بدا هادئًا تمامًا غير منفعلٍ، وغير متوتر … لن تستطيع أن ترى يديه وهي تتشابك قلقًا … وجهه تكسوه علامات العافية والتزين … لحيته الخفيفة التي لا يمكنك أن تراها بسهولة حاضرة في المشهد … لم يرتبك حينما سمع السؤال وكانت إجابته بكل بساطة: لو عاد بي الزمن لفعلت ذلك من جديد.

لنفترض معًا أنك داخل طائرةٍ محلقةٍ في الجو، الأجواء هادئة تمامًا والجميع مبتسم أو منشغل، وفجأة يباغتك صوت الإذاعة الخارجية الخاص بالطائرة معلنًا عن وقوع عُطل بالمحركات الثلاثة الرئيسية التي تحرك الطائرة، وجُل ما يفعله قائد الطائرة الآن هو التفكير في أفضل سيناريو للسقوط.

هذا ليس بحلم، الطائرة بدأت في الارتجاج بشكل واضح، وصارت المطبات الهوائية أكثر اصطدامًا بالطائرة، أنت لم تفقد الوعي وليس هناك ما قد يساعدك على ذلك، أنت تشهد الآن الهبوط المؤلم والشديد وارتفاع الضغط وذلك الصوت الدامي الذي يصم الآذان، والأدهى من ذلك هو إدراكك أنك على وشك أن تنتهي حياتك بعد قليل، وأنت بكامل وعيك.

دعنا نتوقف هنا قليلًا … السطور القادمة لن تكون كذلك، فالقادم كله أحداث حقيقية.


صبيحة مخيفة!

الثاني والعشرون من يوليو/تموز في العام 2011، وفي قلب العاصمة النرويجية أوسلو، تفاجأ سكان المدينة بانفجارٍ مدوٍ يهز أرجاء العاصمة، تحديدًا في تلك المنطقة التي تجتمع فيها معظم الهيئات الحكومية، الإصابات قليلة للغاية والقتلى أقل.

بمرور الوقت ستدرك أن الحادثة لم تبدأ بعد، وأن اختيار مناطق التمركز الحكومي كان اختيارًا في منتهى المكر، تمهيدًا لبدء واحدة من أبشع الحوادث الإرهابية التي شهدتها أوروبا في العصر الحديث، حادثة كانت بمثابة المحرك الأول للكثير من المذابح التي سيسجلها التاريخ فيما بعد.

تحرك الجزء الأكبر من فرق الإنقاذ والشرطة والطوارئ لمتابعة الانفجار الذي دمر العديد من المباني الموجودة في الحي الحكومي، ونتج عن ذلك مقتل 8 أشخاص وإصابة العشرات، لكن وفي الوقت نفسه كان «أندرس بهرنغ بريفيك» قد تحرك بالفعل نحو واحدة من أبعد الجزر في محيط الأراضي النرويجية، جزيرة أوتويا، حاملاً سلاحه الثقيل لارتكاب المذبحة الكبرى.

هناك، وعلى بعد 20 ميلًا تقريبًا من موقع الانفجار الضخم في أوسلو، وحيث اجتمع ما يقارب 700 شاب وفتاة من حزب العمال الاشتراكي الحاكم في النرويج، في مخيم اجتماعي شبابي بامتياز، غلبت عليه الأجواء الاجتماعية بين الندوات وتجمعات النقاش وتناول الطعام وحفلات السمر وغيرها.

وصل بريفيك، وبحسب بعض الشهادات التي تداولتها الصحف، من بعض الناجين، فقد بدأ الإرهابي بإطلاق نار عشوائي عند وصوله بوابات المخيم، أصيب على إثره الموجودين بالهلع، سرعان ما دخل أندرس إلى المخيم وبدأ اصطياد الموجودين هناك واحدًا تلو الآخر.

الأمر لم يكن مجرد قصة خيالية، بل كان يومًا مريعًا عاشه كل الموجودين في ذلك المعسكر، فكل من شاهده أندرس يخرج من خيمة أو يحاول الهرب أو يساعد مصابًا آخر، كانت تناله طلقة من سلاحه، بكراهية غريبة وغير مفهومة.

وقد كانت النتيجة مريعة، فقد سقط 77 شخصًا برصاص الإرهابي، وأصيب آخرون، وقدرت بعض الإحصاءات أن من خرجوا من ذلك الحادث بصدمة نفسية لا تُمحى من الذهن زاد عددهم عن 300 شخص.


الإرهابي الذي لا يعرفه أحد

ظهر الاسم فجأة في يوم المذبحة الإرهابية التي ارتكبها المجرم الأسترالي في مسجد النور بمقاطعة كريست تشيرش النيوزيلندية، حيث كان «أندرس بهرنغ بريفيك» من بين الأسماء الموجودة على السلاح الذي نُفذت به العملية. وربما تكشف المزيد من التفاصيل كيف كان سفاح النرويج أحد مُلهِمي سفاح أستراليا.

حينما وقعت مذبحة النرويج كانت التساؤلات المطروحة بين أوساط المجتمع الأوروبي تدور بالأساس حول الضحايا، فهم ليسوا عربًا وليسوا مسلمين، أي أنهم ليسوا داخل دائرة العداء المباشرة خاصته، فلما كان الاختيار واقعًا عليهم؟

كان قرار بريفيك أن يقتل أبناء الحزب الحاكم في النرويج؛ ليقدم من خلال مقتلهم بصورة بشعة ومخيفة رسالة مفادها أن هذا هو المصير الذي ينتظر أبناء النرويج بل أبناء أوروبا كلهم، إذا ما استمر المهاجرون العرب في التدفق نحو أوروبا، وقد كانت تلك التضحية وقتها بمن ينتمون لحزب يتعارض فكره مع أجندته المعادية للمهاجرين، فهو لم تكن لديه أي مشكلة في أن يستخدم أي نوع من أنواع القتل والتنكيل ليثبت صحة ما يعتقد.

أوضح بريفيك أفكاره العدائية المتطرفة في المانفيستو الخاص به (بيان مطول)، الذي تجاوز 1500 صفحة، ونشره تحت عنوان «إعلان استقلال أوروبا»، حيث عبر عن أجندته الخاصة تجاه المهاجرين والمسلمين، وكيف أن التوسع في استقبال المهاجرين وزيادة عدد مواليدهم الواضح للعيان، في مقابل الانخفاض المخيف لنسب المواليد في أوروبا، سيشكل – بحسب قوله – خطرًا كبيرًا على الهوية الأوروبية وعلى هوية الرجل الأبيض.

بقليل من التوقف سيكتشف المتابع أن مانفيستو الإرهابي الأسترالي، والذي بلغ عدد صفحاته بضعًا وسبعين، كان مقتبسًا بالنص من سابقه ذي الألف الصفحة، فبضاعة أندرس الذي حُكم عليه بالسجن لـ 21 عامًا لم تذهب سدى.


سيفتخر بي أبي

هكذا قال بريفيك لزوجة أبيه المتوفى حينما زارها قبيل الحادث بأيام قليلة في مسكنها، فقد أخبرها أنه بعد عدة أيام سيقوم بعمل يجعل أباه يفتخر به كثيرًا، وقد كان ذلك تمهيدًا لتخطيط يدل على ذكاء صاحبه ويدحض كل ما يمكن الدفع به ناحية الاضطراب النفسي المزعوم.

فقد وضع بريفيك خطة دعمها بنماذج من التاريخ الإجرامي لأوروبا، واختار المبنى الحكومي في أوسلو، ليفجره بسيارة مفخخة، على غرار حادث مدينة أوكلاهوما عام 1995، حيث سقط 168 قتيلًا حينها، وقد كان الغرض من الحادث، هو إعلان الاعتراض على سياسات الحكومة!

ليجهز بعده بيانه المطول ويرسله إلى قرابة 1000 شخص كما ذكرت التحقيقات، ثم يخرج بعدها في مقطع فيديو عبر منصة اليوتيوب، متحدثًا عن أجندته الخاصة وعما ينوي القيام به، وكان اختياره داعمًا للخطة بشكل كبير، فاختار جزيرة تبعد عن العاصمة بما يقارب عشرين ميلًا تقريبًا، ليكون تحرك القوات الحكومية أبطأ ما يكون، لا سيما وهم في خضم الاشتعال الذي تفاجأ به الجميع في أوسلو.


من داخل المحكمة

أتذكر الطائرة التي كانت على وشك السقوط، تلك التي تحدثنا عنها في البداية؟ هل تخيلت كيف يمكن أن يكون شعور المرء وهو مقبل على حادث كهذا؟

دعنا نقترب أكثر … استغرقت حادثة جزيرة أوتويا بحسب بعض التقديرات 72 دقيقة، شعر خلالها المئات من الموجودين بالمخيم بأبشع أنواع الخوف التي قد يمر بها أي إنسان على وجه الأرض، فانتظار الموت أصعب من الموت نفسه.

لنحرك عقرب الساعة نحو الأمام … 8 سنوات تقريبًا، حيث تحركت البوصلة نحو الجنوب الشرقي قليلًا، على وجه التحديد في مقاطعة كريست تشيرش النيوزيلندية، حيث جلس المصلون داخل المسجد، وبدأ دوي إطلاق النيران نحوهم.

الأمر لم يستغرق كثيرًا، قد يصيبك الهلع من صوت الرصاص في الشارع، لكن ماذا لو اقترب الرصاص منك حتى صار داخل المنزل؟

تجمع كل المصلين في خوف في الركن نفسه، وتلقت أجسادهم الرصاص دون أن يستطيع أحدهم أن يفكر فيما يحدث، أو في سببه، أو فيما سيحدث بعده.

دعنا نخرج الآن من ذلك المشهد، ولنعد إلى المحكمة النرويجية، حيث أراد الإرهابي بريفيك أن يقرأ على أسماع الحاضرين بيانه المطول، وأن يتحدث عن هدفه السامي، لكن المحكمة ترفض، وتقرر وضعه في حبس انفرادي لمدة أربعة أسابيع بعيدًا عن أي وسائل تواصل بشري أو إلكتروني عدا التواصل مع محاميه.

في الجلسة التالية، بدا هادئًا تمامًا غير منفعلٍ، وغير متوتر، لن تستطيع أن ترى يديه وهي تتشابك قلقًا، وجهه تكسوه علامات العافية والتزين، لحيته الخفيفة التي لا يمكنك أن تراها بسهولة حاضرة في المشهد، لم يرتبك حينما سمع السؤال من القاضي، حيال اعترافه بجريمته، وكانت إجابته بكل بساطة: لو عاد بي الزمن لفعلت ذلك من جديد!

تكررت الصورة إذن، بشكلها المعهود في نيوزيلندا، بإشارة تفوق الجنس الأبيض التي أعلنها إرهابي نيوزيلندا، وبشعور الزهو بما جرى، وبحكم المحكمة نفسه، تاركًا الكثيرين في حيرة وتساؤل، هل يمكن اعتبار عقوبة 21 عامًا من السجن عقوبة مناسبة لشعور الضحايا أثناء المجزرة بقرب الموت «فقط»، وليس القتل نفسه؟


أكذوبة المرض النفسي

ومرت الأيام والسنون، ولم تشهد النرويج حادثًا إرهابيًّا واحدًا من قِبل المهاجرين!

من السهل أن نُصنِّف شخصًا ما كمريضٍ نفسي، فحالة عدم السواء النفسي لم تعد نادرة، لكن المنطق والعلم، يمكنهما أن يُفرِّقا جيدًا بين أن تكون مضطربًا نفسيًّا بحاجة للعلاج، أو أنك مريض بكراهية لا يمكن مداواتها بالعقاقير أو بالعلاج المعرفي السلوكي حتى.

أسفر التقرير الأولي للجنة الطبية النفسية التي عُرض عليها بريفيك عن أنه مصاب بجنون العظمة «بارانويا»، وأن الحالة متقدمة لديه، لكن المحكمة لم تقتنع بذلك التفسير، وقررت عرضه على لجنة أخرى، وكانت النتيجة النهائية التي استقر عليها حكم المحكمة أن بريفيك قام بجريمته وهو في حالة تامة من الوعي والثبات والاستقرار النفسي، وأنه لم يكن يعاني من أي اضطرابات نفسية، تجعله يُقدم على جريمة كهذه دون وعي لما قد يسفر عنها.

لو أنك ممن يطلعون على الصحف الأجنبية فقد يصدمك رؤية العنوان الرئيسي لصحيفة «الميرور» البريطانية، في عددها الصادر في ثاني أيام الحادثة، حيث ظهرت صورة الإرهابي الأسترالي وهو طفل صغير بين يدي والده الذي قتله السرطان، مكتوب جوارها Angelic Boy أي «فتى ملائكي»، وفي متن الخبر تستعرض الجريدة كيف يمكن أن تكون الوفاة المأساوية لوالد الإرهابي الأسترالي بمرض السرطان دافعًا نفسيًّا كافيًا لأن يكون الفتى ساخطًا على العالم، مُقبلًا على القيام بجريمة قتل جماعي، في الوقت نفسه الذي تحدث فيه آخرون عن كيفية ارتباط ما حدث بتأثر القاتل ببعض الألعاب القتالية مثل PUBG.

الواقع يقول إن السيناريوهات التي يُقدم عليها اليمين المتطرف في أوروبا مخيفة أكثر مما يظن البعض، وإن الخطط التي يضمرها البعض في أوروبا، قد زاد وهجها خاصة بعدما تجرأ الإرهابي الأسترالي على كسر كل حواجز الأمان التي رُسمت من قبل. لذا يمكن القول إن مستقبل المهاجرين في أوروبا والولايات المتحدة صار غامضًا بكل تأكيد.