لا يوجد إنسان ولِد يكره إنسانًا آخر بسبب لون بشرته أو أصله أو دينه. الناس تعلمت الكراهية، وإذا كان بالإمكان تعليمهم الكراهية إذن بإمكاننا تعليمهم الحب، خاصةً أن الحب أقرب لقلب الإنسان من الكراهية.
نيلسون مانديلا

منذ انضمامها إلى المجتمع الدولي كدولة ديمقراطية في عام 1994م -بعد نضال طويل من أجل الحرية- شهدت جنوب أفريقيا تحولًا أساسيًا من دولة فصل عنصري منغلقة معزولة؛ إلى فاعل رئيسي على الساحة الإقليمية والدولية.

طالت جهود التحول والتغيير، المؤسسات العسكرية والأمنية في جمهورية جنوب إفريقيا؛ من أجل تحويلها من مؤسسات للدفاع عن حقبة الفصل العنصري العسكري إلى مؤسسات وطنية جامعة وممثلة لأطياف المجتمع؛ عبر التركيز على دمج قوات النظام العنصري وحلفائه من ناحية، وقوات الجماعات المناوئة له من ناحية أخرى في إطار قوة وطنية، وإعمال قواعد الشفافية في المؤسسة العسكرية وخضوعها لمساءلة السلطة المدنية؛ اتساقًا مع قواعد الدستور والقانون الدولي.

ولتأمل طبيعة العلاقة المدنية العسكرية في جمهورية جنوب أفريقيا، وأثر تلك العلاقة على مسار التحول الديمقراطي في البلاد ومستقبله، لابد من تتبع نشأة الجيش في جمهورية جنوب أفريقيا وتطورات عقيدته القتالية، ومكوناته البشرية، ودور المؤسسة العسكرية وموقعها في العملية السياسية في البلاد، وصولًا إلى دور الجيش والمؤسسة الأمنية في مرحلة ما بعد الفصل العنصري، ومستقبل العلاقات المدنية العسكرية في البلاد.


مراحل تطور الجيش بعد قيام الاتحاد عام 1910م

كان الأفراد ذوي الأصول الأوروبية بجنوب أفريقيا هم فقط المسموح لهم بالدفاع عن البلاد في حالة الحرب.

يؤرخ لبدايات تأسيس جيش جنوب أفريقيا بالأول من يوليو/تموز عام 1912م وهو تاريخ صدور القانون رقم 13 لسنة 1912م الخاص بقوات دفاع الاتحاد والتي تكونت في أعقاب حرب البوير الثانية (1899م – 1902م)، وقد نشبت تلك الحرب بعد اكتشاف الذهب وثروات معدنية أخرى بمنطقة الترانسفال التابعة للأفريكانز، وفيها استطاعت بريطانيا هزيمة قوات البوير وضم مستعمرتي الترانسفال والأورانج لإدارتها، مع وعد بمنح البوير حكمًا ذاتيًا. وفي نهاية المطاف تم طي صفحات المناوشات بين الأفريكانز والبريطانيين باتفاق عسكري وذلك بدمج قواتهما العسكرية والبوليسية في إطار اتحاد تم إعلانه في 31 مايو عام 1910م، وقد صيغ هذا الاتحاد في صورة قانون 1912م والذي تضمن في مادته السابعة على أن الأفراد ذوي الأصول الأوروبية هم فقط المسموح لهم بالدفاع عن البلاد في حالة الحرب، وتعد تلك الحقبة ترسيخًا واضحًا لجذور العنصرية بجنوب أفريقيا.

وفي إطار سعي الأفريكانز للاستقلال عن النفوذ البريطاني، والاتجاه إلى إنشاء هياكل «جنوب أفريقيا» مستقلة، نجح الحزب الوطني ذي الأغلبية الأفريكانزية في الوصول إلى سدة الحكم في جنوب أفريقيا في أعقاب انتخابات عام 1948م، الأمر الذي فتح الطريق أمام الأفريكانز لإعادة تشكيل قوات دفاع الاتحاد UDF تحت مسمى قوات دفاع جنوب أفريقيا SANDF لتكون أكثر التزامًا بمصالح وأمن جنوب أفريقيا بعد سنواتٍ من التهالك في حروب الإمبراطورية البريطانية. وتعد تلك الحقبة بدايةً للانفلات من النفوذ البريطاني أو بدء تضاءل السواد الأعظم للعنصرية في جنوب أفريقيا.

وبعد سنواتٍ من الحكم العنصري نجح الأفريكانز في الانتقال إلى حكم الأغلبية بعد انتخابات عام 1994م، وتم تشكيل قوة الدفاع الوطني لجنوب أفريقيا وطي صفحة قوات دفاع الاتحاد إلى الأبد، وصولًا إلى تكوين جيش الدفاع الوطني لجمهورية جنوب أفريقيا عام 1998م والمكوّن من (قوة دفاع جنوب أفريقيا SADF – قوات رمح الأمة MK – قوات تحرير شعب آزانيا APLA – قوات المعازل المستقلة TBVC – قوات الحماية للذاتية للكوازولو KZSPE)، وتعد تلك الحقبة هي الأخطر من سابقتيها، حيث تحولت عقيدة الجيش في جوهرها من حماية وتأمين مصالح البيض إلى قوات مسلحة خاضعة للغالبية المدنية المتمثلة في السود، وبالتالي تحول الجيش من مؤسسة قائمة على الامتياز العنصري إلى الأخذ بمعايير الجدارة. وهو ما سيتم تناوله في النقاط التالية.


البنية الاجتماعية لجيش جنوب أفريقيا

على الرغم من الانتقال من الحكم العنصري إلى حكم الأغلبية في عام 1994م، إلا أن تحديات العنصرية ما زالت هي التحدي الأكبر لجيش جنوب أفريقيا.

اتسمت المراحل الأولى في تكوين هيكل عسكري لجنوب أفريقيا بمحدودية تمثيل غير البيض (وبخاصة أبناء الجماعة السوداء)، إلا أن هذا الأمر لم يستمر كثيرًا حيث أعلن رئيس أركان الجيش بقوات دفاع جنوب أفريقيا عام 1974م بقبول قوات الدفاع للمتطوعين السود برواتب عادلة؛ الأمر الذي لاقى انتقادات شديدة من اليمين الأبيض وأثار جدلًا كبيرًا في المجتمع ما بين المؤيدين والمعارضين للقرار.

ولم تكن تلك الخطوة من أجل رفع مطرقة التمييز العنصري عن السود ولكنها كانت لحاجة القوات المسلحة الماسة للعمالة الرخيصة في المهام غير القتالية، والتي بلغت ذروتها في منتصف السبعينيات مع نشوب الحروب الحدودية لجمهورية جنوب أفريقيا مع بعض دول الجوار. فاتسمت حملات التعبئة والتجنيد بلون جديد من العنصرية، فقد جُعلت القوات البرية من أجل السود وحُرم عليهم التجنيد في الأسلحة السيادية كسلاح البحرية.

وعلى الرغم من الانتقال من الحكم العنصري إلى حكم الأغلبية في عام 1994م، إلا أن تحديات العنصرية ما زالت هي التحدي الأكبر لجيش جنوب أفريقيا، فتظهر الإحصائيات إلى أن نسبة البيض في مجتمع جنوب أفريقيا لم تتجاوز 13% من إجمالي السكان، في حين أن نسبة السود تبلغ نحو 75%. أما الملونون فتشير التقديرات إلى أنهم يمثلون نحو 9% من إجمالي عدد السكان، وأخيرًا تبلغ نسبة الآسيويين (الهنود) نحو 3% من السكان.

وبالمقارنة بين نسب التمثيل في المؤسسة العسكرية ونسب التمثيل الإثني في الواقع، نجد تحيزًا صريحًا للبيض على حساب الجماعات والفئات الأخرى. فحسب بيانات القوات العاملة بجيش جنوب أفريقيا في 15 فبراير/شُباط عام1996م، نجد أن نسبة البيض في الجيش تعادل 47.84%، في حين أن السود نسبتهم لم تتجاوز 43.06%، والجنسيات الآسيوية لم تتجاوز نسبتهم 1.28%، والملونون 7.83%؛ الأمر الذي اعتبره البعض أحد المصادر المحتملة للتوتر داخل المؤسسة العسكرية، ومن ثَمّ داخل المجتمع ككل.


الدور السياسي للجيش في فترة الحكم العنصري

منذ مطلع الستينيات من القرن العشرين وحتى نهاية الثمانينيات، اتبعت القوات المسلحة بجنوب أفريقيا إستراتيجية عسكرية بريطانية أطلق عليها «الإستراتيجية الشاملة»؛ بهدف قمع التمردات الداخلية (تمردات السود أساسًا والمعارضة)، وإضعاف أنصارهم الخارجيين من الدول الأفريقية المستقلة. وعلى الرغم من أقلية البيض في جنوب أفريقيا إلا أنهم كانوا ينظرون إلى أنفسهم باعتبارهم «معقل العالم الغربي»، في محيط من الدول الأفريقية الشيوعية المتحالفة مع حزب المؤتمر الوطني الأفريقي والراغبة في استئصال حكم البيض من جنوب أفريقيا؛ الأمر الذي كرس الهيمنة العسكرية في جنوب أفريقيا آنذاك، فتم قمع المعارضة والحصار العنصري للسود، إضافةً إلى اتجاه الدولة نحو سياسات التسليح والصدام مع دول الجوار الأفريقية.

تشكلت لجنة «فيرستر» من قبل المؤسسة العسكرية في جنوب أفريقيا من أجل إقصاء المدنيين عن الإشراف على المؤسسة العسكرية لعدم قدرتهم على استيعاب تعقيدات العمل العسكري.

وفي عام 1966م تشكلت لجنة عرفت باسم لجنة «فيرستر»، وكان هدفها إقصاء المدنيين عن الإشراف على المؤسسة العسكرية، وكان مبرر ذلك افتقار المدنيين للخبرة وعدم قدرتهم على استيعاب تعقيدات العمل العسكري، علاوةً على أن تعدد المناصب بمثابة إهدار للموارد النادرة. وقد أدى تطابق الرؤى والقيم بين قيادات الجيش والنخبة السياسية والمدنية آنذاك إلى الحيلولة دون الحاجة إلى تدخل الجيش أو ضغطه مباشرة لتأمين احتياجاته حتى وصل الأمر إلى تشبيه البعض للعلاقة بأن جيش الدفاع ما هو إلا حزب سياسي بزي عسكري يقود البلاد، فكانت السلطة الإدارية والسياسية ذات قيادة عسكرية ويتم التعامل معها كملف عسكري.

ومع تزايد الرفض الدولي للعنصرية في جنوب أفريقيا وتوقيع العقوبات عليها بعدم تصدير السلاح لها، تم إنشاء مؤسسة التسلح في جنوب أفريقيا The Armaments Corporation of South Africa عام 1968م، وهي وكالة تابعة لوزارة الدفاع بجنوب أفريقيا مهمتها الأولى والأخيرة توفير الأسلحة شراءً وتسليحًا، وقد ساهمت تلك المؤسسة في رفع الحصار الدولي عن وزارة الدفاع في جنوب أفريقيا، كما أنها ساهمت في عسكرة اقتصاديات دولة جنوب أفريقيا فضلًا عن عسكرة سياساتها الداخلية والخارجية.


دور الجيش في مرحلة ما بعد التفرقة العنصرية

شهدت مفاوضات المرحلة الانتقالية والمعروفة اختصارًا بــــ«كوديسا CODSA» تشكيل لجنة عسكرية مشتركة التنسيق من ممثلي القوى الرئيسية، وتم تكليف تلك اللجنة بصياغة السياسات الانتقالية المتعلقة بإنشاء وزارة جديدة للدفاع، ومعالجة قضايا الاندماج والسياسة الدفاعية في المستقبل، مع تأكيد ضرورة الالتزام بمبادئ الشفافية والمساءلة والفصل بين السلطات والشرعية. ويمكن القول إنه من الناحية الفنية الواقعية سيطرت على أعمال اللجنة وجهة نظر خبراء جيش دفاع جنوب أفريقيا الذي ينتمي معظم جنوده للجماعة البيضاء بسبب قدراتها المؤسسية والخبرة في إدارة عمليات التخطيط المعقدة، ووجهة نظر حزب المؤتمر الوطني الأفريقي بفضل النفوذ السياسي الذي يمتلكه، إضافةً إلى جهود منظمات المجتمع المدني التي لعبت دورًا كبيرًا في إضفاء طابع مثالي على مقترحات الحزب في ضوء افتقار كوادره للخبرة العملية في مجال الحكم.

وعلى الرغم من التوتر والصعوبات التي واجهتها اللجنة المشتركة للتنسيق، تمكنت من إنجاز مهمتها وبلورة إستراتيجية جديدة للمؤسسة العسكرية تتماشى مع التطورات الجارية على ساحة البلاد. ونجح الحوار بين أطراف الدولة العسكرية السابقة والدولة المدنية الحالية، حتى أن أحد ضباط قوة دفاع جنوب أفريقيا علق في ذلك الوقت بالقول إن «قوات دفاع جنوب أفريقيا حصلت على أكثر من 80% مما أرادت الخروج به من عملية اللجان المشتركة للتنسيق».

واهتم دستور عام 1994م بالتأكيد على أهمية التزام الجيش بمبادئ القانون الدولي التي تنظم استخدام القوة، والتأكيد على التوجه الدفاعي في المقام الأول للجيش، إضافةً إلى ضمان الرقابة البرلمانية على كافة أعمال المؤسسة العسكرية، وصولًا لقانون 108 عام 1996م والذي أكدت نصوصه على أن «الهدف الأساسي لقوة الدفاع هو الدفاع عن الجمهورية وسلامة أراضيها وشعبها وفقًا للدستور ومبادئ القانون الدولي التي تنظم استخدام القوة».


مستقبل العلاقات المدنية العسكرية في جمهورية جنوب أفريقيا

ساهمت جهود منظمات المجتمع المدني في إضفاء طابع مثالي على مفاوضات المرحلة الانتقالية والتي ساعدت في إنجاح التحول الديمقراطي في جنوب أفريقيا.

يمكن القول بدرجة كبيرة من الثقة، إن جمهورية جنوب أفريقيا استطاعت إدارة مرحلة التحول من الحكم العنصري إلى الحكم الديمقراطي بدرجة كبيرة من النجاح فيما يتصل بالعلاقات المدنية العسكرية عبر احتواء مخاوف الأطراف المختلفة والموازنة بين مطالبها في ضوء معطيات قوة كل طرف في أرض الواقع.

ساعد على ذلك رصيد تاريخي لقوات جيش جمهورية جنوب أفريقيا في الحقبة العنصرية، وقوات رمح الأمة التابعة لحزب المؤتمر الوطني، خضعت فيه القوة العسكرية وقيادتها للقيادة السياسية في الجانبين على تفاوت في درجة الالتزام بذلك في المراحل التاريخية المختلفة. وهو ما يسر عملية خضوع السلطة العسكرية للقيادة السياسية المدنية في أعقاب مرحلة التحول.

ونجحت قوات الدفاع الوطني في تاريخها القصير نسبيًا، بإدارة ناجحة لعملية التحول من جيش عنصري إلى قيادة وطنية، خاضعة للسلطة السياسية وملتزم إلى حد كبير بالمعايير الدولية؛ الأمر الذي بث الطمأنينة في نفوس الجماهير والثقة في جيش بلادهم.

المراجع
  1. Kennth W.Grandy, Soldiers Without Politics: The Use of blacks in the south Africa Armed Force, 1983
  2. Kenneth W. Grundy, The Militarization of South African Politics, 1986
  3. Joseph P. Smaldone, Explorations In Quantitative African History
  4. محمد عاشور، التعددية الإثنية في جنوب أفريقيا، 2004.