هل كان من سوء حظ سنة العراق على وجه الخصوص، وبقية السنة في العالم الإسلامي غياب مرجعية دينية تحرك مصيرهم الديني وتتجاوزه إلى السياسي، أم يقال عكس ذلك من باب حسن حظهم؟ ولكن هل يعني أن الشيعة في المقابل لهم هذه المرجعية، كما يتصور الأمر؟

يحدد كتاب فالح عبد الجبار، عالم الاجتماع العراقي، ثيولوجيا السوسيولوجي السياسية والاقتصادية لتاريخ الشيعة في العراق في الفترة (1958: 1991)، أو إن صح ترجمة عنوانهإلى نشوء الحركة الشيعية السياسية وما وراءها من محركات سياسية إقليمية، وكون التشيع هو إحدى الطبائع التدينية -يفضل استخدام مصطلح تديني لا ديني؛ وذلك وفق ما حدده ماكس فيبر من تفقس أنماط عن الدين [كنموذج مبدئي تتلوه نماذج أكثر تعقيدًا في تفسير حالة اﻷنماط تلك]- وكذا الحاوية للون الشعبي (دوركهايم) وما تحويه من نزعات قبلية وتوجهات مناطقية، كلها كانت مؤثرة في محاولات جمع الكيان الشيعي أو تفريقه، لذلك فالكتاب هو استعراض للتيارات الشيعية اللامعدودة في أصلها المعدود، منذ انهيار الحكم الملكي 1958 مرورًا بحكم العارفين وفترة الانقلابات وعبر الحكم البعثي، وحتى ما قبل احتلال العراق بعقد من الزمان.الكتاب مليء بالبيانات التفسيرية المجدولة والمقابلات الشخصية المميزة والمطارحات الاجتماعية المفسرة للتاريخ السياسي، والتي يتلوها المؤلف باستنتاجات غالبًا ما تكون بين السطور لا تقل في أهميتها عن تلك الظاهرة.يربط فالح انفجار التكون الشيعي بانسحاب المكون المجتمعي نحو المدن مع نهاية الحكم الملكي، ومن ثم باصطدامه بالخمول الناتج عن الانقلابات، ومن ثم تغذيته بأصول مجادلات الفكر الشيعي المستمدة من القرن التاسع عشر على يد الثنائي المتنافس (النائني vs النوري) وتكوين حزب الدعوة وتوالي القيادات عليه، وتطور جدليات الصد والنقض والنقد لتكوين حركات أُم أخرى، لتكون والدة للتيارات اللاحقة في زماننا، بحيث تزيد من تعقيد الظرف الشيعي العراقي شيئًا فشيئًا. ومن المؤكد أن البحث لا يهرب إلى مسار البحث التاريخي الذاكراوي البحت، بل هو مطعّم بالدور السوسيولوجي والمهم للتدين الشيعي، الشعبي، على وجه الخصوص، والمحرك من قبل رواة الميثولوجيا الشيعية ورواديد الميلودارما التراجيدية، وكيفية تحويل ذاكرة مسيرات كربلاء إلى سياسة أحزاب وتزعم حركات.اسم الكتاب مستلهم من مسميات سابقة تناولت هذا الموضوع مثل عنوان كتاب الأنتروبولوجي ودارس الشرق أوسطيات روبرت فيرنيا Robert A. Fernea في كتابه «Shaykh And Effendi»، وكذلك مسمى الاجتماعي علي الوردي «الملائية الأفندية»، بحيث يقرر أن الأفندية المشترك بين طبقات المتدينين الوسطى وغير المتصدرة للفتوى، وبين التجار وأصحاب الدراسة غير الدينية المتخصصة من الشيعة، والذين كان لهم الدور الأساسي في تكوين الهيئة العامة للتيارات الشيعية السياسية الأم منذ انتهاء الحكم الملكي.بينما يكون صاحب العمامة يرمز إلى النزاع الأصولي الإخباري المغذي/ المنادد لتلك التيارات السياسية النائشة، والتي على مدار تاريخها دخلت في مطاحنات تلتها اجتماعات تلتها توترات مختلفة، ودور حزب الدعوة القديم في رأب الصدع بين التيارات الأم (كشيخ وملّا معمّم) منظمة العمل الإسلامي والمجلس الشيعي الأعلى للثورة الإسلامية في العراق على صعيده السياسي، وكذا التحرك (كأفندي) بين الطبقات الشيعية الشعبية ونخبها على الصعيد المجتمعي، بحيث كان عامل الخوف من العلمنة بعيد الملكية أحد أهم أسباب هذا الانفجار الشيعي الانفلاقي، وكذا تطرق إلى فرق طبيعة التشيع العربي العراقي البدوية عن الطبيعة الصوفية الإيرانية.يحتوي الكتاب على خمسة أجزاء، يتناول الأوّلان النشوء في الفترة ما بعد الملكية والثالث عن الطبيعة الاجتماعية التدينية، والأخيران عن مشاحنات هذه التيارات مع البعث وملاينته لها في أحيان أخرى، وكذا النضوج والتفاعلات البينية، ولم يغفل الإشارة إلى دواعي إعدام البعث الصدرين، وكذا تلميحه إلى أن صدام قد غيّر وجه التاريخ بسماحه خروج الخميني من حوزة العراق وحتى المنفى الفرنسي. وملخص مرور تلك الحركات كان في ثلاث مراحل: الأولى مرحلة العالمية الإسلامية المثالية، والثانية كانت بعد الاصطدام مع الأنظمة الواقعية الحاكمة فتحولت إلى الخصوصية المذهبية، وأخيرًا المرحلة الراديكالية في العهد البعثي مع تهذيب المذهبية وتشذيب العالمية.في خاتمة الكتاب قدّم فالح عبد الجبار نقدًا عامًا لمجموعة من المؤلفات الاقتصادية للمنظرين القادة الأساس في تحريك هذه التيارات؛ هم محمد باقر الصدر، ومحمد تقيّ المدرسي، ومحمد حسيني الشيرازي، وتوصل إلى هذه المحاولات -الخاصة الشيعية وكذا الإسلامية عمومًا- ليس سوى دوّار في حلقة مفرغة؛ نتيجة لأن أفنديي الاقتصاد التقني ليس لديهم معرفة فقه إسلاميّة، ومعممي الاقتصاد الإسلامي في قطيعة عن الدراسات الاقتصادية التقنية.الكتاب يحوي 535 صفحة صافية مع الجداول المضافة لها، ونحو 230 مصدرًا أجنبيًا، و170 مصدرًا عربيًا ومترجمًا، و38 مقابلة شخصية متنوعة، وما يقارب 20 دورية ودراسة، ويمكن ختمه في 13 ساعة، مع التنويه إلى أن ترجمة الكتاب كانت متماسكة متقنة ورصينة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.