تجمع الآلاف من مواطني جنوب السودان أمام صناديق الاقتراع من أجل تحديد مصير إقليمهم بعد أعوام كثيرة من الصراع الدموي مع الشمال. شهدت السودان حربين أهليتين: الأولى منذ عام 1955 وحتى عام 1972 والتي انتهت بتوقيع اتفاقية أديس أبابا والتي منحت جنوب السودان ذا الأغلبية المسيحية حكمًا ذاتيًا فيما يخص الأمور الداخلية.

ولكن وبعد عشرة أعوام من توقف الحرب تجددت مرة أخرى عام 1983 عندما قرر الرئيس جعفر النميري إدخال العقوبات المستمدة من الشريعة الإسلامية وتطبيقها على الجنوب على الرغم من أن أغلب سكانها من المسيحين، فتجددت الحرب الأهلية مرة أخرى لتنتهي عام 2005 بتوقيع اتفاق سلام بين الشمال والجنوب، إلى جانب ترك الجنوب مهملًا وتركيز الثروات الاقتصادية وعائدتها في الشمال، وكان الاتفاق قد نص على إجراء استفتاء شعبي لسكان الجنوب لتقرير مصيرهم، وهو ما حدث في التاسع من يوليو/ تموز 2011 لتصوت الأغلبية على انفصال الجنوب.


الانقسامات وجنوب السودان

شهدت السودان مثل باقي الدول العربية العديد من الأحداث التي ساعدت في تغيير خريطة الوطن العربي والقارة الأفريقية، بداية من انفصالها عن مصر وصولًا إلى عدد من الانقلابات العسكرية وفترات الحكم المتقلبة، لتشهد حربًا أهلية طاحنة هي الأطول في تاريخ القارة الأفريقية، فقد امتدت الحرب طوال فترتين: الفترة الأولى منذ عام 1955 وحتى عام 1972 والثانية منذ عام 1983 وحتى عام 2005، ليأتي أبرز الأحداث التي شهدتها وهي انفصال جنوب السودان عام 2011 بعد تصويت مواطني الجنوب على الانفصال.

ما قبل الانفصال

http://gty.im/51393937

لم يكن الانقسام من نصيب شمال وجنوب السودان فقط، بل امتد الأمر ليصل الانقسام إلى الحركة الشعبية لتحرير السودان والتي أسسها العقيد «جون قرنق دي مبيور» مع المتمردين والذي أرسله الرئيس «جعفر النميري» إلى جنوب السودان لإخماد تمرد قام به ما يقرب من 500 فرد من سكان الجنوب، لتبدأ أولى الانقسامات التي تضرب السودان الموحد بين الرئيس وأحد قادته العسكرين المنتمين للجنوب ولتكون تلك بداية الحرب الأهلية السودانية.

كان قرنق لا يريد الانفصال بالجنوب عن الشمال بل أردا أن يتم الاهتمام بالجنوب وإنهاء مركزية السلطة، وفي عام 2005 تم توقيع اتفاق السلام الشامل بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان، وبمقتضي ذلك الاتفاق أصبح قرنق نائبًا للرئيس «عمر البشير»، لتنتهي فترة من الانقسام الشمالي الجنوبي لتبدأ فترة انقسام جديدة جنوبية جنوبية.

اختلاف الرؤية السياسية والانفراد بالسلطة لعبا الدور المحوري خلال فترة الانقسام الجنوبي الجنوبي الأول.

حيث بدأ الخلاف بين قرنق ونائبه في الحركة الشعبية «سالفا كير»، فقد اتهم قرنق نائبه بأنه يحاول الانقلاب عليه، بينما كان كير دائمًا ما يتهم قرنق بتفرده باتخاذ القرارت، إلا أن مؤيدي الحركة كان لهم رأي أكثر وجاهة وهو أن قرنق لا يريد أن تنفصل الجنوب عن الشمال وتظل السودان موحدة، بينما كير كان يريد الانفصال والاستقلال بالسلطة، إلا أن تلك الانقسامات لم تستمر طويلًا حيث توفي قرنق أثر اصطدام مروحيته بأحد الجبال في طريق عودته من أوغندا عام 2005، ليتولي كير زعامة الحركة وجنوب السودان ويبدأ في التحرك نحو الانفصال.

كير وورياك مشار الصراع المستمر بين الرئيس ونائبه

عقب الانفصال عام 2011 وبعد عامين فقط من نشأة جمهورية جنوب السودان، عاد شبح الحرب الأهلية مرة أخرى ولكن هذه المرة بين أبناء الجنوب الذين حلموا بالاستقلال وانتهاء الحرب كثيرًا بعد عامين من الانفصال.

إلا أن كير ونائبه «ورياك مشار» كان لهما رأي آخر، فقد اتهم كير نائبه بأنه يدبر محاولة انقلاب عليه، بينما مشار كان يرى أن كير يحاول تهميش قبيلة النوير التي ينتمي إليها ويبعدهم عن السلطة، واستمرت الحرب الأهلية بين أبناء الجنوب طوال عامين كاملين حتى تم توقيع اتفاق سلام بين الطرفين في أغسطس/ آب 2015.


كيف تشكل القبائل مصير جنوب السودان

يعتبر المجتمع الجنوب سوداني من أكثر المجتمعات التي لعبت القبلية فيه دورًا محوريًا خلال مسيرة الحركة الشعبية لتحرير السودان وخلال الحرب الأهلية الجنوبية الآخيرة، وعلى الرغم من وجود عشرات القبائل في جنوب السودان إلا أن ما يحرك المشهد هناك هما قبيلتان، وهما «قبيلة الدينكا» – أكبر قبائل جنوب السودان والتي تمثل نسبة 40% من السكان – و«قبيلة النوير» – ثاني أكبر قبائل الجنوب بنسبة 20% من السكان – واللتين شكلتا الحركة الشعبية لتحرير السودان.

فمع بداية الصراع بين قرنق وكير كاد أن يحدث صراع وتنقسم قبيلة الدينكا، حيث كان الاثنان ينتميان إليها، فكان قرنق ينويإزاحة كير من منصبه إلا أنه تراجع عن تلك الخطوة لضمان الوحدة بين الحركة في القبيلة، كما أن الموقف كان أكثر تعقيدًا خلال فترة الحرب الأهلية الجنوبية بين كلٍّ من كير ومشار الذي ينتمي لقبيلة النوير، فوجود مشار في منصب النائب الأول لكير كان إحدى ضمانات الوحدة بين قبائل الجنوب إلا أن إعفاء كير لمشار من منصبه أدى لتفكك تلك الوحدة والصراع بين قبيلة الدينكا وقبيلة النوير.


ماذا يحدث الآن في جنوب السودان

http://gty.im/454197104

على الرغم من انتهاء الحرب الأهلية الجنوبية وتوقيع اتفاق السلام بين كير ومشار، إلا أن هناك مؤشرات على بداية حرب أهلية جديدة، ففي 7 يوليو/ تموز 2016 تجددت الاشتباكات بين الفصيلين مرة أخرى، ففي إحدى نقاط التفتيش، كان جنديان من قوات كير ومشار قد اختلفا مما أدى لتبادل إطلاق النيران راح ضحيته 5 جنود، وتحول الأمر في يوم الجمعة التالية لاشتبكات مسلحة واسعة النطاق استمرت لأربعة أيام.

وتشير بعض التقارير الدولية أنه قد لقي 200 شخص مصرعهم جراء تلك الاشتباكات، وفي يوم الإثنين أصدر الرئيس كير ونائبه أمرًا للقوات التابعة لكل منهما لوقف إطلاق النار، استجابة لمطالبات الأمم المتحدة والتي أعلنت تخوفها من نشوب حرب أهلية جديدة.

إلا أن الأمر يبدو أوسع من فكرة الاختلاف التي حدثت بين الجنود في النقطة التفتيشية، حيث يبدو أن أطراف الصراع يسعون إلى انقسام الجنوب إلى عدة مناطق تفرض كل منها سيطرتها عليها من أجل الاستيلاء على حقول النفط التي سوف تتبع كلا منهما، إلى جانب حالة الانقسام العشائري التي أصابت القبائل ودخولها في صراعات فيما بينها.


هل الانفصال هو الحل

عندما تتحكم القبلية وتصبح معادلة سياسية يجب حفظ توازنها فمن المؤكد أن تتضارب المصالح.

كثيرًا ما يتم الترويج إلى النظريات الانفصالية والرغبة في الاستقلال كحل للمشكلات السياسية والاقتصادية، ولكن ماذا جنت السودان وجنوبها منذ الانفصال وحتى الآن، فقد شهدت الجمهورية الوليدة وعقب ميلادها بعامين فقط تجدد الصراع الأهلي والذي يتمحور حول السلطة وتقاسمهما بين القطبين الرئيسين بالجمهورية، إلى جانب تزايد نسب الفقر والمجاعات، حيث أعلنت الأمم المتحدة أن هناك أكثر من مليون جائع بجنوب السودان.

وربما تصيبهم المجاعة خلال الثلاثة أشهر القادمة بسبب الحرب وتأخر موسم الأمطار، إلى جانب انتشار جرائم ضد الإنسانية مثل الاغتصاب الجماعي الذي بات منتشرًا بين القبائل كوسيلة ضغط على القبائل في صراعهم.

الصراع على السلطة والموارد الاقتصادية والصراعات الدينية والعرقية هما أكثر ما يحرك المشهد في السودان وجنوب السودان، وعلى الرغم من التحذيرات الدولية ومحاولة وقف تطور المشهد إلا أنه لا أحد يسمع لتظل المصالح الشخصية والقبلية مسيطرة على المشهد ولا يدفع ثمنها سوى السودان الذي يبدو أن جنوبه سوف يلحق بسلسلة جديدة من الانقسامات والانفصالات.

المراجع
  1. عام على انفصال جنوب السودان…..أزمات اقتصادية وصراعات سياسية
  2. جمهورية جنوب السودان: كيف تحول رفقاء النضال إلى فرقاء الصراع؟
  3. حرب جنوب السودان الأهلية: متوالية التقسيم والانفصال
  4. هدوء في عاصمة جنوب السودان بعد إعلان وقف إطلاق النار
  5. ما الذي جناه جنوب السودان من الانفصال؟ حرب ومليون جائع