لا يتحدث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن أوكرانيا إلا ويصفها بالدولة النازية. ويصفها بأنها نازية بشكل علني، ومؤيدة للنازية حتى النخاع، ويحكمها نازيون صغار. المسئولون الروس لا يختلفون كثيرًا عن بوتين، بل يذهبون أحيانًا إلى القول بأن الولايات المتحدة الأمريكية هي المسئولة عن نازية أوكرانيا، وينبغي محاكمتهم. ومن مبررات الغزو الروسي لأوكرانيا الحديث بأن روسيا تسعى لتجريد أوكرانيا من نازيتها.

يبدو الأمر للوهلة الأولى غير منطقي. أوكرانيا دولة يحكمها فولوديمير زيلينسكي، من أصل يهودي. كما أن زيلنسكي وقع قبل بدء الغزو الروسي بعدة شهور قانونًا لمكافحة معاداة السامية. ومن غير المنطقي أيضًا أن بوتين لم يبدأ في استخدام تلك الكلمة إلا مؤخرًا. لكن التفسير قد نجده في بيان مؤرخي الإبادة الجماعية والنازية الذين قالوا إن خطاب بوتين خاطئ من الناحية الواقعية، ومهين من الناحية الأخلاقية. وأضافوا أنه حتى مع وجود جماعات يمينية متطرفة في أوكرانيا فإن ذلك لا يبرر الغزو الروسي.

كلمة السر هي الجماعات اليمينة المتطرفة، تلك الجماعات التي تحالفت مع النازية في بدايات القرن العشرين ضد السوفيت. لم تختفِ تلك الجماعات من أوكرانيا، بل ازداد وجودها بعد الغزو الروسي. نظم الآلاف من القوميين الأوكرانيين مسيرة بالمشاعل في العاصمة كييف قبل الغزو الروسي بأيام لإحياء ذكرى ستيبان بانديرا. رغم علمهم أن بوتين يستغل بانديرا تحديدًا للترويج لحربه. لكنهم لم يبالوا فبانديرا بالنسبة إليهم بطل قومي تحالف مع هتلر وقاتل إلى جانب النازيين في الحرب العالمية الثانية، لكن من أجل أن تحصل بلاده على استقلالها.

وهتفت الآلاف بأنه ليس أفضل من الغزو الروسي لفهم ما كان بانديرا يحاول القيام به. فالعدو والمحتل الحقيقي هم السوفيت، والموالون لهم، ولا يوجد أي شيء غير شرعي في سبيل التخلص منهم. وأن البطولة الحقيقية هي مقاومة الشيوعية السوفيتية لا غير. المسيرة والهتافات أغضبت إسرائيل ويهود أوكرانيا. خاصة أن بانديرا شارك مع مجموعة من المتمردين الأوكران في قتل اليهود والبولنديين.

من أطلق سراحه؟

بعد تخرجه من المدرسة الثانوية عام 1927 أراد أن يلتحق بالكلية الأوكرانية للتكنولوجيا والاقتصاد. لكن السلطات البولندية لم تمنحه أوراق السفر، وأجبرته على دراسة الهندسة الزراعية في جامعة لفيف. لأن الأوكران واليهود كانوا أقلية آنذاك، وكان أمامهم اختيارات محدودة فيما يتعلق بالدراسة والمستقبل. في تلك الفترة التقى العديد من المنظمات التي تهتم بالقومية الأوكرانية.

ومن أكثر المنظمات التي جذبت عقله كانت منظمة القوميين الأوكران، كونها أكثر المنظمات نشاطًا. وبسبب إعجاب بانديرا بأندريه ميلنيك، قائدها. في صفوف تلك المنظمة ترقى بانديرا سريعًا، وأصبح ضابط الدعاية الرسمية للمنظمة في الأمم المتحدة عام 1931. والرجل الثاني في المنظمة بحلول عام 1933. آمن بانديرا بأنه لا بد من سياسة شاملة لبناء أمة متكاملة. ولهذا ركز على إيجاد مشتركات بين جميع الأوكران، خصوصًا في الأجزاء الغربية من أوكرانيا. وكان يبذل جهده للعثور على مجموعات من القوميين الأوكران وتطويرهم.

حين أصبح بانديرا رئيسًا للمنظمة وجَّه المنظمة بالكامل ضد بولندا والاتحاد السوفيتي. فجعل المنظمة تشن حملات جماهيرية ضخمة ضد المسئولين عن احتكارات التبغ والكحول. كما قام بحملات ضد تجريد الشباب الأوكران من جنسيتهم. لهذا قُبض عليه في لفيف عام 1934. وحوكم بتهمتين، التورط في مؤامرة اغتيال وزير الشئون الداخلية، وتهمة الانضمام للمنظمة. حُكم عليه بالإعدام. لكن لاحقًا خُفِّف الحكم من الإعدام للسجن المؤبد عام 1938.

وفي سبتمبر/ أيلول 1939 أُطلق سراحه. لا أحد يعرف من أطلق سراحه. بعض الروايات تقول سجناء أوكرانيون هم من أطلقوه في غفلة من إدارة السجن البولندية. والروايات الأخرى تقول إن النازيين هم من أطلقوه بعد فترة قليلة من الغزو الألماني لبولندا. المهم، أنه بعد أن خرج اتصل بأندريه ميلنيك ليستكملا مسيرتهما نحو استقلال أوكرانيا. لكن في تلك اللحظة افترقت الطرق، وانقسمت المنظمة. ميلنيك أراد نهجًا محافظًا، أما بانديرا فأراد المنهج الثوري. فأضحت المنظمة فصيلين، فصيل م، إشارة لميلنيك، وفصيل ب، إشارة لبانديرا.

التحالف مع النازية

لكن عاد الفصيلان للاجتماع مرة أخرى تحت لواء النازية قبل الحرب العالمية الثانية. فقد جندتهما ألمانيا من أجل التجسس، ومكافحة الهجمات التي تستهدف القوات الألمانية. وافق الاثنان وهدفهما من وراء ذلك إحكام السيطرة على المناطق التي يخرج منها السوفيت. وفي عام 1941 تقابل بانديرا مع قيادات المخابرات الألمانية شخصيًّا. وفي ذلك العام ذُكر اسم بانديرا 2.5 مليون مرة في تقارير رُفعت عن عمليات تخريبية في الاتحاد السوفيتي. لم يكن الأمر يرجع لتوسع بانديرا دائمًا، لكن لأن أتباعه كانت تتوفر لهم الحماية ليفعلوا ما شاءوا. فاستغلتهم الاستخبارات الألمانية ليكونوا هم في الواجهة لمعظم العمليات التخريبية.

في 30 يونيو/ حزيران 1941، وصلت القوات الألمانية لأوكرانيا. حينها أعلن بانديرا، والفصيل ب، أن أوكرانيا باتت دولة مستقلة. لكن هذا الإعلان رافقه العديد من المذابح للرافضين له. فقد كان الإعلان ينص بشكل واضح على أن أوكرانيا الجديدة ستعمل مع ألمانيا الاشتراكية الكبرى، تحت قيادة زعيمها أدولف هتلر. لكن لم يمضِ وقت طويل حتى توترت العلاقة بين بانديرا وألمانيا نفسها. فرُفعت التقارير إلى هتلر تخبره أن بانديرا وأتباعه يجهزون لحركات تمرد موسعة تهدف في نهاية المطاف لاستقلال أوكرانيا عن دولة الرايخ بالكامل.

أوصت تلك التقارير بضرورة القبض على جميع موظفي حركة بانديرا. ويجب استجوابهم بدقة، ثم تصفيتهم في نهاية الأمر. وبالفعل نُقل بانديرا إلى برلين، واعتُقل رئيس الحكومة الأوكرانية الجديدة. أُفرج عنهما بعد عدة أسابيع لكن طُلب منهما البقاء في برلين. ثم لاحقًا اعتُقل وألقي في معسكر اعتقال نازي مخصص للسجناء السياسيين. وفي سبتمبر/ أيلول 1944 أطلقت السلطات الألمانية سراح بانديرا، دون التوصل لاتفاق بينهما. فعاد الرجل لأوكرانيا وهو يعمل على مقاومة النازيين والشيوعيين.

وفي عام 1946 عادت حركة بانديرا للحياة بفضل دعم سري من المملكة المتحدة. وحاولت الاستخبارات الأمريكية كذلك التعاون معه. لكن ارتبط اسمه بآلاف من عمليات القتل والاختطاف والتزوير. ورأت الاستخبارات الأمريكية أنه كان دائمًا تحت حماية رجال المملكة البريطانية فآثروا الابتعاد عنه.

بانديرا والد القومية

ظل بانديرا على طريقته في محاولة الحصول على استقلال أوكرانيا من الجميع. ومع انهزام ألمانيا في الحرب العالمية الثانية وسطوع النجم السوفيتي أصبحت المهمة مركزة على التخلص من السوفيت. في 15 أكتوبر/ تشرين الأول 1959 انهار بانديرا في أحد شوارع ميونخ. الفحص الطبي اللاحق أثبت أن وفاته كانت تسممًا بغاز السيانيد السام. ودُفن في ميونخ. وتعرض قبره لعملية تخريب عام 2014.

بعد عامين من وفاته أصدرت هيئة قضائية ألمانية بيانًا بأن بانديرا قُتل على يد بوهدان ستاشينسكي، العميل الروسي المنشق. وأنه تصرف بناء على تعليمات من رئيس الوزراء الروسي نيكيتا خروشوف، ورئيس المخابرات الروسية ألكسندر شيليبن. قُبض على بوهدان وحوكم، وحُكم عليه بالسجن لمدة 8 سنوات.

أما أوكرانيا فقد أصرت على نقل رفاته ورفات ميلنيك وغيرهم، ممن وصفتهم بقادة التحرر الوطني، وضحايا قمع النضال الوطني الأوكراني. وفي أكتوبر/ تشرين الأول 2007 أقامت مدينة لفيف تمثالًا مخصصًا لبانديرا، ما خلق حالة واسعة من الجدل في أوكرانيا حول الرجل، هل كان بطلًا قوميًّا أم مجرد متعاون مع النازية. ولاحقًا قام مجهولون بتفجير التمثالين اللذين شُيِّدا. فتبنى مجلس إدارة لفيف تدشين جائزة باسم بانديرا. واحتفلت معظم المراكز الأوكرانية بعيد ميلاده المائة عام 2009، وصدر طابع بريدي يحمل صورته.

كل ذلك الاحتفاء لا ينبع من الفراغ. فبانديرا ترك خلفه إرثًا ضخمًا من المقتنعين بمذهبه. على رأسهم حزب سفوبودا، الذي يعني الحرية بالأوكرانية. شُكِّل عام 1991 ويضم العديد من الأعضاء الذين يقدسون بانديرا، ويقيمون احتفالًا سنويًّا لإحياء ذكراه.

الاحتفاء ببانديرا ليس على المستوى الشعبي فقط، بل قام السفير الأوكراني لدى ألمانيا بالدفاع عنه في يوليو/ تموز 2022.  وعلى الفور ردت وزارة الخارجية الأوكرانية بأن تصريحات السفير تعكس وجهة نظره الشخصية فحسب، وليس التوجه الرسمي الأوكراني. رد المتظاهرون على نأي وزارة الخارجية بنفسها بهتاف: بانديرا والدنا، أوكرانيا أمنا، سنقاتل من أجل الاثنين.