يُروى أن الفيلسوف اليهودي «باروخ سبينوزا» في طفولته، كتب في دفتره الشخصي: 

عندما أكبر، سأبحث عن طريقة أضع بها حدًا لكره الناس بعضهم بعضًا.

كتب ذلك بعد أن شاهد واقعة جلد ودهس «أوريل أكوستا» بالأقدام على أعتاب المعبد اليهودي. 

شكلت تلك الحادثة وجدان الطفل، وظلت شبحًا يخيم على أفكاره. 

يتفق أغلب المؤرخين أن ذلك الصبي هو «فيلسوف التنوير الأول» في تاريخ أوروبا. فقد مهدت أعماله الفلسفية – رسالة في اللاهوت والسياسة وكتاب الأخلاق – لعصر التنوير ورجاله، وهي الحقبة التي توجت في النهاية بالثورة الفرنسية وإعلان حقوق الإنسان. 

إن القرن السابع عشر -حينما عاش سبينوزا وكتب- هو ذروة الغليان الديني في التاريخ الأوروبي. لم تكن حياة سبينوزا عادية، فقد دفع ثمنًا غاليًا لأفكاره في عصر غارق في التعصب الديني المسيحي بين الكاثوليك والبروتستانت من ناحية، واضطهاد الجاليات اليهودية المشتتة في أوروبا من ناحية أخرى.

وما يزيد قصته مأساوية: هو اضطهاده من جماعته اليهودية التي هربت في الأساس من الاضطهاد المسيحي الكاثوليكي في إسبانيا والبرتغال في القرن الخامس عشر، وأقامت في أقل البلدان الأوروبية تعصبًا وقتها: أمستردام الهولندية. 

القصة الشهيرة أنه طُرد وحُرم من الكنيس اليهودي في أمستردام، وتعرض لمحاولة اغتيال على يد يهودي متعصب، والسبب: أفكاره المعروفة في نصوصه الشهيرة. 

إذا دققنا قليلاً في واقعة طرد سبينوزا، سنجدها مليئة بالمفارقات: كان سبينوزا يبلغ من العمر 23 عامًا عندما عاقبه الكنيس اليهودي، كان شابًا عاديًا غير معروف، ولم يكتب بعد أي أطروحة فلسفية. 

أما كتابه الأشهر – رسالة في اللاهوت والسياسة – الذي أثار موجة من الجدل والغضب سواء من رجال الدين المسيحي أو اليهودي قد شرع في كتابته بعد المحاكمة بعشر سنوات، في ظروف مختلفة سنأتي على ذكرها لاحقًا. 

لا ينحصر التفتيش وراء لغز محاكمة سبينوزا في البحث عن خبايا سيرته الذاتية المثيرة فقط، لكنه يكشف أيضًا عن كثير من المحطات المُهملة التي أسهمت في تطوير أفكاره التنويرية وخصوصًا موقفه من التعصب الديني.

لم ترتكز ثورية آراء سبينوزا فقط على قراءته لنصوص الفيلسوف الفرنسي ديكارت – مؤسس الفلسفة الحديثة، ورغم أنها محطة بالغة الأهمية في نضجه الفكري، فإن سبينوزا هو أول من أكسب الفكر الديكارتي طابعه الثوري في الفكر الغربي، وأخرجه من ميدان التأمل الفلسفي لعالم السياسة والدين والمجتمع.  

فقد ظل ديكارت- في مجمل حياته- حريصًا على تجنب مناقشة المسائل الدينية والسياسية، رغم أنها ضرورة حتمية لمنهجه في الشك. 

ربما احتاج الأمر لعقل عانَى شخصيًا من لعبة الدين والسياسة قبل أن يشرع في كتابة «رسالة في اللاهوت والسياسة»، التي كشفت عن العلاقة الوطيدة بين التعصب الديني والاستبداد السياسي. 

لنبدأ أولاً بعرض موجز لأفكار الفيلسوف لنرى: هل كان لها حيز في حياة الشاب اليهودي المدان من أهله؟  

أفكار سبينوزا الناضجة: وحدة الوجود وتاريخية الكتاب المقدس 

إن تصفحًا بسيطًا لتحفة سبينوزا الأولى «الأخلاق» أو لأطروحته المميزة «اللاهوت والسياسة» يكشف عن جرأة فكرية كبرى قياسًا إلى عصره، بدايةً من تصوره عن الألوهية ووصولاً لنظريته عن الكتاب المقدس.  

إن تصور سبينوزا عن الإله بعيد كل البعد عن التصور التقليدي له في الإيمان الشعبي التوحيدي، حيث يعتقد أغلب المؤمنين أن الله شبيه بالبشر في أفعاله وصفاته كالعطف والغضب والإرادة. 

وعلى عكس من ذلك يوحد سبينوزا ما بين الله والطبيعة نافيًا عنه التجسيم أو التشخيص (يسميه في كتاب الأخلاق: Deus sive Natura / الله أو الطبيعة).

عُرفت تلك العقيدة قبل سبينوزا في كثير من المذاهب الدينية خصوصًا الصوفية منها، واشتهرت باسم «وحدة الوجود – Pantheism»، ولتلك الفكرة عند سبينوزا مجموعة نتائج مهمة: طالما أنه لا يمكن التفريق بين الفعل الإلهي والطبيعة، فالكون غير مخلوق، وفكرتنا الشائعة عن «عملية الخلق» على أساس أن العالم جاء بأمر إلهي من العدم غير صحيحة. 

وفي كتاب «اللاهوت والسياسة» يتوسع في تلك النتيجة، بتأكيد على أن المعجزات المذكورة في الكتب المقدسة ليست أفعالًا خارقة للطبيعة، لأن قانون الطبيعة يطابق الفعل الإلهي، وكل ما في الأمر أن المعجزة هي واقعة نعجز عن فهم قانونها الطبيعي، فالإيمان بالخوارق سببه الجهل. 

ارتبط تفسير سبينوزا للمعجزات بقراءته النقدية للكتاب المقدس، فقد أخضع النص التوراتي ككل للبحث العقلي، ولم تكن غايته تأويل بعض الآيات التي تتعارض مع المنطق كعادة بعض اللاهوتيين في العصور الوسطى، لكن الكشف عن الأصل التاريخي لعملية تدوين النصوص نفسها.

شكك سبينوزا في الرأي السائد في عصره بخصوص كتابة التوراة: لا يمكن أن تكون أسفار موسى الخمسة كلها من كتابة النبي موسى، فإضافات الكتبة اللاحقين تبدو جلية في النص، فمثلاً يروي سفر التثنية- الذي ينسب كتابته للنبي موسى- أحداث وفاة النبي نفسها وما بعدها! 

وبحسب سبينوزا، فإن ذلك التناقض يُثبت أن النص خضع لعملية تحرير وتطوير من الكهنة على مدى قرون طويلة. 

ووفقًا لنفس المنطق، انتقد سبينوزا فكرة التميز العرقي والديني لليهود، فلا يوجد أي معنى للقول إن اليهود هم «شعب الله المختار»، لأن جميع البشر هم جزء من الطبيعة والتاريخ بنفس الدرجة. 

فلا شيء مميز في الشعب اليهودي عن باقي البشر، وتجربة الشتات في الأرض التي اختبرها اليهود في تاريخهم تثبت تلك الحقيقة. 

من القضايا التي ناقشها سبينوزا في كتاب الأخلاق: مسألة «الخلود والبعث بعد الموت» ورغم أن أغلب ما طرحه سبينوزا في أعماله كان صادمًا في العموم فإن تلك المسألة خصوصًا لها عديد من الأبعاد الفلسفية والتاريخية الخطيرة.

ورغم أنها لم تأخذ الحيز الكافي من التحليل فإنها ترتبط بشكل مباشر بأزمة سبينوزا مع جماعته اليهودية في الماضي، كما سنرى. 

منكرو الروح: العقيدة اليهودية وأزمة الاضطهاد السياسي 

رغم الاختلافات اللاهوتية سواء بين الأديان الثلاثة، أو بين الفرق المذهبية في الدين الواحد، يقوم الإيمان في العقائد التوحيدية الثلاث على مجموعة أسس مشتركة ( التوحيد مثلاً، والوحي الإلهي للأنبياء). 

كذلك، تتفق المسيحية والإسلام على مبدأ يوم القيامة (الدينونة في المسيحية) والحساب والبعث بعد الموت، لكن اليهودية مختلفة في تلك المسألة؛ فلا يُعتبر خلود الروح عقيدة أساسية للإيمان اليهودي، وبالنظر في أسفار موسى الخمسة (النص المؤسس في الشريعة اليهودية) لا نجد أي ذكر لمسألة الحساب بعد الموت. 

عوضًا عن ذلك، يقوم مبدأ «الثواب والعقاب» في اليهودية على مصير اليهودي ونسله في الحياة الدنيا (البركة أو اللعن):  

وَتَأْتِي عَلَيْكَ جَمِيعُ هذِهِ الْبَرَكَاتِ وَتُدْرِكُكَ، إِذَا سَمِعْتَ لِصَوْتِ الرَّبِّ إِلهِكَ .. 
مُبَارَكًا تَكُونُ فِي الْمَدِينَةِ، وَمُبَارَكًا تَكُونُ فِي الْحَقْلِ .. 
وَمُبَارَكَةً تَكُونُ ثَمَرَةُ بَطْنِكَ وَثَمَرَةُ أَرْضِكَ وَثَمَرَةُ بَهَائِمِكَ، نِتَاجُ بَقَرِكَ وَإِنَاثُ غَنَمِكَ.
(التثنية الإصحاح 28) 
إِنْ لَمْ تَحْرِصْ لِتَعْمَلَ بِجَمِيعِ كَلِمَاتِ هذَا النَّامُوسِ الْمَكْتُوبَةِ فِي هذَا السِّفْرِ، لِتَهَابَ هذَا الاسْمَ الْجَلِيلَ الْمَرْهُوبَ، الرَّبَّ إِلهَكَ، يَجْعَلُ الرَّبُّ ضَرَبَاتِكَ وَضَرَبَاتِ نَسْلِكَ عَجِيبَةً. ضَرَبَاتٍ عَظِيمَةً رَاسِخَةً، وَأَمْرَاضًا رَدِيَّةً ثَابِتَةً.  
(التثنية الإصحاح 28)

بالعودة إلى المجتمع اليهودي في أمستردام في القرن 17، حيث نشأ سبينوزا، فقد كان في الأساس مجتمعًا أسسه اليهود الهاربون من محاكم التفتيش الإسبانية، الذين تم إجبارهم سابقًا على التحول إلى العقيدة الكاثوليكية (عُرفوا بالمسيحيين الجدد). 

سواء في المجتمع الإسباني أو فور وصولهم لهولندا، مارس اليهود عقائدهم الأصلية في الخفاء، لكن في النهاية سمح المجتمع الهولندي لليهود بالجهر بعقيدتهم وطقوسهم، فأقاموا مجتمعًا يهوديًا مغلقًا وأسسوا مدارس ومعابد خاصة بهم. 

ورغم الطابع المتسامح نسبيًا مع اليهود في هولندا، فإن رجال الدين المسيحي – البروتستانت الكالفنيين في هولندا – نظروا بعين متربصة إلى التساهل اليهودي مع مسألة خلود الروح.

لقد أدرك زعماء المجتمع اليهودي خطورة مسألة خلود الروح، لذلك طور حاخامات اليهود مفهومًا عن خلود الروح اعتمادًا على بعض التفسيرات التلمودية القديمة بحيث يكون مناسبًا للمزاج المسيحي في أوروبا. 

وخوفًا من الدخول ثانية في أزمة الاضطهاد، فقد اتخذوا كثيرًا من الإجراءات العلنية لطمأنة المجتمع المسيحي في هولندا. 

وإجمالاً، كانت أمستردام الهولندية في القرن 17 بيئة غير مناسبة ليعلن أي يهودي إنكاره لخلود الروح. 

أسهمت تلك الحالة في أزمة داخل المجتمع اليهودي نفسه، فقد صرّح بعض الدارسين للتوراة والتلمود في أمستردام، بالرأي القديم الذي ينفي خلود الروح في العقيدة اليهودية. 

تلك مثلاً حقيقة أزمة المفكر اليهودي «أوريل أكوستا» الذى طُرد من الكنيس اليهودي وتم جلده علانية – شاهد سبينوزا الواقعة في طفولته – ونتيجة لما تعرض له انتهى للشك في مجمل الديانة ومات شريدًا ومنتحرًا في سنة 1640م. 

سبينوزا كبش الفداء 

في 27 يوليو من عام 1656، صدرت الفتوى التالية من الكنيس اليهودي في أمستردام بحق التاجر الشاب  «بينتو دى سبينوزا» أو «باروخ سبينوزا» الموجودة حتى الآن بنصها في أرشيف بلدية أمستردام : 

منذ وقت قريب، سمع زعماء مجلس الهيكل بالأفكار الخبيثة التي يتبناها سبينوزا. وقد حاولوا جاهدين بكل الوسائل أن يحولوه عن هذا النهج السيئ. ولكن عبثًا، ففي كل يوم نتلقى أخبارًا جديدة عن أقواله المرعبة .. وبعد أخذ الرأي والمشورة، قررنا فصل هذا الرجل من أمة بني إسرائيل. باسم الملائكة والقديسين فإننا نلعن المدعو سبينوزا، إننا نصب عليه كل لعنات الشريعة. ليكن ملعونًا في النهار والليل، ليكن ملعونًا في النوم واليقظة، لعنه الله لعنة أبدية لا تزول إلى أبد الآبدين، وليحرمه من عفوه، وليمحو ذكره من تحت السماء. وإننا لنخبر الجميع بأنه ممنوع على أي شخص أن يتحدث معه أو يراسله، أو أن يقيم معه أي علاقة أو يقدم له معونة، أو يسكن معه تحت سقف واحد.

ووفقًا للمؤرخ اليهودي «جوزيف كابلان»، كانت عقوبة سبينوزا (يُطلق عليها الحَرم) هي الأقسى في تاريخ يهود الشتات في أمستردام، حتى أن بعض اليهود الذين أهانوا المجلس نفسه لم يتلقوا لعنات بتلك القسوة، ولاحقًا، تم قبول العفو عنهم. 

أما سبينوزا فلم يراجع المجلس أبدًا عقوبته، لاحقًا قيل إن شقيقته هي أول من أبلغت المجلس عن أفكاره لتحرمه من ميراث العائلة. 

رغم ذلك، فالقضية غامضة جدًا. لا تخبرنا وثيقة الفتوى بماهية تلك «الأفكار الخبيثة» التي قالها سبينوزا. وحتى بعد شهرته الفلسفية في السنوات التالية لطرده، لم يكتب ولا مرة في رسائله الشخصية الموجودة عن تلك الفترة من حياته! 

في خمسينيات القرن العشرين، تم الكشف عن بعض الوثائق الخاصة بمحاكم التفتيش الإسبانية، والعجيب أنها احتوت على معلومة مهمة بخصوص باروخ سبينوزا. 

تحتوي إحدى الوثائق المكتشفة على شهادة لمسافر إسباني زار هولندا في خمسينيات القرن السابع عشر، وعند عودته إلى إسبانيا مرة أخرى، أجرت محكمة التفتيش تحقيقًا معه. 

ذكر أنه التقى شخصًا يدعى سبينوزا وقد أوضح له أنه طُرد من جماعته اليهودية لأنه أنكر خلود الروح، أيضًا، فإن أقدم كاتب سيرة لسبينوزا، الذي تحدث معه شخصيًا قبل وفاته بعام ذكر أن سبينوزا طرد بسبب رأيه في مسألة خلود الروح. 

ومن المعروف عن سبينوزا، أنه درس التوراة والتلمود بتعمق قبل قرار طرده، فقد كانت رغبة والده أن يصبح حاخامًا في الأساس. 

يبدو أن سبينوزا قد أحيا من جديد الرأي القديم القائل إن عقيدة الخلود ليست من أسس الإيمان اليهودي، وكان يتحدث كثيرًا عن الأمر مع اليهود والمسيحيين أيضًا. 

لذلك من المنطقي أن نستنتج التالي: كان سبينوزا مجرد كبش فداء من يهود أمستردام لإظهار موقفهم الرافض لذلك الرأي أمام المجتمع المسيحي المتربص بهم، وخوفًا من شبح الاضطهاد القديم الذي هربوا منه بأعجوبة في الأندلس. 

قد يبدو للوهلة الأولى أن المسألة محض خوف سياسي، لكنها أيضًا ترتبط بجوهر وغاية العقيدة اليهودية في الأساس. 

لقد تم حرم سبينوزا دينيًا بصياغة «الطرد من أمة بني إسرائيل» وهي صياغة لا تظهر في التاريخ اليهودي إلا تجاه الأفراد الذين يشكلون تهديدًا على الجماعة اليهودية ككل، ومستقبل الجماعة اليهودية هو الغاية القصوى للعقيدة كما يتضح في سفر أستير التوراتي. 

لقد وضعت أستير حياتها على المحك وتنازلت عن رغباتها الشخصية لكي تنقذ جماعتها اليهودية من الشتات والسبي في بابل، وهي نفس حالة يهود أمستردام.  لكن سبينوزا بالنسبة لأي يهودي وقتها هو «نقيض أستير» الذي اختار الجهر برأيه الشخصي دون اعتبار لمصلحة جماعته اليهودية. 

قديس الفلسفة الحديثة: حياة سبينوزا بعد الطرد 

بعد صدور الفتوى، تبرأ أهل سبينوزا منه، وترك مهنة والده في التجارة. وفي أحد الأيام، هاجمه متعصب يهودي بضربة خنجر، ولولا معطف سبينوزا السميك، لسقط قتيلاً في ذلك اليوم. ويقال إن سبينوزا ظل محتفظًا به لسنوات طويلة. 

لم يحتفظ سبينوزا فقط بالمعطف، لكنه احتفظ في داخله بكثير من الأفكار عن العلاقة الخفية التي تجمع التعصب الديني بالاضطهاد السياسي وخطورة ذلك على الآراء الحرة، لكنه أصر أيضًا على زيادة البحث والتساؤل .. 

ترك سبينوزا مهنته وحياته في أمستردام، وعاش فترة متنقلاً يكسب رزقه من مهنة صقل العدسات حتى استقر أخيرًا في مدينة «لاهاي» الهولندية. وذاع صيته في هولندا كلها، بعد ذلك، بسبب آرائه الجريئة، فقد تبحر في الفلسفة، خصوصًا فلسفة ديكارت، وكتب عنها نصًا مهمًا. 

في ذلك الوقت، كان زعيم الحزب الليبرالي وزعيم هولندا «يان دوفيت» قد سمع عن سبينوزا وقرأ له. فقرر تخصيص راتب سنوي ليتفرغ الشاب الواعد للكتابة الفلسفية. حينها شرع سبينوزا في تأليف كتابه الأشهر «الأخلاق»، حتى تعرض زعيم هولندا للاغتيال في الطريق على يد أحد المتعصبين نتيجة لمواقفه السياسية القائمة على التسامح الديني. 

في تلك اللحظة قرر سبينوزا التوقف عن تأليف «الأخلاق»، ورأى أن الضرورة تحتم أن يناقش أخطر مسألة في ذلك الوقت، وهي علاقة السياسة والدين.

بدأ في تأليف أطروحته الخطيرة؛ رسالة في اللاهوت والسياسة، وقد نُشر دون توقعيه ومع اسم مزور للناشر، لكن الجميع كان يعلم أن المؤلف هو باروخ سبينوزا. 

اختار سبينوزا في تلك المرحلة من حياته، العزلة والزهد، ورفض كثيرًا من العروض المغرية. 

فمثلاً رفض دعوة أمير ألماني للتدريس في جامعة هايدلبرغ، فوعده الأمير «بأكبر قدر ممكن من الحرية في إلقاء الدروس»، فقال عبارته الشهيرة: «ليس للحرية الفلسفة حدود، فإما أن نفكر بكل حرية، وإما ألا نفكر أبدًا».

وفي عام 1677 مات سبينوزا بمرض السل الرئوي وحيدًا في مسكنه نتيجة لغبار صقل العدسات الذي كان مجبرًا على استنشاقه فزاد من مرضه، ولم يكن عمره قد تجاوز خمسة وأربعين عامًا. 

قبل وفاته بسنة واحدة، زاره الفيلسوف الألماني الكبير «لايبنتز» في مسكنه المتواضع، وأطلعه سبينوزا على مخطوطة كتابه «الأخلاق» التي لم يستطع نشرها في ذلك الوقت – نُشرت بعد وفاته – وناقشها الاثنان لعدة أيام، ولا يوجد أي سجل مكتوب عن تلك المناقشة، إلا أن لايبنتز قال بعد ذلك عن تلك المقابلة: «التقيت الأستاذ، كان رجلاً متواضعًا يعيش في مستوى الكفاف، لا يملك سوى مكتبة كبيرة وأدوات يصقل بها العدسات.. زاهد في الملذات، كان بإمكانه أن يملك كل الوسائل التي تكفل له ثراءً هائلاً، لكنه تركها بمحض إرادته، فقد كرس حياته للبحث وراء شيء مختلف».