يقدم أستاذ علم الاجتماع الأمريكي هانك جونستون في كتابه «الدولة والحركات الاجتماعية»، الذي صدرت نسخته المترجمة إلى العربية العام الماضي 2018 من المركز القومي للترجمة بالقاهرة، منظورًا جديدًا في علم الاجتماع السياسي عن علاقة الدولة بالحركات الاجتماعية الاحتجاجية في الدول الديمقراطية والدول القمعية على حد سواء. يشرح جونستون ديناميات العلاقة بين الحركات السياسية والدولة والمجتمع، موضحًا بشكل إحصائي العلاقات البيانية الخطية والمنحنية بين الاحتجاج وقمع الدولة والتطور المتعاقب للاحتجاجات في النظم التسلطية.

يشرح جونستون أيضًا ديناميات الاحتجاج والمنافذ المبكرة لظهوره، وانقسامات النخب السياسية أثناء الانتقال إلى الديمقراطية، والدول الأعلى احتمالًا أن تظهر فيها حركات ثورية، والدول الأعلى احتمالًا أن تطيح بها الثورات.

في هذا السياق يقدم لنا كتاب جونستون أسسًا نظرية ومنهجية لفهم نماذج الحراك الاجتماعي في مختلف النظم السياسية، من خلال دراسة مقارنة للثورات ونظريات الثورة، لعلها تساعدنا على فهم تطور المشهد السياسي في عالمنا العربي الذي يعيش موجة احتجاجية جديدة من موجات الربيع، بدأت في السودان والجزائر وتبدو في طريقها أيضًا لدول أخرى.

مجتمع الحركة الاحتجاجية

على عكس وجهة النظر السائدة في الماضي لدى الباحثين الاجتماعيين، الذين كانوا ينظرون إلى البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية كظواهر ثابتة ودائمة نسبيًا، ومن ثم كانوا ينظرون إلى الحركات الاحتجاجية كسلوك غير عادي يحدث في ظروف غير عادية، فإن العكس هو القائم الآن من وجهة نظر جونستون، فالحركات الاجتماعية الاحتجاجية تظهر في العالم اليوم على نحو متواتر، كأنها جزء من الممارسة السياسية الطبيعية.

في هذا الإطار صارت الحركات الاحتجاجية تلعب دورًا أساسيًا في الديمقراطيات الحديثة، وأصبحت أداة أساسية من أدوات التأثير السياسي، على نحو جعل الأحزاب السياسية تلجأ لتنظيم أشكال مختلفة من الاحتجاج للفت انتباه وسائل الإعلام والجماهير، ومن جانبنا نقول إنه حتى أجنحة السلطة في الدول القمعية قد تلجأ في صراعاتها لمثل هذا الأسلوب.

ظهر مصطلح مجتمع الحركة الاجتماعية «Social movement society» عام 1998 للتعبير عن هذا القبول العام للحركات الاحتجاجية كشكل من أشكال المشاركة والممارسة السياسية والاجتماعية المنتظمة، الذي أدى بمرور الوقت إلى مأسسة الاحتجاج وتحويله إلى شكل أساسي من أشكال الفعل السياسي.

يفسر جونستون الخلفيات النظرية التاريخية لهذا المنعطف في الممارسة السياسية، بتوسع دور الدولة في فضاءات كانت غائبة عنها من قبل، وتفسير جونستون هنا تفسير اجتماعي تاريخي يقارن بين الدولتين التقليدية والحديثة، ويربط مجتمع الحركة الاحتجاجية بواقعنا الاجتماعي الحديث الذي تنفذ فيه أجهزة الدولة بعمق في حياة الناس اليومية في مجالات كالتعليم والصحة والنقل والتجارة والعمل، على العكس من المجتمع الزراعي التقليدي في الماضي، الذي كان يعرف درجة واضحة من التدرج الاجتماعي، ولا تتدخل فيه الدولة بشكل عميق في تنظيم شؤون الأفراد اليومية.

أحد العوامل التي ساهمت بشكل ملموس في زيادة المقدرة التنظيمية للحركات الاحتجاجية في وقتنا الحاضر، هو انتشار الهواتف المحمولة والإنترنت والرسائل النصية، ما زاد القدرة على التعبئة والحشد والتواصل والتغطية الخبرية.

يؤثر السياق والمناخ السياسي تأثيرًا ملموسًا أيضًا على ممارسة العمل الاحتجاجي، كما يؤثر المزاج الشعبي بشكل كبير في مستوى الدعم الجماهيري ودرجة انتباه رجال السياسة إلى مطالب الحركة الاحتجاجية.

كما تلعب الأبعاد الديموجرافية والمحلية دورًا كبيرًا كذلك في هذا الإطار، فعلى سبيل المثال ارتبطت الاحتجاجات العنيفة في ستينيات القرن الماضي في الولايات المتحدة بأحياء السود، في انعكاس للتوتر البنائي في المجتمع الأمريكي الذي كان يعاني – وما يزال – من عنصرية اجتماعية واقتصادية، وتتكرر الأمثلة والنماذج في هذا السياق بشكل كبير في مختلف أنحاء العالم.

وتلعب هنا أيضًا الأنساق الحكومية اللا مركزية دورًا مؤثرًا، حيث توفر الأنساق الفيدرالية في الولايات المتحدة وكندا وألمانيا على سبيل المثال قدرًا من الانفتاح السياسي يساعد عادة الحراك الجماهيري، يفوق ما يوفره النظام الحكومي المركزي في دول مثل فرنسا، هولندا، والسويد، وتؤيد هذه المسألة البحوث والدراسات العملية التي أجريت في هذا الشأن.

ديناميات الحراك الثوري

في إطار فهم وتمييز العمليات والميكانزمات الاجتماعية التي تؤدي إلى الحراك الثوري، يبرز سؤالان رئيسيان، وهما: في ظل أي ظروف تندلع الاحتجاجات؟ وما هي الوسائل التي تستخدمها المعارضة التي تتصدى للقمع؟

لا تقتصر قيمة الإجابة على هذين الأمرين في فهم سيرورة الثورات وحسب، لكن مختلف أشكال المعارضة السياسية بدءًا من النطاق الصغير كالحشد والتظاهر في مواجهة قضية تتصل بالحكم المحلي وصولًا إلى الحالات الثورية.

توجد مسألتان مهمتان أيضًا في فهم كيف تتطور ديناميات المعارضة الثورية، وهما: معرفة متى تتحول المواقف الثورية إلى انتصارات ثورية، وتعيين النتائج السياسية التي تعقب الانتصار، التي تتبدى حينها في التحولات الاجتماعية التي تجري على نطاق واسع.

تتحول الأوضاع الثورية في هذا السياق إلى ثورات ناجزة، حين تتخلى قطاعات من السكان، تشكل بدرجات متفاوتة جزءًا من التحالف الحاكم، الأمر الذي حدث في مختلف الثورات الاجتماعية الحقيقة، حيث تشترك كلها في إنجاز تلك المهمة بصورة كاملة، وتعد هذه العملية مفتاح تفسير التحولات التي تحدث على أرض الواقع، هذا فضلًا عن ميكانيزم اجتماعي آخر لا يقل أهمية في هذا السياق، ألا وهو تخلي النخب أو قطاع مهم من النخب عن الدولة بسبب التعدي على مصالحهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

الدول التسلطية والاحتجاج

يصنف دارسو الاجتماع السياسي الدول القمعية بناء على أبعاد مختلفة، من أهمها: بنية الدولة، حجم جهاز القمع، والانفتاح أو نقص الانفتاح، وتتسم الدول الشمولية في هذا السياق بما عرضه الروائي البريطاني جورج أورويل حول اختراق الدولة لمجالات الحياة الخاصة، من خلال المراقبة المستمرة والضبط الاجتماعي عبر جهاز بوليسي متطور بدرجة عالية وواسع الانتشار، ومن خلال الإعلام التعبوي والدعاية السياسية المتواصلة للسلطة.

تتطلب كل هذه الأمور كما يقول جونستون أن تكون الدولة قادرة على التعبئة الشاملة، أي أن تكون دولة ذات كفاءة عالية تستطيع أن تمارس السيطرة الشاملة على حياة المجتمع، وتسمى تلك الدول عادة بالـ «الدول الستالينية»، إلا أنه من النادر نسبيًا وجود دولة شمولية ذات قدرات عالية، ومن الأمثلة البارزة على تلك الدول في وقتنا الحاضر كوريا الشمالية، بيلاروسيا، طاجيكستان.

الدول القمعية الأكثر شيوعًا هي الدول ذات القدرات الأدنى، والتي يطلق عليها «نظم الحكم السلطانية – Sultanic regimes» وفق تعبير عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، وهي دول الديكتاتوريات الشخصية التي يتركز فيها الاستيلاء على السلطة والنفوذ والفساد والسلب داخل دائرة صغيرة من الأفراد يعتمدون على ما يغدق به القائد الرفيع الشأن من عطايا لا تتوقف، كما كان عليه الحال في نيكارجوا تحت حكم سوموزا، ورومانيا تحت حكم تشاوتشيسكو، وأوغندا تحت حكم عيدي أمين.

معظم الناس في الدول القمعية يفضلون بوضوح أن يباشروا حياتهم من غير لفت الانتباه إلى أنفسهم عن طريق التحدث علنًا في مواجهة الأكاذيب العامة والأباطيل الوقحة التي ترتكز عليها نظم الحكم القمعية في كثير من الأحيان. وبسبب مؤامرة الصمت الجماعية تلك، لا يعرف أحد المدى الحقيقي لاتساع نطاق السخط والاتساع، ثم عندما يكسر حادث كبير هذا الصمت، يتأكد الجميع أن نظام الحكم القديم لم يكن في الحقيقة إلا مجرد بيت من ورق.

جدير بالذكر أن تقدير تكاليف وفوائد المشاركة في الحراك الاحتجاجي داخل الدولة القمعية يزداد تعقيدًا بسبب وجود اختيار الفرار أو الهجرة من الدولة القمعية، وهو اختيار ليس بالنادر، خاصة عندما تكون تكاليف الاحتجاج مرتفعة للغاية ويكون الاستياء واسع الانتشار، كما كان الحال في ألمانيا الشرقية أثناء ربيع وصيف عام 1989 حيما فر ما يقرب من 40,000 فرد إلى ألمانيا الغربية.

التكلفة المرتفعة لتحدي الدولة القمعية هو الذي يحدد العلاقة بين قوة القمع ومدى اتساع الحراك الجماهيري، كما يحكم تلك المعادلة أيضًا الوزن النسبي لتكاليف الاحتجاج والفوائد المترتبة عليه، ومن خلال الموازنة بين الأمرين يتخذ الناس قرار المشاركة من عدمه، وهو الأمر الذي يحصر مشاركة الناس في البداية في قلة من الناشطين الذين يغلب عليهم التزام عاطفي قوي نحو قضايا كبرى مثل الحرية وحقوق الإنسان، ويملكون دوافع قوية بشكل خاص مثل التضامن مع الرفقاء من الناشطين.

رغم أن العلاقة بين الاحتجاج والقمع علاقة عكسية، أي أنه كلما زاد القمع نقص الاحتجاج إلى الحد الأدنى، إلا أن بعض الدراسات الإمبيريقية المبكرة حول العلاقة بين الاحتجاج والقمع تذهب إلى أن مشاركة الناس تبدأ في الارتفاع عند زيادة حدة القمع عن مستوى معين، يسمى بخط التناسب، وعندما ينتقل مستوى القمع إلى ما وراء هذا الخط، يحدث رد الفعل المضاد العنيف فجأة.

من المهم هنا للغاية بالنسبة لأي نظام حكم قمعي معرفة أين يمكن أن يقع هذا الخط، لأنه يشكل مأزق الديكتاتور، حيث على الأخير أن يعرف مقدار القمع اللازم لإخماد أي معارضة ضده، دون إثارة رد فعل مضاد عنيف يقلب الطاولة عليه وعلى نظامه.