هذا ذبحها لأنه يحبُّها، وهذه أزهقت روحه بالسمِّ الزعاف لأنها تحب أحدًا غيره، وهؤلاء أفراد أسرة بأكملها: رجل وزوجة وبنين وبنات قتلهم قاتل غيلة لعلة الفقر، وهذا ذبح ذاك ومشى برأسه في الشارع ظهرًا وسط متفرجين عن اليمين وعن الشمال لعلة خلافات دفينة بين الجاني والمجني عليه، وآخر قتل نفسه انتحارًا من عَلٍ لعلةِ فقدان الأمل، وذاك قضى بإلقاء نفسه في اليمِّ فمات غرقًا، ومن قبله الذي شنق نفسه تعليقًا في شباك مقر عمله، وآخر أزهق عددًا من الأرواح دهسًا لعلة الطيش، وغيره قتل زوجته وأطفاله في فيلا أنيقة ثم لحق بهم بعد أن ضاقت به الدنيا.

وهو، وهي، وذاك، وتلك، وهؤلاء، وهنَّ، وأولئك؛ فرادى ومثنى وثلاث، وأكثر من ذلك، فلا يكاد يمر أسبوع -طوال السنوات الأخيرة- إلا ووسائل الإعلام تخبرنا عن تلك الفظائع التي هي من «جرائم العنف الاجتماعي» ضد النفس وضد الغير، والتي تحدث على قارعة الطريق في وضح النهار، أو في غسق الليل، أو في عش الزوجية في شهر العسل وفيما بعده، وفي مقر العمل، وخارجه، وفي داخل المسكن الخاص الذي هو مستقر الطمأنينة ومأوى الراحة.

في كل واحدة من تلك الفظائع يهب لأداء دوره: رجال الشرطة والأمن الجنائي، وخبراء الأدلة الجنائية، والنائب العام، ووكلاء النيابة، والمحامون، والقضاة والشهود، من أجل البحث عن الحقيقة والوصول إلى الجاني في جرائم الاعتداء على الغير وتوقيع الجزاء العادل في أسرع وقت ممكن؛ ولمعرفة علة الاعتداء على النفس، لكي يطمئن المجتمع على استتباب الأمن والسلامة العامة، ولكي يعلم كل من تُسوِّل له نفسه ارتكابَ هذا الجرم أو ذاك أنه لن يفلت من العقاب، وأنه لن يجد من مصيره البائس مهربًا.

أمَّا مهمة البحث عن الأسباب والعلل التي تنتج هذه الفظائع، فيتولاها قوم آخرون أغلبهم لا اختصاص لهم، وهم يرجعونها إلى أسباب شكلية أو ظاهرية: كنوع الزي الذي كانت ترتديه ضحية جامعة المنصورة مثلًا، أو ضيق العيش الذي دفع أحدهم لشنق نفسه في مؤسسة صحفية مثلًا، أو فقدان الأمل عند الذي ألقى نفسه من أعلى برج القاهرة مثلًا، أو الخيانة الزوجية لمن سمَّمت زوجها وقطَّعته بمساعدة عشيقها مثلًا، إلى آخر هذا، إن كان هذا له آخر.

مثل تلك الأسباب لا تتجاوز قشور العنف الاجتماعي ولا تبرح سطوحه، ولا تعدو حصيلته ثلاثي: «الهرتلة» و«الهري» و«الهبد» -حسب التعبيرات الدارجة في لغة العامة اليوم- والمثير للامتعاض أن وسائل الإعلام والتواصل بكل أصنافها تسهم في نشر تلك الترهات؛ وتفتح أبوابها لكل من يشخِّص ويصف، ويحلل ويحكم، ويبرِّئ ويدين؛ دون سند من تحقيق أو أثارة من علم، سوى ما يتردد على ألسنة أبطال ثلاثي: الهرتلة، والهري، والهبد. ثم لا يجد هؤلاء جهة تحاسبهم، أو تأخذ على أيديهم، أو تهذب ألسنتهم الحداد في اجترائهم على الخوض فيما لا علم لهم به.

لست هنا للخوض في أي «قيد ووصف»، أو «إثبات ونفي»، أو «إدانة وتبرئة» لأي واقعة من تلك الفظائع التي تفجعنا بين الحين والآخر، فهذه الأمور لها أهلها المنوط بهم هذا الأمر، والله تعالى يقول لنا في كتابه العزيز:

وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا.
الإسراء: آية 36.

لكن ما يترك الحليم حيران هو أن الذين يجبُ أن يصمتوا وينصتوا هم الذين يتكلمون ولا يسمعون كما أسلفنا، وأن الذين يجب أن يتكلموا ويسمعهم غيرهم تراهم صامتين ومتنصتين، ويطيلون الصمت والتنصت وكأنهم من كراكاس أو من هانوي، وليسوا من أبناء ريف مجتمعنا أو مدنه. أقصد «أساتذة العلوم الاجتماعية» بمختلف فروعها، وهم بأعداد كبيرة (لا أعرف إحصائية بعددهم في الجامعات المصرية). والمفترض في هؤلاء أنهم يملكون معرفة علمية حديثة، و«حديثة جدًّا»، ومن المفترض أن هذه المعرفة تجعلهم الأقدر على تشخيص ما يجري من مآسٍ متلاحقات، واقتراح حلول ناجحة لها. وأقصد منهم بصفة خاصة أساتذة علوم: الاجتماع، والنفس، والإنثربولوجيا، والخدمة الاجتماعية، والسياسة والرأي العام، وفلسفة الجريمة والعقاب، وما يتصل بهذه العلوم من فروع علمية أخرى خادمة لها أو مخدومة منها.

علينا أن نلاحظ هنا أن تلك «العلوم الاجتماعية» الحديثة بكلياتها الجامعية عمرها في مجتمعنا المصري بلغ أكثر من مائة عام، والمفروض أنها علوم حداثية جدًّا، وأنها تنويرية إلى أقصى حد، وأنها كذلك علوم تقدمية للأمام طبعًا، ويبغي حاملوها إصلاح المجتمع ولا شك، وهي تفعل ذلك حقًّا في مجتمعاتها التي وفدت إلينا منها. والمفترض أيضًا أن هؤلاء الأساتذة المشتغلين بها -بمختلف درجاتهم العلمية- حين يتكلمون يسكتُ غيرهم؛ بل على الكل أن يتعلم منهم، وعلى مؤسسات الأمن والعدالة والرعاية الاجتماعية أن تسترشد بآرائهم وتفسيراتهم، وتستنير بأنوار علومهم ومقترحاتهم. ولكن لا شيء من هذا تجده حصل منذ مائة عام وإلى اليوم، إلا في القليل النادر جدًّا، والنادر لا حكم له.

لا وجه للمسارعة باتهام أولئك الأساتذة المشتغلين بـتلك العلوم بالتقاعس، أو بالانسحاب، أو بالكسل عن القيام بواجبهم نحو مجتمعهم لا سمح الله، فليس أظلم من توجيه هكذا اتهام إليهم، وليس أظلم من أن نطالبهم بتقديم ما ليس عندهم، وليس أبعد عن الصواب من أن نلومهم على صمتهم؛ بل إن صمتهم في مثل هذه الظروف العصيبة يكاد يكون له ثواب «عبادة»، مثل «نوم الظالم» كما يقول المثل الشعبي الدارج. لماذا؟

الجواب ببساطة: لأنهم لا يملكون من تخصصاتهم «علمًا نافعًا»، فعلومهم ليست نابعة من مجتمعنا المصري، وهم يقرُّون بذلك. بعضهم يقر وهو حزين لاكتشافه أنه أضاع في الأوهام عمره، وبعضهم يقرُّ وهو يفتخر ويتباهى كأنه «جاب الديب من ديله»؛ يقول مثلًا إنه يتبع المدرسة «السلوكية»، أو «البنائية الوظيفية»، أو «الصراع»، أو «السوسيولوجية الوضعية»، أو «البنائية الحديثة» وهكذا. أو أنه تابع لهذا كله في نفَس واحد؛ أو غير ذلك مما ظهر في جامعات الغرب ومعاهده قبل هذه المدارس والنظريات أو بعدها، ونسي أن، أو غفل عن أن «التابع تابع» كما يقول علماؤنا في دروس أصول الفقه.

ومن أولئك الأساتذة مَن لا يفتأ يردد تلك النظريات التي يتبعها، ويستحضر نصوصها، ويلقي مقطوعات نصية منها في المحاضرات والندوات وعبر برامج الفضائيات، كمن يتقيأ طعامًا نصف مهضوم، لا شكله يسر ولا رائحته تُطاق. ومنهم من يردد كلمات مثل: «الطبقة»، والعلاقات المفتوحة، والمغلقة، والبناء الاجتماعي، و«الهابيتوس» -أحدهم تمالح وسماه: هابيتوس عربي!- والسيكوباتية، والأنا العليا، والذات الزائفة «الإيجو»، إلى آخر هذه الغوامض، إن كان لها آخر. وهي غوامض مسلوكة في سلسلة الترجمة والنقل والتقليد، وهذا كله -أو جلُّه- ثبت لكل ذي عينين في بلادنا أنه لا طائل من ورائه ولا من أمامه، ولم يذقْ مجتمعُنا منه إلا الصابَ والعلقم.

يقول قائل: هل معنى ذلك أنك تتهم أساتذة العلوم الاجتماعية كلهم في بلادنا بأنهم لا علم عندهم؟

حاشا لله، بل عندهم علم، ولكنه كما سلفت الإشارة علمٌ «غير نافع»؛ للأسباب التي أومأنا إليها، ولعلل أخرى، بعضها يحتاج إلى شرح أعمق من مجرد التعرف على الأسباب؛ لأن فقه العلة غير فقه السبب وأدق منه؛ إذ التعليل بحث في السبب الذي تحت السبب، وإجابة على السؤال الذي تحت السؤال، أما الوقوف على الأسباب والعلامات الظاهرة فعمل يحسنه كثير من العامة. وأنا أحترم أشخاص أساتذة العلوم الاجتماعية وتخصصاتهم جميعًا، وأقدِّر وأثمِّن صمتهم كما أسلفت، لأن صمتهم هو أفضل رد فعل لهم في مثل هذه القضايا التي تتخلق وتتعملق يومًا بعد يوم؛ في سرايات وفلل مدن مجتمعنا ومصايفه الراقية، كما في أزقة وحواري عشوائياته المتدنية بيئيًّا، ثم تنفجر بين الحين والآخر في وجوه الجميع وهم ذاهلون، وعن الخوض في علل تلك الفظائع غافلون.

في عام 2009 كان وزير الشئون الاجتماعية وقتها حاضرًا في مؤتمر من مؤتمرات «أساتذة العلوم الاجتماعية»، وكان موضوع المؤتمر يتعلق بدور البحوث الاجتماعية في مواجهة التحديات المجتمعية، ومنها العنف والفقر والتهميش. وتكلم الوزير يومها عن برامج وزارته لاحتواء «العنف الأسري» وهو نوع خطير من أنواع العنف الاجتماعي، كما تحدث عن أثر هذا العنف في تفاقم مشكلة أطفال الشوارع، أو الأطفال بلا مأوى، وتطرق أيضًا إلى تزايد معدلات الفقر المدقع والأعباء التي تنتج عنه في المجال العام. ثم وجَّه سؤالًا لأساتذة العلوم الاجتماعية الحاضرين يومها وكانوا أكثر من عشرة من جهابذة أقسام الاجتماع ومراكز البحوث، وكان سؤاله لهم هو: ماذا أفعل غدًا في مشكلات العنف الأسري وأطفال الشوارع وإساءة معاملتهم، والفقر المدقع الذي يغذي هذه المشكلات؟

انبرى أحد أقدم أساتذة الاجتماع يومها للإجابة، واستغرق ثلث ساعة تقريبًا وهو يجوب في لجج النظريات البنائية والوظيفية، ويصعد مع «الإبستمولوجيا»، ثم يهبط إلى «السوسيولوجيا»، ويضغط على الكلمات التي ينطقها وهو يصف الإبستيمي والسوسيولجي بأنها موضوعات مليئة بالغموض والتعقيد، والتشابك والتداخل، وأن بها انبعاجات معرفية عويصة، والتواءات أيديولوجية مخيفة، وأنه وبقية «علماء الاجتماع» -كذا- لا يزالون مختلفين في تعريف علومهم، ولم يصطلحوا على ما اختلفوا عليه، وأنهم يبيتون في غير ما أصبحوا يناقشونه، ويصبحون في غير ما باتوا يرددونه.

بعد ما يقرب من ثلث ساعة قال: إن المسألة تحتاج «وقفة» (في تلك اللحظة، وعندما سمع الوزير كلمة «وقفة»، اغتنم الفرصة ولم يفوِّتها، وطلب من الأستاذ أن يتوقف، متصنعًا أنه يستجيب لطلبه، وبالفعل توقف الأستاذ!) في تلك اللحظة كان أغلب الحاضرين -وفيهم الوزير- يكاد يختنق، وهو وهم ينتظرون الإجابة بفارغ الصبر، أو شيئًا يُقرِّب من الإجابة. وفجأة قال الوزير للأستاذ: لم تقل شيئًا مما سألتك عنه: «أعمل إيه بكرة؟» فسكت الأستاذ محتجًّا، ولاذ بالصمت، ولاذ الجميع بالصمت، ثم لاذ الوزير بعدها هو الآخر بالانصراف، إنقاذًا لوقته، ووقتنا طبعًا. لم يكن الأستاذ الفاضل ناقص علم، وإنما كان مكتظًّا بعلم لا ينفع.

أوردت تلك الواقعة، وأنا أتخيل مسئولًا ما يسألُ اليوم أساتذة العلوم الاجتماعية اليومَ على وقع فظائع العنف الاجتماعي المتوالية: لماذا يتفاقم هذا العنف؟ ولِمَ يحدثُ هذا التفاقم في بعض الفترات دون سواها؟ وكيف يمكن التغلب عليه، أو على الأقل كيف يمكن خفضه إلى أدنى مستوى؟

هذه الأسئلة الثلاثة هي الأسئلة الصحيحة، وما عداها إمَّا أنه لا يأتي بجديد، وإمَّا أنه فرع على واحد من تلك الأسئلة. مثل السؤال الذي يقول: لماذا لدينا عنف اجتماعي أصلًا؟ لأن الإجابة ببساطة هي أن كل مجتمع يشهد درجة ما من درجات العنف الاجتماعي، وبخاصة كلما زاد تعداده وكثرت مشكلاته، وأن أغلب المجتمعات تنجح في تطوير وسائل لاحتواء العنف الاجتماعي بفعالية وبأساليب عادية، وأن وجود قدر من العنف الاجتماعي ليس أمرًا يدعو للقلق أو التوتر طالما هناك من يقوم بدوره كما ينبغي، وفي الوقت المناسب.

المشكلة ليست في وجود بعض حالات العنف الاجتماعي، بل هي في تفاقم معدلات حوادث هذا العنف وتصاعده وتكرار نماذجه بنفس الطريقة، أو بما هو أبشع منها، وعلى فترات زمنية أقصر فأقصر، مما يؤثر سلبيًّا -وعلى نطاق واسع- في الشعور بالأمان الاجتماعي والسلم الأهلي. المشكلة هي كيف نحدُّ من هذا العنف ونقضي عليه إن أمكن بكل وسيلة ممكنة.

هنا مكمن المشكلة، ومن هنا نبدأ في البحث عن حلها، ولدينا ثلاث أطروحات نبسط القول فيها في مقال تالٍ.