتحه الاتحاد السوفيتي بالخطوة المدوية بإطلاق أول الأقمار الصناعية «سبوتنيك» أواخر عام 1957 خارج المجال الجوي الأرضي؛ وكانت خطوة أشعلت روحاً تنافسية غير مسبوقة بداخل الأمريكان للقفز إلى الخطوة التالية؛ إلى أن جاءت الخطوة الأمريكية التي أكدت التفوق الأمريكي بعد 12 عاماً وتحديداً عام 1969 عندما وضع الأمريكان أول بَشري على سطح القمر.

ميلاد التواصل الاجتماعي

وكما ذكرنا في مقالنا الأول عن الهيمنة الأمريكية في مجال التقنيات، كان أحد أبرز قفزات التواصل إلى اليوم هو ظهور الإنترنت، والذي بدأت نواته الأولى بمثابة شبكة مغلقة للتواصل العسكري عُرفت باسم ARPANET بين أفرع الجيش الأمريكي، ومن ثم أتيحت الشبكة العنكبوتية للمستخدم العادي في التاريخ الشهير 30 أبريل عام 1993، ثم بدأت الشبكة العنكبوتية في الانتشار التدريجي حتى ظهر أول موقع شهير للتواصل الاجتماعي –بالبناء المتعارف عليه من ملفات شخصية ومشاركات من المستخدمين– وهو موقع Six Degrees الذي دُشِّن عام 1997 ولكنه لم يكن يحظى بأي شعبية عالمية كبيرة خاصة مع محدودية وصول الإنترنت للعديد من الدول آنذاك خارج أمريكا وأوروبا.

لكن في مطلع الألفية الثالثة بدأت مواقع مثل Hi5 وMyspace في حصد الاهتمام العالمي كموقع للتواصل الاجتماعي ومشاركة الاهتمامات الثقافية والفنية وغيرها، ثم في أوائل عام 2004 بدأ العالم يتناقل أخباراً عن موقع جديد له طابع خاص جداً أسسه شاب مهتم بالتكنولوجيا يستخدمه بشكل شبه حصري الشباب الأثرياء من خريجي جامعة هارفارد ذات الشهرة الفائقة؛ لقد كان هذا ميلاد موقع فيسبوك على يد مارك زوكربيرج، ثم أتيح الموقع لجميع المستخدمين عام 2005 إيذاناً بنجاح أسطوري غير مشهود لمواقع التواصل الاجتماعي؛ وبعد هذا التاريخ بفترات قليلة ظهر يوتيوب عام 2005 وتويتر عام 2006. ثم لم يعد العالم كما كان.

من الكساد الكبير إلى الربيع العربي

في ديسمبر عام 2007 استيقظ الأمريكيون وباقي مواطني العالم على أخبار انهيارات الأسواق المالية العالمية وبورصة وول ستريت الشهيرة في ولاية نيويورك، وكانت هذه أول قطعة دومينو في سلسلة انهيارات اقتصادية عُرفت آنذاك باسم «كساد 2008 الكبير»، هذا الكساد أشعل غضباً عارماً بين الأشخاص العاديين الذين تأثرت حياتهم وأقواتهم بهذه الانهيارات المالية، ولكن على جانب آخر كان نشطاء اليسار الديمقراطي الأمريكي المناهضين للرأسمالية يخرجون في تظاهرات عارمة احتلت الحياة السياسية اليومية لكل دول العالم تقريباً باعتبار أمريكا قبلة السياسة اليومية في كل مكان.

وجد الكثير من النشطاء السياسيين والحقوقيين آنذاك ملاذاً لمناقشة القضية والتعبير عن آرائهم وغضبهم بشكل ما من خلال مجموعات فيسبوك أو من خلال المنشورات الطويلة –وتلك كانت أبرز مميزات فيسبوك – وسرعان ما أقبل العديد من النشطاء السياسيين في دول العالم الثاني والثالث على الموقع في الأعوام 2009 و2010؛ إذ كان بديلاً مهماً وحيوياً للمدونات السياسية التقليدية.

وفي أواخر 2010 اهتزت المنطقة العربية والعالم أجمع مع حادث إشعال أحد المواطنين التونسيين النار في نفسه احتجاجاً على الأوضاع المعيشية والسياسية في تونس، تلك الشرارة المستصغرة كانت السبب وراء اشتعال الأوضاع في المنطقة العربية، إيذاناً بميلاد ما عُرف لاحقاً باسم ثورات الربيع العربي التي لفتت الأنظار إلى مدى التأثير المفصلي والضخم لمنصات التواصل الاجتماعي على الحياة السياسية في العالم خاصة مع بدء انتشار الهواتف الذكية في أيدي الكثيرين، فقد كان العالم كله تحت أطراف أصابع الجميع وعلى مدى لمسات شاشات طفيفة وضغطات أزرار بسيطة.

وفي أعقاب اشتعال الاحتجاجات –التي دُعي إليها على مواقع التواصل الاجتماعي بالأساس- في عدة دول عربية عانت من أوضاع مشابهة كان أبرزها مصر وسوريا وليبيا وتونس، اكتشف العديد من مستخدمي الإنترنت في هذه الدول أهمية منصة أخرى كان لها دور بارز في الزخم السياسي الدائر في المنطقة؛ وهو موقع تويتر، بالتزامن مع استخدام فيسبوك. تويتر كان الموقع الذي ساهم بشكل بارز في نقل المحتوى الإخباري والتحديثات اللحظية بشكل كبير وسريع أثناء الحشد والتظاهرات، وهو ما كان السبب الرئيسي في قطع الإنترنت في مصر ودول أخرى أثناء ثورات الربيع العربي لمنع المتظاهرين من الولوج إلى مواقع التواصل الاجتماعي، وهنا لم يكن لدى العالم سوى الاعتراف بمدى ضخامة وسائل التواصل الاجتماعي وتأثيرها؛ وبينما هاجمتها الأنظمة القمعية احتفى بها النشطاء السياسيون والمتظاهرون والحقوقيون في كل أنحاء العالم، واعتبارها أداة محورية في التعبير عن المواقف السياسية والحقوقية بشكل موازٍ للتظاهرات الفعلية على أرض الواقع.

تويتر وفيسبوك: قلب العمل السياسي

لم تكن ثورات الربيع العربي والاحتجاجات ضد الرأسمالية وتسببها في انهيار الأسواق المالية إلا البداية لدخول السياسة بقوة في العوالم الرقمية على منصات التواصل الاجتماعي؛ ففي العام 2012 شهد فيسبوك وتويتر تواجداً كبيراً لحملات الدعايات للانتخابات الرئاسية الأمريكية بنهاية فترة حكم الرئيس الأمريكي الديمقراطي باراك أوباما، وصعود نجم المرشح الرئاسي الأمريكي على الجانب الجمهوري ميت رومني، وتحولت الساحات الرقمية للتواصل الاجتماعي إلى ساحات تنافس ومحاولات لحصد تأييدات شعبية لكلا الطرفين، فبحسب دراسة تابعة للمعهد الرقمي التابع لكلية كونيتيكت الأمريكية تناولت تحليلات الحملات الدعائية الرئاسية؛ فإن حملة الدعاية للرئيس الأمريكي لاحقاً والمرشح الديمقراطي أوباما أنفقت قرابة 93 ألف دولار على الإعلانات المدفوعة على مواقع التواصل الاجتماعي، بينما أنفقت حملة المرشح الجمهوري رومني آنذاك حوالي 82 ألف دولار على الإعلانات الترويجية المدفوعة.

كما أظهرت الدراسة إقبال ما يقرب من 55% من الناخبين المسجلين رسمياً للتصويت على مواقع التواصل الاجتماعي، وموقع فيسبوك بشكل خاص، كما ساهمت مواقع التواصل الاجتماعي في انتخابات 2012 الرئاسية في حسم استطلاعات النتائج مبكراً بشكل كبير بالمقارنة بوسائل الإعلام التقليدية مثل الصحف ومحطات التلفاز وغيرها.

وإذا انتقلنا إلى محطة أخرى للنشاط السياسي الدولي على مواقع التواصل الاجتماعي والتي سبقت الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2012 كانت حملة «احتلال وول ستريت» Occupy wall street التي أعقبت انهيارات أسواق المال، ونادت باحتلال شارع وول ستريت، الأبرز رمزية في عالم تداول الأسهم والأسواق المالية كنوع من المناداة بالعدالة الاقتصادية وإيقاف الممارسات الاحتكارية الرأسمالية للكيانات والشركات الكبرى؛ كانت قد نشطت وانتشرت بشكل كبير بفضل استخدام موقع فيسبوك.

بحسب دراسة تفصيلية نشرت أواخر عام 2011 تابعة لجامعة نورث كارولينا الأمريكية. انضم قرابة 170 ألف مستخدم نشط لهذه الحملة، وعدل 1.4 مليون إعجاب حصدتهم منشورات تأييد للتظاهر واحتلال وول ستريت، بمعدل 73,812 منشوراً تناول دعوات التظاهر الشهيرة آنذاك، وهو ما عكس الأهمية الكبيرة لمنصات التواصل الاجتماعي ودورها في التأثير على عالم العمل الحقوقي والسياسي؛ ويمكن اعتبار أن هذه كانت البداية الأبرز لاستغلال التواصل الاجتماعي من قبل الساسة وصناع القرار.

التواصل الاجتماعي: استقطاب واحتقان

بتوالي السنوات وازدياد عدد مستخدمي التواصل الاجتماعي، بدأت وتيرة الأنشطة السياسية عليها ترتفع، وانتقل العديد من القضايا الكبرى سياسياً إلى هذه المنصات تباعاً، وأصبح لكل الأطراف السياسية تقريباً تواجد كبير على منصات التواصل الاجتماعي؛ والتي بدأت كأداة «اجتماعية» بالأساس ومساحات تشاركية للتقارب والتواصل؛ فتحولت هذه الأرضيات الرقمية إلى أروقة حشد واستقطاب كبير؛ إذ تابع العالم أجمع قضايا بارزة تحتل الاهتمامات على التواصل الاجتماعي كان أبرزها على سبيل المثال أزمة الحرب الأهلية في سوريا وأزمة اللاجئين السوريين، والتظاهرات العارمة الغاضبة للأفارقة الأمريكيين والتي أفرزت شعار/وسم Black Lives Matters عام 2013 في أعقاب وفاة الشاب الأسود جورج زيمرمان على يد نيران الشرطة الأمريكية، والتي تجددت عام 2020.

بجوار حملات النشاط النسوي الغاضبة تجاه قضية الاستغلال الجنسي للنساء في هوليوود والعالم والتي عرفت باسم حملة/وسم Me Too والتي فجرت حشداً رقمياً هائلاً بداية من عام 2017، وأدت إلى ظهور مئات قضايا الإساءة الجنسية والتحرشات الجنسية المسكوت عنها في أروقة الشركات والكيانات الكبرى، وليس في شركات إنتاج هوليوود فقط.

واستمرت القضايا السياسية Political causes في احتلال منصات التواصل الاجتماعي ما بين مؤيدين ومعارضين لقضايا استقطابية كبرى مثل الاختلافات العرقية والخلافات الجذرية بين الديمقراطيين والجمهوريين أثناء فترة حكم الرئيس الجمهوري الأكثر جدلاً دونالد ترامب؛ وأخرى فئوية مثل جماعات الدفاع عن الأقليات الجنسانية، وحملات الدفاع عن الصوابية السياسية، ونشطاء الحركات النسوية والحركات المضادة للتمييز العنصري بكل أنواعه وغيرها.

وبتأمل الأوضاع الحالية لمنصات التواصل الاجتماعي، يمكننا أن نرى بوضوح التحول السلبي الحاد في استخدامات هذه المواقع، وبدأ العديد من الدراسات الجادة التي تحاول رصد الآثار السلبية لهذه الأداة التكنولوجية على الصحة العامة والذهنية؛ وآثارها على ارتفاع الاحتقان والاستقطاب الأيديولوجي والسياسي وظهور ما عرف لاحقاً في قاموس السياسات الحديثة باسم «ثقافة الإلغاء» Cancel Culture، وهي الحملات الغاضبة من قبل نشطاء وأفراد تطالب بتجريد الشخصيات العامة والمؤثرين المشاهير من كل مميزاتهم وإلغاء وجودهم حتى على هذه المنصات الرقمية.

سياسات صارمة: اتجاه نحو القمع؟

كما شهد العالم التداخل السياسي الحاد مع العمل الاجتماعي أثناء أزمات عالمية مثل أزمة جائحة كورونا (كوفيد 19) التي تحولت من أزمة صحية عالمية إلى خلاف سياسي بين أتباع الفكر اليميني العالمي وأتباع اليسار الديمقراطي والتقدميين في العالم أجمع، والذي أفرز قرارات جديدة صارمة من قبل منصات التواصل الاجتماعي حيال تناول النقاش حول الجائحة وأسبابها، ورأى العالم لأول مرة تحولات جذرية في سياسات حجب ومنع بعض الشخصيات الكبرى التي تعالت ضدها الأصوات معترضة على سياساتها أو حرية تعبيرها، كان أبرزها حجب الرئيس الأمريكي السابق ترامب عقب انتهاء فترة رئاسته، بجوار السياسات الحادة التي اتخذتها منصات مثل تويتر وفيسبوك في حجب وإلغاء أي شخص «يسيء» إلى جماعات بعينها ولو بمنشور أو تعبير «مهين»، وهي السياسات التي اعتبرها اليمنيون قمعاً لحرية التعبير، وتحولاً من اليسار العالمي إلى اتجاهات قمعية في سبيل الرضوخ لرغبات أي أقلية تشعر بالإساءة لأي سبب.

وفي الوقت نفسه تجادل الجماعات الحقوقية ونشطاء الدفاع عن الحريات والأقليات بأن وجود «الرجعية» و«الآراء المسيئة» على هذه المنصات يتسبب في تنمية «الكراهية» وارتفاع نسب «التمييز» بأنواعه، وأن سياسات هذه المنصات حالياً هي الأفضل في مكافحة هذه «الأفكار المتأخرة» والمسيئة.

وبينما يختلف الفريقان، تطبق اليوم العديد من منصات التواصل الاجتماعي معايير أخرى يراها الكثيرون من أبناء المنطقة العربية غير عادلة، مثل تقليل انتشار –وأحياناً حجب أو حذف منشورات وصفحات كبيرة- المنشورات التي تتناول أكبر القضايا في المنطقة العربية، وهي قضية الاحتلال الإسرائيلي وتعامله مع الفلسطينيين، بجوار الانحياز التام للقضايا والصراعات التي تتبنى وجهة النظر الغربية، مثلما رأى العالم تعامل فيسبوك مع قضية الحرب الروسية الأوكرانية، وإعطاء انتشار أوسع لوجهة النظر الأوكرانية التي يؤيدها الغرب في مقابل تقليل ظهور وانتشار أية وجهة نظر روسية تحاول تبرير الغزو بالدفاع عن الأقاليم الانفصالية الراغبة في الانضمام للاتحاد الروسي.

التحول الكبير من المساحة الاجتماعية والتشاركية إلى المساحات السياسية بكل تعقيداتها واستقطابها في منصات التواصل يعطينا اليوم لمحة إلى ما قد تصل إليه الأمور من تعقيدات إذا ما استمر العالم في اعتبار هذه المنصات هي المسار الرئيسي والعالم الأساسي لحياة الإنسان، فقد نرى تطورات أكثر خطورة مما هي عليه الآن، فماذا لو انتقلت الاستقطابات والمنازعات الأيدلوجية من مجرد نقرات مشحونة متحيزة لوجهات نظر بعينها على لوحات المفاتيح إلى قرارات بالمواجهات والصدام على أرض الواقع؟ ستسوء الأمور بالتأكيد.