تبدأ أحداث القصة في عام 1997 عندما وصل الاقتصاد الإندونيسي إلى قمة تألقه؛ فقد كان يحقق نسبة نمو 7% سنويًا تقريبًا، وتحول إلى الصناعة بعد أن كان زراعيًا، وغزت المنتجات الوطنية دول العالم، وانخفضت معدلات الفقر بشكل ملحوظ، وبدأت المصانع المحلية تنتج السيارات والسفن الحديثة، ودخلت البلاد نادي صناعة الطائرات وانطلقت في مجال التصنيع والتقدم التقني بقوة، وصارت ضمن مجموعة النمور الآسيوية نموذجًا يحتذى للنهوض الاقتصادي في العالم كله.

وفي ذلك الوقت دخلت بلدان جنوب شرقي آسيا في أزمتها الشهيرة التي بدأت بعد ارتفاع سعر الفائدة في الولايات المتحدة وانهيار سعر الصرف في تايلاند، وهبطت قيمة عملتها «البات»، مما ولد ذعرًا لدى المستثمرين الأجانب وتسارعت عمليات البيع مما تسبب في هبوط العملة بشكل أكبر.

الشروط القاسية

انتقلت الأزمة إلى الاقتصادات المشابهة والمجاورة لتايلاند التي سارع المستثمرون الأجانب بسحب استثماراتهم منها، مما أوجد نقصًا حادًا في السيولة بتلك البلدان، وهنا سارع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي إلى عرض خدماتهما على تلك الدول لإقراضها ما تحتاجه من سيولة نقدية لتجاوز الأزمة، ووجدت الدول المأزومة في الاقتراض الدولي طوق نجاة من الإفلاس إلا أنه بمجرد ما بدأت المفاوضات على شروط القرض شعرت الحكومات بالصدمة من الشروط القاسية للصندوق.

فوفقًا لأستاذ الاقتصاد الكندي، ميشيل شوسودوفسكي، فـ«دائمًا ما يقول صندوق النقد الدولي إن سعر الصرف مبالغ فيه وغالبًا يطلب تقليل سعر العملة كشرط مسبق قبل مفاوضات فرض التكييف الهيكلي، فزعزعة العملة المحلية هدف أساسي لجدول الأعمال الخفي لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ويتسبب الخفض الأقصى لسعر العملة –الذي يؤدي إلى ارتفاعات أسعار مباشرة ومفاجئة- في (تقليل دخل المواطنين)» (عولمة الفقر، ص51).

تم تعويم الروبية الإندونيسية في 14 أغسطس/آب 1997، فهبطت قيمتها بنسبة كانت الأضخم على مستوى منطقة شرق آسيا بكاملها، ففي شهر أكتوبر/تشرين الأول وحده هبطت قيمة العملة بمقدار الثلث تقريبًا، فوقعت جاكرتا اتفاقًا للتمويل مع صندوق النقد، في الخامس من نوفمبر/ تشرين الثاني 1997، مما أدى إلى استعادة الروبية قوتها لفترة قصيرة، لكن الأوضاع تدهورت بسرعة في شهري ديسمبر/كانون الأول ويناير/كانون الثاني التاليين وهربت رؤوس الأموال للخارج.

كانت تعليمات الصندوق الدولي عبارة عن برنامج موحد يفرض على مختلف البلاد التي تقع في مأزق استدانتها الخارجية مهما كانت ظروفها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ففرض عليها خفض الإنفاق الحكومي وزيادة الضرائب والأسعار وزيادة أسعار الفائدة وقد استجابت النمور الآسيوية لشروط البرنامج باستثناء ماليزيا.

واشترط الصندوق إجراء ما يطلق عليه مسمى «إصلاحات» هيكلية في النظم الاقتصادية للدول المتعثرة، ويتضمن برنامجه فتح جميع مجالات النشاط في البلد أمام رؤوس الأموال الأجنبية والشركات متعددة الجنسيات وإزالة أي معوقات أمامها لابتلاع الأسواق المحلية، ومنع الدولة من التدخل، وإجبارها كذلك على وقف تمويل المشاريع الصناعية العملاقة كصناعة الطائرات، فتم إغلاقها وتشريد عمالتها التي استقطبت بعضها الشركات الأمريكية والبريطانية، واستمر نزيف العملة.

بوصول ثلثي سكان إندونيسيا، البالغ عددهم 213 مليون آنذاك، تحت خط الفقر، انهارت الأوضاع المعيشية في البلاد؛ فالملايين طردوا من أماكن عملهم أو تم خفض مرتباتهم في ظل ارتفاع الأسعار المتواصل وانخفاض المخزون السلعي، إذ إن سياسة خفض العملة تكون فعالة فقط حين يتوافر البديل المحلي للسلع المستوردة، التي يرتفع ثمنها في هذه الحالة ويتجه المواطن للبديل المحلي، وإلا فإن النتيجة تكون كارثية.

حاول الرئيس الاندونيسي سوهارتو، الذي أعيد انتخابه لولاية سابعة في شهر مارس/آذار مع نائبه حبيبي، التملص من وصاية النقد الدولي دون جدوى، وبات حكمه الممتد لأكثر من ثلاثين سنة على المحك، وجاءت الضربة القاصمة من ارتفاع أسعار الأرز لأسباب مختلفة منها انخفاض الإنتاج بسبب 4 سنوات متتالية من الجفاف.

وكانت القروض الكبيرة التي قدمها الصندوق لدول النمور الآسيوية تهدف لتسديد القروض قصيرة الأجل التي أوشكت مهلة سدادها على النفاد، وكلما تأخرت الدول المتعثرة في السداد أعطتها المنظمات الدولية قروضًا جديدة بشروط جديدة، وبعد تحقيق إندونيسيا معدلات نمو 7% تقريبًا، انكمش الاقتصاد عام 1998 بنسبة 15% وارتفع التضخم من أقل من 10% ليصل إلى 70%، وانهارت قيمة الأسهم الإندونيسية بالدولار بنسبة 90%.

الثورة

في كتابه «صندوق النقد الدولي قوة عظمى في الساحة العالمية»، يقول أستاذ الفلسفة في جامعة بريتوريا، أرنست فولف:

إن هذه الجماهير تسيطر عليها حركة لولبية تخفض مستواها المعيشي دومًا، وتحتم أن يكون كل إجراء مستقبلي أكثر وبالًا عليها من الإجراء السابق له، غير أن هذا كله لن يكون بلا نتائج فالتاريخ يبين بجلاء أن المعايشات الاجتماعية المهلكة للأعصاب تؤدي عادة إلى غضب عارم له ديناميته الخاصة وله طاقة كامنة فيه، تنشأ هذه الدينامية خلال حقب زمنية طويلة، وأنها قد تطفو إلى السطح من حين إلى آخر وتخف، فتبدو كأنها على وشك الاختفاء نهائيًا، غير أنها تظل في الواقع مهيأة للانفجار في أي لحظة والتحول بالتالي إلى ثورة عارمة لا تبقي ولا تذر.. الجهود المبذولة من قبل منظمات مثل صندوق النقد الدولي للمحافظة على النظام السائد تدفع الحكومات لأن تستخدم أساليب بوليسية أعنف وأشد قسوة عند قمع الاحتجاجات الشعبية.

هذا ما حدث بالفعل في إندونيسيا؛ ففي مايو/أيار 1998، اشتعلت الاحتجاجات الشعبية، بسبب التدهور الشديد في المعيشة، ففشل النظام في الوفاء بالمتطلبات الحياتية قوض من أسس شرعيته، وبدأت المواجهات بين الطلاب وقوات الأمن، ولم تلبث أن اتسع نطاقها. 

وخرجت مظاهرات الطلبة إلى قلب العاصمة جاكرتا والمدن الكبرى في أنحاء البلاد، وهناك انضمت إليهم أعداد هائلة من العمال والفقراء والموظفين، وامتدت المظاهرات لتشمل أعدادًا غفيرة، وفي 12 مايو/أيار كان الشرارة التي أدت إلى نهاية نظام سوهارتو، ففي ذلك اليوم قُتل أربعة طلاب بالرصاص في جامعة تريساكتي بعد مظاهرة كبيرة ومواجهة مع الشرطة والجيش، ومع انتشار خبر إطلاق النار على الطلاب، تصاعد الغضب، وانتشرت أخبار عن وجود قناصة عسكريين يطلقون النار على الطلاب، وتم تسجيل «اختفاء» نشطاء طلابيين.

 واندفع الفقراء للمحلات الفخمة لنهب ما فيها، ونهبوا البنوك التي تملكها عائلة سوهارتو وحطموا محلات السيارات التي يمتلكها ابن الرئيس، وحرقوا مبنى وزارة الشئون الاجتماعية التي كانت ترأسها ابنته، وتم تدمير الحي الصيني ونهبه وتحدثت تقارير لاحقة عن اغتصاب نساء من أصل صيني، وتوجه كثير من الغضب المكبوت ضد الأقلية الصينية التي تشكل نحو 2% من السكان ولكنها تملك غالبية من الثروة، ويُقال إن الحركة الاحتجاجية الطلابية كانت بمنأى عن أعمال العنف التي شجعت عليها جهات في الدولة.

وانتشرت الدبابات ونقاط التفتيش في الشوارع، وقتلت قوات الشرطة والجيش أعدادًا من المتظاهرين، ولم تستطع قوات الأمن حماية مبنى البرلمان، ومع تطور الاحتجاجات توقف الإنتاج والصادرات وأصيب النشاط المصرفي بالشلل التام وقفزت نسب البطالة وأسعار السلع، وشحت المواد الغذائية من الأسواق.

ورفض الرئيس التنحي، لكن بعد مطالبة وزيرة الخارجية الأمريكية، مادلين أولبرايت، له بالاستقالة، اضطر للرضوخ واعلن استقالته في 21 مايو/أيار 1998 وسلم السلطة لنائبه يوسف حبيبي، واستمرت الحكومة الجديدة في مواصلة الاقتراض على أمل نجاح خطة صندوق النقد التي راهنوا عليها بكل ما يملكون، وذهبت معظم القروض لتسديد ديون وفوائد أخرى.

وعلى العكس تمامًا من إندونيسيا وقفت شقيقتها الصغرى ماليزيا موقفًا مضادًا لكل ما يقوله صندوق النقد الدولي فكان رئيس الوزراء الماليزي الأسبق، مهاتير محمد، يستمع بإنصات إلى نصائح الصندوق ثم ينفذ عكسها تمامًا.

وحذرت الدول الأوروبية وقتها ماليزيا من انهيار اقتصادها، وهددتها بأنها لن تقرضها المال إذا احتاجت، وقالوا إن هناك نتائج مرعبة، لكن أيًا من هذا لم يحدث، بل كانت أول دولة تتعافى من الأزمة، وتعلم العالم منها الدرس، وفى عام 2000 عاد النمو الاقتصادى بكل عنفوانه بمعدل فوق 8%، وبحسب خبراء صندوق النقد الدولي أنفسهم فإن سياسة ماليزيا لتثبيت سعر الصرف كانت ناجحة، بينما ظلت توابع هذا الزلزال تلقي بثقلها على الاقتصاد الإندونيسي وتباطأ نموه خلال الأعوام التالية.

بعد تنحي الرئيس الإندونيسي الجنرال سوهارتو، تولى نائبه محمد يوسف حبيبي إدارة البلاد لمرحلة انتقالية لمدة عام تقريباً، وهو رئيس مدني ذو خلفية علمية محسوب على تيار المثقفين المسلمين، ووضع خلال فترته الرئاسية إندونيسيا على عتبة أول انتخابات عامة، تتنافس فيها الأحزاب السياسية بشكل حقيقي، وتأسس ثمانية وأربعين حزباً مثلوا مختلف الاتجاهات السياسية، وأصبحت هذه الدولة ثالث أكبر ديمقراطية في العالم، وعادت من جديد لتصبح نمرًا اقتصاديًا ضخمًا كما دخلت قائمة أكبر 10 اقتصادات عالمية، ومن المتوقع أن تتقدم إلى المرتبة الخامسة على القائمة بحلول عام 2024.