ترجع جذور الحركة الطلابية المصرية إلى نشاط طلاب العلم في الأزهر الشريف قديمًا، حيث مثّل هؤلاء طبقةَ العلماء بما لها من وضع اجتماعي وتشريعي في المجتمع الإسلامي، لذلك نجدهم حاضرين في الجهاد ضد الاحتلال الفرنسي، ولاحقًا في هبّات القاهرة وصولاً إلى الثورة العرابية.

ومع إنشاء المدارس العليا في عهد محمد علي، وتوسعها في عهد الخديوي إسماعيل، ورث التعليم المدني العالي هذا الوضع الاجتماعي التاريخي لطلبة الأزهر ومنتسبيه. وفي عام 1905، وبدعم مباشر من الزعيم مصطفى كامل، تم إنشاء نادي المدارس العليا، وهو نادٍ يضم منتسبي تلك المدارس وخريجيها، ويعتبر هذا النادي أولى خطوات نمو الحس الوطني الجامع عند طلاب التعليم الحديث [1]، حيث وفّر النادي وسهّل الاتصال بين الطلاب، وساعدهم على تشكيل وعيهم بذاتهم وتفاعلها مع محيطها، كما أن نشاط النادي ارتكز على قضية جلاء المحتل.

تلا ذلك تفاعل متزايد من قبل الطلاب مع الحراك ضد الإنجليز، ووصل هذا التفاعل إلى اغتيال رئيس الوزراء بطرس غالي بسبب مواقفه غير الوطنية، وظل نشاط الفاعل الطلابي يتلخص في تقديم دعم لوجيستي وحركي للحراك النضالي للحزب الوطني، وكان أغلب هذا النشاط سريًا.

ولكن على الرغم من العناية الفائقة من الحزب الوطني وقياداته بالدور الطلابي،لم يؤدِّ هذا الدور إلى تشكّل حركة طلابية تعبّر عن جيل سياسي جديد كما سيحدث خلال ثورة 19.


الطلاب إلى الواجهة

إن التاريخ لا يعرف مجتمعًا لعب فيه الطلبة دورًا طليعيًا مثلما حدث في مصر.
والتر لاكير، مؤرخ أمريكي

من خلال جمع التوكيلات للوفد من نوفمبر/تشرين الثاني 1918، انخرط الطلاب في العمل الوطني، حيث اعتمدت عليهم نخبة الوفد كون الطلاب قد تمرسوا على العمل السياسي إبّان فترة الحزب الوطني، ناهيك عن وضع سعد زغلول نفسه كوزير سابق للمعارف قدّم خدمات لإنشاء الجامعة المصرية التي سترى النور عام 1925، بعد أن دعا إليها مصطفى كامل عام 1906، كذلك دعمه للكتاتيب وإنشاء مدرسة القضاء الشرعي.

أدى ذلك الانخراط إلى آمال كبيرة داخل صفوف الطلاب. وما إن اصطدمت تلك الآمال بموقف الإنجليز بعد قرار نفي سعد زغلول، رفض الشباب التهدئة التي حاول أن يقنعهم بها الزعيم الوفدي عبد الرحمن فهمي، وأطلقوا خلال أربعة أيام ثورة غضب. خرج طلاب مدارس الحقوق ثم المهندسخانة والتجارة والطب وصولاً لمدرسة القضاء الشرعي، حتى حوصرت تلك المظاهرات الطلابية في السيدة زينب، ووقع على إثرها عديد من القتلى واعتقل أكثر من 300 طالب خلال الأيام الأربعة الأولى قبيل أن تنتقل الشرارة الى مدن وقرى مصر كافة [2].

ونظرًا للقدرات التنظيمية التي كان الحراك الطلابي يتمتع بها، فقد أشرفت اللجان الطلابية على العمل الاحتجاجي في مصر كلها وذلك عبر التنظيم، والحشد من خلال طبع وتوزيع المنشورات، ونقل التفاعل بين العاصمة والمدن والقرى؛ فقد كان الطلاب أداة اتصال أيضًا في بادئ الأمر.


تنظيم الحركة الطلابية

مثّلت ثورة 1919 الحدث الذي تبلورت خلاله الحركة الطلابية المصرية، فقد شكّلت الحركة الطلابية الشرارة الأولى للثورة، حيث كان موقفهم التصعيدي أمام بيت الأمة والخروج من المدارس العليا نقطة فاصلة في تاريخ تلك الأحداث.

تميزت الحركة الطلابية المصرية بالطابع الاحتجاجي والصلابة وعدم تقديمها لبرامج تغيير في العموم [3]، وهذه السمة هي ما جعل موقف الطلاب إبان ثورة 1919 وقودًا قويًا لها، وما إن اشتعل فتيل الثورة حتى تبنى الجميع موقفًا معجبًا بحركة الطلاب، بل وراغبًا في السيطرة عليها كونها سلاحًا قويًا يمكن أن يستخدمه ضد الخصوم.

كان للتوسع التدريجي لطبقة المتعلمين والمنتسبين لهذه المدارس أثر مهم على نمو حركة الطلاب [4]، حيث إن توقف الدراسة والإضراب كان أحد أهم الأساليب التي ألهمت بقيت أجهزة الدولة المصرية، حتى استخدمت حكومة يوسف وهبة التهديد والوعيد لمواجهة الغياب وعدم الحضور.

وبالرغم من الدوافع التي وجّهت اهتمام السياسيين إلى محاولة السيطرة على الحركة، فقد سعوا للحفاظ عليها واستمراريتها في وضع يحافظ على المنفعة المتبادلة للحركة والسياسيين.

أدت ثورة 1919 كذلك إلى خلافة طلاب المدارس الحديثة لطلبة الأزهر من حيث المكانة والدور الاجتماعي. وسنجد أن طلبة الأزهر قد حاولوا لإعادة إنتاج حركتهم بُعيْد الثورة، ولكن بأولويات مختلفة وبوضع يميل إلى المحافظة، فسيميل طلبة الأزهر للملك، في حين يميل طلبة المدارس والجامعات فيما بعد للوفد وحركات قومية أو يسارية.

وبالجملة أثمرت الثورة بانخراط الحركة الطلابية في العمل السياسي وشعور الطلاب بالتفرد والثقة والوعي بمدى تأثيرهم. كما كانت الثورة حدثًا تأسيسيًا لجيل انتمى لها، ولعب هذا الجيل دورًا مهمًا لاحقًا في السياسة المصرية، كما شكلت إطارًا معياريًا (باراديم) بالنسبة للعمل الوطني للحركة الطلابية حتى ثورة يوليو 1952. وقد تكونت كتلة للحركة مكّنتها فيما بعد من الاستمرار عبر حزب الوفد، لتسهم الحركة لاحقًا في التحول الديموقراطي وليس فقط في مجابهة الاستعمار، وظهر ذلك من خلال ضغط الطلاب لإعادة العمل بدستور 1935 [5].


ذروة الاتصال بين الأجيال

عبّر شباب ثورة 19 عن ذروة الاتصال بين الأجيال السياسية كما يشير أحمد تهامي [6]، فقد كان جيل الشباب يستمع ويتصل بجيل الشيوخ والوسط من دون أي حساسية، ولم تمثل الثورة ظاهرة للانقطاع الجيلي فقد كانت لحظة حادة جدًا من تداخل الوطنية المصرية، وذلك عكس ما سيحدث فيما بعد عندما سيتّسع دور الحركة الطلابية وتمتلك آليات متعددة، ثم تقمع بين عامي 1928-1935 بقانون «حفظ النظام» الذي وضعه محمد محمود، رئيس الحكومة ووزير الداخلية المعادي للوفد. وقد ظهرت بوادر الانقطاع الجيلي بانتفاضة 1935-1936 ضد الوفد نفسه [7].

أصبحت جميع القوى تحاول أن تستأثر بالحركة الطلابية بعيد الثورة. ونظرًا لأن القوى الثلاث التي تسيطر على الساحة السياسية المصرية وهم الإنجليز والملك والوفد، ونظرًا لأن الوفد والملك ظلا في تنازع سياسي تزكيه الآلة البريطانية حتى لا يتفقا على خروج المحتل، في ظل هذا الاستقطاب كانت الحركة الطلابية ساحة له يحاول كل طرف أن يبسط نفوذه عليها، في حين تميزت الحركة الطلابية في وقتها أنها كانت تنقل دائمًا التفاعلات السياسية إلى الشارع ولا تحصره في الحرم التعليمي [8]. أيضًا تفردت بكونها حاضنة لأفكار نمت داخلها مع تجذر ظاهرة الانقطاع الجيلي، سنرصد أهم تلك الاستقطابات التي تجاذبت الحركة الطلابية:

الملك

يعتبر الملك أحد أكبر المستفيدين من ثورة الشعب المصري، حيث جاء دستور 1923 بصلاحيات كبيرة له مثل الحق في حل الحكومة وتعيين أعضاء في مجلس الشيوخ والأمة، بالإضافة لحق تأجيل أحكام الإعدام، ناهيك عن صلاحيات تعيين جميع المناصب الهامة بما فيها مؤسسة الأزهر التي سيتودد لها لاحقًا.

وسنجد الملك نفسه يوظّف الهبّات الطلابية، ضد حزب الوفد في عام 1924 ليتخذها ذريعة لحل وزارته، وكذلك في أحداث 1930، حتى أن الملك حفّز داعميه لإنشاء أحزاب مثل أحزاب «الاتحاد» و«الشعب» التي كانت تسعى للسيطرة على الحركة الطلابية أيضًا [9].

نجد كذلك أن حضور الملك عادة كان في أوساط طلاب الأزهر، وذلك لعدة أسباب:

– التركيبة الاجتماعية لطلبة الأزهر، فأغلبهم من الفلاحين ومن الطبقة المتوسطة الدنيا والفقيرة.

– تبعية الأزهر منذ عهد محمد علي للقصر، وتفاوت أثره في الساحة السياسية المصرية بسبب القمع الذي طال رموزه والتضييق عليه في فترات مختلفة من خلال إعلاء الحركات الصوفية، وسحب البساط منه من خلال نزع سلطته على القضاء بإنشاء مدارس القضاء الشرعي، بالإضافة لنزع سيطرته على تعيين مدرسي اللغة العربية وضمها لمدرسة دار العلوم.

– نزوع طلبة الأزهر إلى الوحدة الدينية والسياسية الجامعة ونبذ الاختلاف بدعوى طاعة ولاة الأمر، كما كان الملك فؤاد يروّج لنفسه كوريث لعرش الخلافة في إسطنبول.

لم يحصل الملك على شعبية طاغية في صفوف الشباب في أي وقت كما حدث بعد فبراير 1942. كانت بوصلة الحركة الطلابية هي الموقف الوطني من الاحتلال الإنجليزي، وقد انقلبت الحركة الطلابية على الوفد عندما حاصرت الدبابات قصر الملك فاروق لتجبره على تشكيل حكومة وفدية، فقد رفعت الحركة الطلابية وقتها الملك كرمز وطني.

الوفد

يشير المؤرخ المصري طارق البشري إلى أن الوفد لم يتشكل كنموذج الأحزاب السياسية في الغرب، بل على العكس كان حزبًا جامعًا للأمة يعبر عن المصريين بكافة أطيافهم [10]. كان من الطبيعي أن يكون الثقل الطلابي الأكبر يجنح بولائه لحزب الوفد، والتفسير المنطقي هو ما ذهب إليه البشري [11]:

فقد كان تأييد الطلاب للحزب وتوسعه داخل الحركة الطلابية يخرج من حس وطني جامع للأمة، لذلك فإن أي حركة تمرد ضد الحزب داخل الحركة الطلابية كان ينذر بتغيير الخريطة السياسية داخل النظام السياسي، بل لنذهب بعيدًا إلى أن أي تمرد يحدث ضد الحزب داخل الحركة كان ينذر بتغيير النظام كلية وليس فقط تغيير اللاعبين.

يشير أحمد عبد الله رزه إلى أن الوفد اعتمد على اللجان الطلابية في دعم نواب الحزب في انتخابات 1924. وفي المقابل، فإن الحركة الطلابية استفادت من العمل التنظيمي للوفد الذي أدى إلى صقل خبرات المنتمين للحركة، وإنشاء تنظيمات دائمة بهياكل إدارية تتبع الأحزاب السياسية وعلى رأسها الوفد.

قوى جديدة

ولكن النظام الليبرالي يؤول إلى صورة مختلفة تمامًا في حالة وجود الحزب الجامع الواحد، لأن الحزب الجامع الواحد هنا يستوعب الدستور والنظام نفسه ولا يعمل من داخله فقط، وهو لا يتداول النظام ولكنه يلتصق به، وهذا ما كان عليه حزب الوفد في مصر، فإما أن يكون الوفد في الحكم أو يكون الدستور موقوفًا أو ملغيًا وتكون نتائج الانتخابات مزوّرة.

استخدم حزب الوفد الإنجليز في تدعيم موقفه في مواجهة القصر في فبراير 1942، وقبلها كذلك في مواجهة النحاس لانتفاضة الطلاب في 1937-1938 التي شهدت صراعًا بين طلاب حزبه وبين طلاب «مصر الفتاة»، وانتهت إلى تطبيقه قانون «حفظ النظام» الذي وضعه عدوه اللدود محمد محمود لقمع الحركة الطلابية قبلها بنحو 9 أعوام؛ كما أن السفير البريطاني نصح النحاس بتحجيم الحركة الطلابية [12].

أدى ذلك إلى نمو رفض في صفوف الطلاب للوفد ساعد على نمو أيديولوجيات جديدة ناصبت البرجوازية المصرية المتمثلة في حزب الوفد العداء، خاصة مع توسع الشرائح الاجتماعية التي شملتها خدمات التعليم. فكلما ازداد انقطاع جيل الشباب عن جيل الشيوخ، تشكّلت أفكار وأيديولوجيات جديدة. هذا ما حدث للحركة الطلابية بعيد تجاوز طموحاتهم لطموحات الوفد التي كانت تدور حول فكرة المساومات والمشاركة في السلطة، في حين مثلت الحركة الاحتجاجية الطلابية سعيًا حثيثًا وجديًا للتخلص من الاحتلال وإن باستخدام السلاح.

ظلت الحركة الطلابية تتجاوز الإطار الوطني الوفدي لكنها لم تنجح إلا بعدها بأكثر من 30 عامًا عندما فرضت السلاح كفاعل لاستقلال مصر في أحداث 1951. إن جيل الثلاثينيات تأثر بصعود الأيديولوجيات عالميًا مثل الفاشية الراديكالية منها والأممية الجامعة بعد انهيار الخلافة العثمانية، كما تميز بحس قومي مصري، وربما كانت هذه هي المكونات الثلاثة الرئيسية التي أثرت في توجهه الفكري.

المراجع
  1. دور الشباب في الحركة الوطنية (1881-1952)، المركز القومي للبحوث الإجتماعية والجنائية، 1986.
  2. عبدالرحمن الرافعي، ثورة 1919 (تاريخ مصر القومي 1914-1921)، دار المعارف، ط4، 1987.
  3. أحمد التهامي عبد الحي، الأجيال في السياسة المصرية، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، 2009.
  4. أحمد التهامي، المصدر السابق.
  5. أحمد عبد الله رزة، الطلاب والسياسة في مصر، سينا للنشر، 1991.
  6. أحمد التهامي، المصدر السابق.
  7. رزة، المصدر السابق.
  8. رزة، المصدر السابق.
  9. سيف دويدار، الحركة الطلابية المصرية وعلاقتها بالنظام السياسي المصري، تحت النشر.
  10. طارق البشري، دراسات في الديمقراطية المصرية، مدارات للنشر.
  11. طارق البشري، منهج النظر في النظم السياسية المعاصرة لبلدان العالم الإسلامي، دار الشروق.
  12. رزة، المصدر السابق.