في الرابع من يوليو/تموز، خرج قائد الجيش السوداني، الفريق عبد الفتاح البرهان، في خطاب تلفزيوني، معلناً انسحاب الجيش من الحوار الذي ترعاه الآلية الثلاثية المكونة من بعثة الأمم المتحدة في السودان والاتحاد الأفريقي ومنظمة دول شرق ووسط أفريقيا للتنمية (إيجاد). وفق البرهان، فالانسحاب جاء بغرض إفساح المجال للقوى السياسية لتشكيل حكومة كفاءات وطنية التي سيلي تشكيلها، وفق قرار الجيش، حل مجلس السيادة وتشكيل مجلس أعلى للقوات المسلحة يتولى القيادة العليا للقوات المسلحة والأمنية ويكون مسئولاً عن مهام الدفاع والأمن.

جاء خطاب الجيش بعد ثلاثة أيام على مليونية 30 يونيو التي مثلت ذروة الاحتجاجات المستمرة منذ 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، عندما انقلب الجيش على اتفاقه السياسي الذي وقعه مع قوى الحرية والتغيير في يوليو/تموز 2019، وتضمن خارطة الطريق للمرحلة الانتقالية والإعلان الدستوري الحاكم لها، وهو الانقلاب الذي أدى إلى انسداد في الأفق السياسي واحتجاجات مستمرة في ظل حالة فراغ سياسي وحكومي تعيشها البلاد.

مع ذلك، رفضت قوى الحرية والتغيير – مجموعة المجلس المركزي – خطاب البرهان، واعتبرته مناورة من الجيش الهدف منها تخفيف الضغط الذي مثلته الاحتجاجات المستمرة، مع إغفال لسبب المشكلة الحقيقي المتمثل في انقلاب 25 أكتوبر وفق قوى التغيير.

في المقابل، أعلنت الآلية الثلاثية تعليق الحوار بعد انسحاب الجيش كونه أصبح بلا معنى، بخاصة وأن الحوار كان يعاني رفضاً أيضاً من قبل قوى الحرية والتغيير – المجلس المركزي ومعها لجان المقاومة الشعبية، وهما القوتان السياسيتان الأساسيتان اللتان تقودان الشارع السوداني ضد الجيش، فضلاً عن التنافس بين الرعاة أنفسهم، حيث كان الاتحاد الأفريقي يأمل في أن يتمكن من التوصل إلى حلول في السودان من دون الاضطرار إلى تدخل دولي.

البداية من الاتفاق السياسي

في 11 أبريل/نيسان 2019، قام الجيش بعزل الرئيس السوداني عمر البشير بعد أشهر من الاحتجاجات الشعبية العارمة التي بلغت حد الانتفاضة الشعبية. لكن عزل البشير لم يكن كافياً لتهدئة الشارع الذي التزم تحت قيادة القوى السياسية السودانية، بخاصة وأن تلك القوى كانت قد نجحت في بناء تحالف واسع في ما بينها باسم «قوى الحرية والتغيير». ضمت هذه القوى أربعة أطراف أساسية، وهي تجمع المهنيين السودانيين، وقوى الإجماع السوداني (الحزب الشيوعي والتنظيمات البعثية بالأساس)، وقوى نداء السودان (على رأسها حزبا الأمة القومي وحزب المؤتمر السوداني)، والتجمع الاتحادي المعارض، إلى جانب عدد واسع من منظمات المجتمع المدني.

رفضت قوى الحرية والتغيير أن يستلم الجيش حكم البلاد بعد البشير، واستمرت الاحتجاجات القوية ضد الحكم العسكري لتبلغ ذروتها في مجزرة القيادة العامة في 3 يونيو/حزيران 2019. اضطر المجلس العسكري بعد ذلك تحت ضغوط دولية إلى عقد اتفاق سياسي مع قوى الحرية والتغيير في 5 يوليو/تموز 2019 بوساطة من إثيوبيا والاتحاد الأفريقي.

نص الاتفاق السياسي على تأسيس مجلس سيادي من عشرة أعضاء مناصفة بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير، على أن يتولى قيادته لمدة 21 شهراً شخصية عسكرية يعقبها تولي شخصية مدنية لـ 18 شهراً أخرى، وهكذا تكون الفترة الانتقالية في مجموعها 39 شهراً (ثلاثة أعوام وثلاثة أشهر) قبل الانتخابات العامة. في الوقت نفسه، تسمي قوى الحرية والتغيير رئيساً للوزراء من الكفاءات الوطنية، ويتشكل برلمان بأغلبية من قوى الحرية والتغيير (لم ينفذ هذا البند الخاص بالبرلمان إلى اليوم).

على مدى العامين التاليين، لم تنجح حكومة عبد الله حمدوك المدعومة من الحرية والتغيير في تحقيق تحسن اقتصادي ملموس، بل واجهت حكومة حمدوك انتقادات ترى أن الأوضاع الاقتصادية قد تردت في ظلها لوضع أسوأ مما كانت عليه في ظل حكم الرئيس المعزول عمر البشير. كذلك توجهت انتقادات للأحزاب الأساسية في قوى الحرية والتغيير، وعلى رأسها حزب الأمة القومي وحزب المؤتمر السوداني، بالاستئثار السياسي واستبعاد القوى السياسية والجهوية المختلفة التي ترغب في المشاركة في السلطة.

الانفجار المحتوم

في سبتمبر/أيلول 2021، بدأت العلاقات بين المكون العسكري والمكون المدني في السلطة السودانية تتوتر بسبب الخلاف حول تسليم رئاسة مجلس السيادة للمدنيين. كان الإعلان الدستوري الذي صدر في أغسطس/آب 2019 قد نص على مايو/أيار 2021 موعدا لتسليم رئاسة مجلس السيادة للمكون المدني، لكن اتفاق السلام الموقع بين حكومة حمدوك والمجلس العسكري من جهة والجبهة الثورية من جهة أخرى، المعروف باتفاق جوبا، قد اتفق على مرحلة انتقالية مدتها ثلاثة أعوام تبدأ من لحظة توقيع الاتفاق في أكتوبر/تشرين الأول 2020.

على الرغم من أن الحرية والتغيير قد رحبت باتفاق جوبا، فإن هذا الاتفاق كان يتضمن في الواقع تفجيرا للاتفاق السياسي الذي جرى بين الحرية والتغيير والمجلس العسكري. فاتفاق جوبا لم يتضمن فقط تغييراً لموعد تسليم السلطة للمدنيين وانتهاء المرحلة الانتقالية، بل تضمن كذلك اتفاقاً على مشاركة الجبهة الثورية (الحركات المسلحة في جنوب السودان وعلى رأسها حركة العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم والحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة مني مناوي) في السلطة.

تميزت سياسة الحركات المسلحة تلك ببراجماتية شديدة، فتحالفت مع المجلس العسكري ضد الحرية والتغيير، وانضم إلى التحالف التنظيمات البعثية والقومية (قوى نداء السودان، وكان الحزب الشيوعي قد انسحب من قوى الحرية والتغيير في نوفمبر/تشرين الثاني 2020 اعتراضاً على المسار الانتقالي برمته) التي انشقت عن الحرية والتغيير مشكلة «قوى الحرية والتغيير – الميثاق الوطني» منتقدة هيمنة بعض الأحزاب على المجلس المركزي للحرية والتغيير، وهكذا بقيت قوى الإجماع الوطني والتجمع الاتحادي في «الحرية والتغيير – مجموعة المجلس المركزي».

أخطاء الفترة الانتقالية

طوال الفترة الانتقالية، كان من الواضح أن الحرية والتغيير تمتلك موقفاً جذرياً ضد خصومها، وعلى رأسها النظام القديم وأذرعه السياسية المتمثلة في «الحركة الإسلامية السودانية» و«حزب المؤتمر الوطني» الحاكم سابقاً، إلى جانب الحركات الإسلامية الأخرى التي حسمت الحرية والتغيير موقفها برفضها بما في ذلك «حزب المؤتمر الشعبي» الذي كان قد أسسه الزعيم الإسلامي حسن الترابي بعد خلافه مع الرئيس المخلوع عمر البشير وانقسام الحركة الإسلامية السودانية على إثر ذلك.

رفضت الحرية والتغيير التعاون مع ذلك الحزب رغم انضمامه إلى معظم التحالفات المعارضة التي تشكلت في السنوات الأخيرة من حكم البشير بما في ذلك تحالف «نداء السودان» ذو الأغلبية اليسارية والقومية، ورأت الحرية والتغيير أن الحزب لم يغادر الطبيعة الانتهازية للحركات الإسلامية السودانية من وجهة نظرها.

كانت الحرية والتغيير حاسمة كذلك في توجسها من المجلس العسكري ورفضها هيمنة الجيش على السياسة السودانية.

لكن بينما كانت الحرية والتغيير حاسمة في خصوماتها، لم تكن حاسمة في برامجها. تركت الحرية والتغيير الملف الحكومي برمته لعبد الله حمدوك من دون توجيهات برامجية ولو عامة في ما يتعلق بالسياسات الاقتصادية والسياسات العامة.

اتسمت الحرية والتغيير، وبالتحديد الأحزاب الثلاثة التي سيطرت عليها، حزب الأمة والمؤتمر السوداني والتجمع الاتحادي، بانتهازية لا تقل عن انتهازية المؤسسة العسكرية، وظهر ذلك في الدفاع المستمر عن حكومة حمدوك رغم فشلها، وقبول اتفاق جوبا، والموقف الملتبس تجاه اتجاه المجلس العسكري وحكومة حمدوك إلى التطبيع مع إسرائيل.

في الوقت نفسه، فشلت الحرية والتغيير في تحقيق هيمنة على الجهات السودانية المختلفة، وهو ما سيظهر في نجاح المؤسسة العسكرية في تحريك احتجاجات البجا بقيادة الزعيم القبلي محمد ترك في شرق السودان. أغلقت تلك الاحتجاجات الموانئ البحرية الأساسية للسودان في بورتسودان في سبتمبر/أيلول 2021، ما تسبب في أزمة عنيفة وأظهر فشل الحكومة وعجز القوى السياسية عن استيعاب المكونات الجهوية المختلفة في السودان المعروف بترامي أطرافه وتنوعه العرقي والجهوي والديني العميق.

كل ذلك خلق مسافة بين الحرية والتغيير والقوى الشعبية كلجان المقاومة وتجمع المهنيين، إلى جانب القوى السياسية الرافضة لهيمنة المؤسسة العسكرية وغير السعيدة في الوقت نفسه بالحرية والتغيير وعلى رأسها الحزب الشيوعي السوداني وحزب المؤتمر الشعبي.

تخبط المجلس العسكري

في المقابل، لم يكن المجلس العسكري أقل تخبطاً، فعلى الرغم من رغبته الواضحة منذ عزل البشير في الهيمنة على المشهد السياسي السوداني، وفرض قائد الجيش عبد الفتاح البرهان وقائد ميليشيا التدخل السريع المنضوية تحت لواء القوات المسلحة محمد حمدان دقلو (حميدتي) كرؤوس للدولة السودانية، فإن المؤسسة العسكرية لم تملك استراتيجية واضحة للتخلص من ضغوط المدنيين وإخراج مشهد انقلابي يمكنه الصمود أمام الضغوط الدولية والمحلية.

كان الجيش كذلك فزعاً من قانون دعم الانتقال الديمقراطي في السودان الذي أقره الكونجرس الأمريكي في ديسمبر/كانون الأول 2022. طالب هذا القانون بتعزيز السيطرة المدنية على الجيش والأمن، وحل الميليشيات والتنظيمات الموازية ودمجها بالجيش، وهو ما ارتآه حميدتي استهدافاً مباشراً لميليشيا التدخل السريع التي يقودها. كذلك استهدف القانون انخراط الاستخبارات والأمن في الاتجار غير الشرعي في النفط والذهب، ما ارتآه الجيش والأمن تهديداً أيضاً لمصالحهم الاقتصادية، بخاصة مع تضمن القانون فرض عقوبات على من ينخرطون في أنشطة من هذا النوع أو يهددون المرحلة الانتقالية.

هكذا صار الجيش يرى في الانقلاب على المسار السياسي ووضع قوى موالية له وخاضعة لهيمنته بالكامل مسألة حياة أو موت بالنسبة لقيادات المؤسسة العسكرية.

المشهد الانقلابي

في 16 أكتوبر/تشرين الأول 2021، تحركت التظاهرات المؤيدة للمجلس العسكري والمطالبة بعزل حكومة حمدوك مع الإبقاء على رئيسها ليشكل حكومة جديدة. حظي الاعتصام بالطبع بدعم قوى الحرية والتغيير – الميثاق الوطني والحركات المسلحة وعلى رأسها جبريل إبراهيم الذي تولى وزارة المالية، ومني مناوي الذي حصل على منصب حاكم دارفور. في المقابل، حركت قوى الحرية والتغيير– المجلس المركزي إلى جانب تجمع المهنيين السودانيين ولجان المقاومة الشعبية (وهي شبكة من لجان شعبية تعمل بشكل لا مركزي في الأحياء) مظاهرات مضادة داعمة لحكومة حمدوك وللمسار السياسي المتفق عليه.

في 25 أكتوبر/تشرين الأول، خرج البرهان معلناً عدداً من الإجراءات على رأسها حل مجلس السيادة وعزل حكومة حمدوك. بالتوازي مع ذلك، تم وضع رئيس الوزراء المعزول عبد الله حمدوك قيد الإقامة الجبرية، كما تم القبض على محمد الفكي سليمان، عضو مجلس السيادة من التجمع الاتحادي المعارض، وإبراهيم الشيخ، وزير الصناعة في حكومة حمدوك ورئيس حزب المؤتمر السوداني.

كان من المتوقع عند ذلك أن يسارع الجيش إلى طرح خارطة طريق جديدة وتشكيل حكومة مدنية، لكن سوء إخراج المشهد الانقلابي بدا سريعاً في غياب تلك الخارطة، وعجز المؤسسة العسكرية عن تشكيل حكومة مدنية بديلة، ومن ثمّ الاضطرار إلى العودة إلى حمدوك ومحاولة التوصل إلى اتفاق معه، وهو ما تم في 21 نوفمبر/تشرين الثاني، عندما توافق البرهان مع حمدوك على عودة الأخير إلى رئاسة الحكومة بشرط تعديل الوثيقة الدستورية بما يناسب المرحلة، أي بما يعيد رسم توازنات السلطة بين المؤسسة العسكرية والحرية والتغيير.

استمرت الاحتجاجات الشعبية مع ذلك مما دفع حمدوك إلى الاستقالة في مطلع يناير/كانون الثاني 2022، ليدخل السودان بذلك في حالة من انسداد الأفق السياسي.

التجذير الثوري

منذ استقالة حمدوك، دخل السودان حالة من انسداد الأفق السياسي، حيث أضحت العودة إلى المسار السياسي السابق على 25 أكتوبر نفسها غير مرضية، ليس للجيش فحسب، وإنما لخصومه من القوى الثورية.

تصدرت لجان المقاومة الشعبية قيادة الاحتجاجات الشعبية ضد الحكم العسكري، وصوبت انتقاداتها ليس فقط إلى الجيش، بل إلى قوى الحرية والتغيير نفسها التي اعتبرتها شريكة للعسكري في المسار الانتهازي الذي أودى بالحلم الثوري. وفي مايو/آيار 2022، صاغت لجان المقاومة الشعبية موقفها الثوري في «ميثاق سلطة الشعب»، وعلى رأس تلك المواقف رفض أي تفاوض مع الانقلابيين بصورة مباشرة أو غير مباشرة، والمطالبة بعودة الجيش إلى الثكنات وانسحابه النهائي من الحياة السياسية.

ورغم أن الميثاق تضمن خطوطاً عامة لبرنامج انتقالي ثوري، كتأسيس برلمان من قوى الثورة الشعبية وحكومة ثورية توازن بين المتطلبات الاجتماعية وشروط التفاوض مع المؤسسات الاقتصادية الدولية والعمل على تشكيل جيش مهني موحد وإعادة بناء الأجهزة الأمنية، إلا أن «الرومانسية الثورية» تبقى الطابع الغالب على تلك اللجان ومطالبها ورؤاها، فما زالت تلك المطالب تفتقر إلى الإمكانات التنفيذية، بالنظر على الأقل إلى أن اللجان إلى اليوم ما زالت شبكة لا مركزية لا تنظيماً ذا قيادة قادرة على انتزاع السلطة وفرض رؤاها. بالتالي، يبقى برنامجها أقرب ما يكون إلى مطالبة خصمها (الجيش والدولة السودانية) بتنفيذ مطالبها الثورية ووضعها في السلطة.

جرت لجان المقاومة الشعبية قوى الحرية والتغيير نفسها إلى موقعها الثوري، فلم يعد بوسع تلك القوى الاندفاع إلى تسويات جديدة ولو برعاية أممية، ومهما كانت المكتسبات، حيث إنها بذلك تخاطر بأن تضع نفسها في مرمى نيران الشارع الذي أمسى خاضعاً لهيمنة القوى الأكثر جذرية.

في المقابل، عمّقت مناورة الجيش الأخيرة من تعقيد المشهد في السودان، فقد نقل الجيش الكرة إلى ملعب القوى السياسية عندما ترك لها حرية التوافق على الحكومة، بينما اكتفى بتشكيل مجلس لشئون الدفاع والأمن. وعلى الرغم من أن هذه المهمة الأخيرة تبدو مهمة مهنية ومرتبطة بالفعل بالمؤسسة العسكرية والأمنية، فإن الجيش يمكنه من خلالها مصادرة السلطة الحقيقية في الملفات الأكثر حساسية، وهي الملف الأمني في الداخل والسياسة الخارجية إلى جانب المصالح الاقتصادية للجيش التي يمكن ربطها بشئون الدفاع والأمن القومي كالمعتاد في كثير من بلدان العالم الثالث، ستبقى تحت هيمنته المطلقة ومن دون إمكانية للتدخل حتى حال انتخاب رئيس للجمهورية، بخاصة وأن الجيش قال إنه سيشكل مجلساً للدفاع والأمن يتولى القيادة العليا للجيش، وهي الصفة التي يتمتع بها رؤساء الجمهوريات غالباً.

في ظل هذا المشهد، تحتاج السودان إلى تنظيم سياسي يملك القدرة على صياغة المطالب الثورية في برنامج تنفيذي واقعي يضع في اعتباره توازنات القوى وإمكانات القوى السياسية والثورية السودانية والمشهد الدولي والإقليمي والتحديات الاقتصادية.