أثناء مؤتمره الصحفي حول عملية الانسحاب من أفغانستان، منتصف أغسطس/آب الجاري، قال الرئيس الأمريكي جو بايدن إن مهمة الولايات المتحدة تقتصر على منع حدوث هجمات إرهابية على الأراضي الأمريكية، وليس بناء أمة أو خلق ديمقراطية موحدة ومركزية، مؤكدًا ضرورة إعادة تخصيص الموارد المرصودة لأفغانستان للتهديدات الإرهابية الأخرى، وعلى رأسها حركة الشباب الصومالية (المرتبطة بتنظيم القاعدة)، وتنظيم داعش في العراق وسوريا.

مثَّل تصريح الرئيس الأمريكي تأكيدًا على انخراط الولايات المتحدة في جولة جديدة من الصراع ضد التنظيمات الجهادية العابرة للحدود الوطنية، لا سيما أنه أتى بعد أسابيع قليلة من عودة الطائرات الأمريكية لشن غارات ضد معاقل حركة الشباب الصومالية في منطقة القرن الأفريقي.

ففي أواخر شهر يوليو/تموز الماضي، استأنفت قوات القيادة الأمريكية في أفريقيا (أفريكوم) عملياتها ضد حركة الشباب الصومالية، بعد توقف قارب الستة الأشهر، منذ الانسحاب الأمريكي من البلاد مطلع يناير/كانون الثاني الماضي الذي تم قبيل أيام معدودة من وصول بايدن إلى رئاسة الولايات المتحدة.

خلال تلك الفترة نجحت حركة «الشباب» الصومالية في إعادة بناء جزء من شبكاتها القتالية المتضررة بفعل حملة مكافحة الإرهاب الأمريكية التي بلغت أوجها خلال عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، حيث منح الأخير قيادة «أفريكوم» الصلاحية لشن هجمات ضد مقاتلي الحركة الصومالية دون الرجوع لواشنطن.

وفي حين نجحت الغارات الأمريكية المكثفة في تحييد عدد كبير من مقاتلي وقيادات حركة الشباب (خسرت الحركة، في الفترة من أبريل/نيسان 2017 إلى أبريل/نيسان 2019، 800 مقاتل في 110 هجمات جوية للقوات الأمريكية، أي حوالي 20% من إجمالي عدد مقاتلي الحركة الذي يُقدر تقريبًا بـ 5 آلاف مقاتل)، تمكنت الأخيرة من شن هجمات كبرى ضد القوات الصومالية المدعومة أمريكيًّا، واستهداف المقرات الأمنية والحكومية في العاصمة مقديشو وغيرها من مناطق البلاد الحيوية، كما عادت الحركة لتُسيطر من جديد على مناطق انسحبت منها في جنوب ووسط الصومال.

تصاعد التهديد الجهادي

أثبتت التطورات الميدانية التي حصلت داخل الصومال منذ إتمام الانسحاب الأمريكي في 18 يناير/كانون الثاني 2021 أن رهان الولايات المتحدة على حلفائها المحليين (الحكومة والجيش الصومالي) يبقى رهانًا خاسرًا، إذ استغلت «الشباب» حالة الضعف والوهن التي تعيشها الحكومة وحلفاؤها، والتناحر السياسي الداخلي في البلاد، لتوسيع مناطق سيطرتها وتعزيز مواردها المالية عبر زيادة حجم الأموال والضرائب المفروضة على السكان المحليين، ليصبح إجمالي ما تجمعه الحركة نحو 15 مليون دولار شهريًّا، أي ما يضاهي حجم الإيرادات الحكومية تقريبًا.

كما شهدت القدرات العملياتية لحركة الشباب تعافيًا واضحًا خلال الأشهر الستة التي أعقبت الانسحاب الأمريكي، وارتفعت وتيرة هجمات الحركة خلال يوليو/ تموز الماضي لتصل لـ83 هجومًا إرهابيًّا، بزيادة قدرها 20% مقارنة بالهجمات في الشهر السابق (يونيو/ حزيران 2021)، وركزت تلك الهجمات على استهداف القوات الحكومية الصومالية والميليشيات الموالية لها في المقام الأول، وكذلك القوات التابعة لبعثة الاتحاد الأفريقي لحفظ السلام «أميصوم» الموجودة في البلاد منذ عام 2007 (يصل عددها حاليًّا إلى 18 ألف جندي تقريبًا من دول أوغندا، وإثيوبيا، وجيبوتي، وكينيا، وبوروندي، ونيجيريا، وسيراليون، وغانا)، ونفَّذ مقاتلو الحركة 5 هجمات داخل كينيا المجاورة التي تنخرط بشكل مباشر في الحرب ضد «الشباب».

وتنتهج حركة الشباب أسلوب حرب العصابات في مواجهة القوات الصومالية الحكومية، وتعتمد على استخدام السيارات المفخخة والعبوات الناسفة، وهجمات الكر والفر، والكمائن، بجانب عملها على فرض السيطرة على قرى ومدن داخل البلاد، وإقامة حكم تابع للحركة فيها.

بيد أن اللافت للنظر في هجمات الحركة هو تركيزها على أهداف عالية القيمة، سواء داخل العاصمة مقديشو أو غيرها من المدن الصومالية المهمة، وهو ما يكشف عن وجود نشاط قوي لجهاز «الشباب» الاستخباري والمعروف باسم «أَمنيات»؛ لأن هذه النوعية من الهجمات تتطلب إعدادًا ورصدًا خاصًّا، فضلًا عن تجهيزات استثنائية لإيصال منفذي الهجمات إلى الأهداف المرصودة.

وعلاوة على الهجمات داخل الصومال، شنت الحركة، في أوقات سابقة، هجمات دامية في بلدان أفريقية، منها أوغندا وكينيا، كما هاجمت، في يناير/ كانون الثاني 2020، قاعدة مشتركة للقوات الأمريكية والكينية تعرف بقاعدة/معسكر سيمبا (كامب سيمبا) في خليج ماندا، قرب جزيرة لامو السياحية الكينية، وخططت لشن هجمات بطائرات مدنية داخل الولايات المتحدة الأمريكية، على غرار 11 سبتمبر/ أيلول 2001، انتقامًا من مشاركتها في الحرب على الحركة داخل الصومال.

أمريكا الحائرة بين الاستراتيجيات

وفي مقابل التصميم والعزم الذي تبديه حركة الشباب الصومالية على مواصلة القتال حتى إقامة دولة بديلة/ نظام بديل داخل البلاد، تبدو الإدارات الأمريكية المتعاقبة حائرة في التعامل معها، خاصة مع تغيير أجندات الأمن القومي واستراتيجيات مكافحة الإرهاب الذي يحدث مع تعاقب الإدارات الأمريكية (الديمقراطية/ الجمهورية).

فإبان فترة الرئيس السابق دونالد ترامب اتبعت الولايات المتحدة استراتيجية التدخل المباشر في الصومال، وتولى نحو 700 جندي من القوات الأمريكية الخاصة تدريب القوات المحلية الخاصة المعروفة اختصارًا بـ«دنب»، وتقديم الدعم اللوجيستي والعملياتي للجيش الصومالي، فضلًا عن توسع القيادة الأمريكية في أفريقيا في شن الهجمات الجوية التي تمت بواسطة الطائرات المقاتلة، والطائرات بدون طيار (الدرونز).

وإلى جانب التدخل العسكري، عادت واشنطن، في 2018، لفتح سفارتها في العاصمة الصومالية، بعد نحو 3 عقود من إغلاقها غداة سقوط نظام الرئيس الأسبق سياد بري في 1991، مؤكدة بذلك دعمها السياسي والعسكري للرئيس الحالي محمد عبد الله فرماجو، صاحب الجنسية الأمريكية (تنازل عن الجنسية في أغسطس/ آب 2019).

لكن ترامب قرر في أيامه الأخيرة سحب قوات بلاده من الصومال، رغم مطالبة فرماجو ببقائهم، لتتبع الولايات المتحدة استراتيجية «التدخل غير المباشر»، التي أحالت بموجبها المهام الأمنية العسكرية والأمنية للقوات الحكومية وبعثة «أميصوم» الأفريقية، وتوقفت واشنطن عن شن الهجمات الجوية ضد معاقل حركة الشباب، وهو ما منح الأخيرة فرصة لالتقاط الأنفاس وإعادة تدعيم صفوفها، ومن ثم العودة إلى الفاعلية العملياتية من جديد.

لاحقًا، أدركت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن أنها بحاجة إلى استراتيجية جديدة في التعامل مع صعود حركة الشباب من جديد، فعمدت لاتباع استراتيجية «التدخل وفقًا للضرورة/بحسب متطلبات الوضع القائم» التي تركز بشكل أساسي على استئناف هجمات الطائرات بدون طيار، وتقديم الدعم الاستخباري واللوجيستي للقوات الحكومية على الأرض.

غير أن الاستراتيجية الأمريكية الحالية تنطوي على عدة مخاطر، خصوصًا أن نجاحها مرتبط بمدى كفاءة القوات الحكومية الصومالية التي لا تزال عاجزة عن إحراز النصر الحاسم على حركة الشباب، بجانب وجود احتمالية لأن يؤدي الانخراط الأمريكي في مواجهة الحركة من جديد إلى تحفيز مقاتليها أو خلايا عملياتها الخارجية لاستهداف المصالح الأمريكية في القرن الأفريقي أو خارجه.

وعلاوة على المخاطر السابقة، تستغل حركة الشباب، ومن خلفها تنظيم القاعدة، التدخل الأمريكي في ترويج سردية الحرب الكونية بين «الكفر والإيمان». ظهر ذلك بشكل جلي خلال الأيام الماضية، إذ حثت العديد من أفرع تنظيم القاعدة في بياناتها بمناسبة الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، الحركة الصومالية للاقتداء بحركة «طالبان» الأفغانية ومواصلة القتال حتى السيطرة على مقديشو.

أفغنة الصومال

وبالتوازي مع سيطرة حركة طالبان على العاصمة الأفغانية كابل، كثفت حركة الشباب وتيرة الهجمات التي تشنها داخل الصومال، فاقتحم مقاتلوها قاعدة عسكرية بمدينة عمارة في إقليم جلمدج (وسط البلاد)، كما سيطروا على عدة قرى على الطريق المؤدي إلى مدينة هرارديري الساحلية الاستراتيجية (معقل قراصنة البحار سابقًا).

ومن الواضح أن مقاتلي «الشباب» يطمحون إلى تطبيق النموذج الأفغاني داخل الصومال، مستفيدين من الدفعة المعنوية التي حازوها بعد سقوط كابل في قبضة طالبان، رغم أن الحركة الأولى لا تزال تعاني من مشكلات بنيوية مؤثرة، منها القلة النسبية لعدد المقاتلين التابعين لها ما يحول بينها وبين السيطرة الكاملة على غالبية المناطق الصومالية، والانقسامات الداخلية التي تضرب الحركة من آن لآخر، بجانب الصراع الجهادي الذي تخوضه مع داعش في الفترة الراهنة، والعلاقات المتداخلة مع القبائل المحلية.

وبينما يُطلق مسئولون صوماليون تصريحات متفائلة بشأن قدرة القوات الحكومية على مواجهة حركة الشباب بمفردها، مستندين إلى نتائج المواجهات الأخيرة بين الطرفين، تُروِّج الحركة، عبر منصاتها الدعائية، أن مصير مقديشو سيكون كمصير كابل، وأن الدعم الخارجي للقوات الصومالية لن يستمر إلى ما لا نهاية، خاصة في ظل الارتباك الذي يُسيطر على الإدارة الأمريكية مؤخرًا.