المَعلَم التاريخي ليس مجرد حجارة مُصمتة قد عفى عليها الزمن، بل هو صفحة بيضاء حوت سطورها فلسفة مُخطِّط وإبداع بنّاء وأنباء الماضي وحوادثه، لم تكن ظروف إنشاء مدرسة السلطان حسن بالعادية، بل تخللها العديد من المشاكل والتحديات التي جعلت من إنشائها ملحمة إبداعية نتمعن نتائجها إلى يومنا، كما أن المدرسة لم تكن على صورتها التي نراها عندما وضع مهندسها «محمد ابن بيليك المحسني» لمساته الأخيرة، وإنما مرت بظروف ومنعطفات طوال سبعة قرون أثّرت على تكوين عناصرها، قبل أن تصل إلينا بهيئتها التي عليها اليوم.

بوابة مدخل مسجد السلطان حسن
بوابة مدخل مسجد السلطان حسن

بين قبوي كسرى والسلطان

فلا يُعرَف في بلاد الإسلام معبد من معابد المسلمين يحكي هذا الجامع.
تقي الدين المقريزي


ضُرب أول معول بناء في المسجد عام 757هـ، لم يحتج الأمر رغم عظمته إلى 20 عامًا كما كان الحال في إيوان «كسرى أنو شروان»، فلم تكن صراعات المماليك لتضمن بقاء السلطان كل هذه المدة، وإنما تم البناء في قرابة الثلاث سنوات ونصف، دون التوقف ولو ليوم واحد، وبلغت التكلفة لليوم الواحد ألف مثقال من الذهب الهرجة. [1]

وكان أسلوب إنشاء قبو الإيوان في المسجد مختلفًا عنه في إيوان كسرى، ففيما تم إنشاء قبو إيوان كسرى بدون قوالب أو عبوات مُحددة لشكل القبو، وذلك برص حلقات القبو المتتالية مائلة عن المستوى الرأسي، مستندة إلى جدار خلفي -وهي طريقة البناء النوبية التقليدية التي أسهب شيخ المعماريين «حسن فتحي» في شرحها بكتابه «عمارة الفقراء»- أُنشئ قبو إيوان السلطان حسن على قالب خشبي كبير محدد لشكله المرجو، وقد بلغت تكلفة قالب قبو الإيوان الكبير فقط قرابة مائة ألف درهم نقرة، وقد رُمي هذا القالب بعد الانتهاء من العمل في الكيمان (على تلال القمامة). [2]

هنا نتحدث عن تكلفة أحد العناصر المساعدة فقط التي لن تستمر في البناء فما أدراك بالباقي، ويرجع الاختلاف في طرق الإنشاء إلى أن الإسلوب الفارسي يستدعي أن يكون منحنى القبو على شكل مُكافئ سلسلي، مما قد لا يتفق مع الفكرة المعمارية من الناحية الرمزية بالنسبة لقبو السلطان حسن ذي المنحنى المدبب ذي المركزين السائد في العمارة الإسلامية المصرية [3]، وقد ذكر عن السلطان حسن أنه من ثقل تكلفة إنشاء المسجد قال: [4]

لولا أن يُقال إن ملك مصر عجز عن إتمام بناء بناه، لتركت بناء هذا الجامع من كثرة ما صرفت عليه.

المآذن: شهود على التاريخ

من الأمور المؤسفة التي لحقت ببناء المسجد ما ذُكر في إنشاء المآذن، ففي البدء كان العزم على إقامة 4 مآذن بين أرجائه يُؤذن عليها، فتمت ثلاث منها، اثنان منهم تكتنفان الضريح في الواجهة الشرقية، وواحدة على الكتف الأيمن للمدخل العمومي للمسجد، وكان مُقررًا للرابعة أن تكون على الكتف الأيسر، حتى جاء يوم السبت 6 ربيع الآخر عام 762هـ بمأساة أودت بحياة 300 نفس من أطفال الأيتام الذين قد رُتبوا بمكتب السبيل هناك، ولم يسلم سوى 6 أطفال فقط، فأبطل السلطان إقامة هذه المئذنة مرة أخرى، وكذلك أعرض عن نظيرتها الرابعة وبقيت مئذنتا الضريح.

وقد كانت تلك المأساة نذير شؤم عند جموع المصريين، الذين تشاءموا واعتبروه نذيرًا بزوال السلطان عن قريب، وهو ما تم بالفعل، فقد كان مقتله بعدها بثلاثة وثلاثين يومًا، ومن المُضحكات المبكيات التي ذُكرت في تلك المأساة؛ أنه لما بدا شؤم الناس ذُكر عن الشيخ «بهاء الدين السبكي» هذه الأبيات الموجهة للسلطان لتهوين الخطب: [5]

أبشر فسعدك يا سلطان مصر أتى *** بشيره بمقال سار كالمثل
إن المنارة لم تسقط لمنقصة *** لكن لسر خفي قد تبين لي
من تحتها قُرئ القرآن فاستمعت *** فالوجد في الحال أداها إلى الميل
لو أنزل الله قرآنا على جبل *** تصدّعت رأسه من شدة الوجل
تلك الحجارة لم تنقض بل هبطت *** من خشية الله لا للضعف والخلل
وغاب سلطانها فاستوحشت فرمت *** بنفسها لجوى في القلب مشتعل
فالحمد لله خط العين زال بما *** قد كان قدره الرحمن في الأزل
لا يعتري البؤس بعد اليوم مدرسة *** شُيدت بنيانها للعلم والعمل
ودمت حتى ترى الدنيا بها امتلأت *** علماً فليس بمصر غير مشتغل

عند قراءة وصف المؤرخين والرحّالة لقبة الضريح ومئذنتي السلطان حسن، أعلى مآذن مدينة الألف مئذنة في العصور الوسطى، واللتين اتسمتا بالطابع المملوكي، يجب أن نتوقف عند الفترة الزمنية التي نقل لنا فيها هذا الوصف، فوصف المقريزي والرحّالة في زمن المماليك مثلًا سيختلف عن وصف رحّالة ومؤرخي الحملة الفرنسية وعمّا نراه الآن.

فقد تهدّمت المئذنة الواقعة جنوب الضريح وكذلك قبة الضريح خلال القرن الـ 17 وتم إعادة الإنشاء مرة أخرى بطرق تختلف عما كانت عليه [6]، وقد وضح من التجديد الذي لحق بالمئذنة الجنوبية أن من قام بذلك للأسف لم يراعِ أصول الذوق المعماري للمئذنة المملوكية عندما قلب الأوضاع، فوضع قاعدة المئذنة الجديدة المربعة فوق قاعدة المئذنة القديمة المستديرة، وهو خلاف ما كانت عليه مآذن المماليك. [7]

كذلك كانت المئذنتان في عهد المماليك أنفسهم كانت شاهدًا مؤثرًا ومهمًا على الكثير من التقلبات السياسية وحركات التمرد في القلعة، فلم تكتفِ المئذنتان بدور الشاهد الصامت على الجانب الآخر من القلعة تجاه ما يدور فيها من تقلبات، ولكن استخدمها المتمردون في عهد السلطان برقوق لنصب المجانيق وإطلاق القذائف على القلعة مقر الحكم آنذاك، مما ألجأ السلطان إلى هدم سلالم المئذنتين لمنع تكرار ما حدث مرة أخرى. وفي مرات أخرى كان يُجبر السلطان على إرسال الجنود إلى المسجد لمنع الثوار من التمركز فيه.

وفي عهد السلطان جقمق تم سد السلالم المؤدية لأعلى المئذنتين مرة أخرى، حتى عزم السلطان الأشرف جنبلاط عام 1500م على هدم المسجد لمنع استخدامه لأي غرض عسكري، لكنه تراجع أمام الرفض الذي واجهه لتنفيذ هذا القرار. [8]

مسجد مدرسة السلطان حسن
صورة للوجهة الشرقية (وجهة القبلة) لمسجد مدرسة السلطان حسن، ويتضح من الصورة الاختلاف بين المئذنتين حيث يقع على يسار الصورة المئذنة الجنوبية التي تهدمت وأعيد بناءها في القرن الـ 17

ضريح السلطان بلا رفاته

بدأت عادة وجود الأضرحة داخل المساجد في مصر منذ ضريح الصالح «نجم الدين أيوب»، ثم بدأ المماليك في الاهتمام بها في كثير من المعالم فيما بعد.

تُعتبر تلك العادة مثار جدل لدى الكثير لتعارضها مع مبادئ وفلسفة الدين الإسلامي في قضية التوحيد، إلا أنها كانت مُعتادة عند سلاطين المماليك، بيد أن المثير هنا في مسجد السلطان هو الجراءة غير المسبوقة في موقع الضريح خلف جدار القبلة مباشرةً، وحيث يولي المصلون وجوههم نحو القبلة، وهو ما يمثل فجاجة لم تُعهد من قبل، وقد يُبرَّر ذلك بأنه قد يكون للقرار أسبابه المعمارية حيث إن الوجهة الشرقية -وجهة القبلة- هي الوجهة المطلة على ميدان الرميلة تجاه القلعة، فكان لزامًا أن يبرز منها الضريح بتأكيداته المعمارية من قبة ومئذنتين تكتنفانه تجاه القلعة، فيكون تخليد ذكرى السلطان الراحل نصب حكام الدولة اللاحقين.

وللمفارقة فإن درة العمارة المملوكية وأعظم معابد الإسلام في القرون الوسطى، لم يكن لصاحبه إلا الاسم فقط، فلم يُدفن السلطان حسن في هذا الضريح، بل قُتل في واحدة من تلك الفتن التي كثيرًا ما لازمت عهد المماليك، ولم يُعرف له قبر، وظل الضريح فارغًا فترة من الزمن، وكأنما اكتنفته لعنة تلك البدعة المستحدثة تحول دون سكون أي رفات فيه. [9]

وقبة الضريح شأنها شأن المئذنة الجنوبية، فقد سقطت في القرن الـ 17، ومن أوصاف الرحّالة والمؤرخين للقبة القديمة ندرك مدى تباينها عن التي نراها اليوم، فقد ذُكر أن القبة القديمة كانت من نوع القباب البصلية، التي تنتشر في سمرقند وبلاد الهند، وكانت خشبية الهيكل مكسية بألواح الرصاص، وأكثر ارتفاعًا وباطنها حافل بالنقوش:

وتجاه القلعة جامع لم أرَ أجمل منه منظرًا، ولا أبدع منه شكلًا، وأحسن ما راقني منه قبته وشكلها الغريب التي لم أشاهد مثلها، فإنك بينما تراها ضيقة من الأسفل تتسع في عينك كلما تعلو ثم تأخذ في الضيق على هيئة بيضة الدجاج.
«بيترو دي لافالليه» في وصفه للقبة القديمة (1616م). [10]
ضريح السلطان حسن
صورة توضح الضريح من الداخل، ويُذكر أن السلطان حسن لم يُدفن فيه.

الخاتمة

تلك الأعمال الإبداعية مثل مسجد السلطان حسن، الهرم الأكبر بالجيزة، أو حتى إيوان كسرى، هي بمثابة انتصارات فنية وجمالية يرويها لنا التاريخ لعرقٍ أو لحضارة ما، استطاع الإنسان أن يتفوق فيها على نفسه ويُباهي بها أقرانه من الحضارات الأخرى، وكأي انتصار، فهو يُنسب دائمًا للحُكّام والقادة، ويتم نسيان الكثير من الجنود المجهولين الذين فنوا من مهاراتهم وإبداعاتهم وجهدهم -وربما حيواتهم- لإتمام العمل.

لم يكن «السلطان حسن» بالحاكم القوي الذي يتوقع منه أن يخلف مثل هذا البنيان، كما أن هناك من يُوجِّه له النقد في الصرف على مثل ذلك العمل في وقت كانت تعاني فيه البلاد من تبعات أزمة طاعون القرون الوسطى، ومن تذبذب في الأوضاع السياسية طال تلك الفترة، مثل هذا النقد يُوجه أيضاً إلى بناء الأهرامات، وإلى المعاناة التي عاناها العمال في بناء ضريح للفرعون، إلا أننا نستخلص من ذلك أن الإبداع لا يعكس بالضرورة قوة حاكم أو فترة ازدهار، بقدر ما يعكس روح الإبداع التي بمقدورها أن تطرق أبواب الشعوب والأمم في أي وقت وتحت وطأة أي ظروف، فتُخرِج لنا ما نراه اليوم من درر ثمينة نلتمس فيها عبق التاريخ.

المراجع
  1. المقريزي، “المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار”، ج4، ص117.
    ابن إياس “بدائع الزهور في وقائع الدهور”، ج1، ص560.
  2. المقريزي، “المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار”، ج4، ص117.
  3. ثروت عكاشة، “تاريخ الفن/ العين تسمع والأذن ترى: القيم الجمالية في العمارة الإسلامية”، القاهرة، دار الشروق، 1994، ص211.
  4. المقريزي، “المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار”، ج4، ص117.
  5. المرجع نفسه، ص 117-118.
    ابن إياس، “بدائع الزهور في وقائع الدهور”، ج1، ص575.
  6. Doris Behrens-Abouseif, “Islamic Architecture in Cairo: an Introduction”, Cairo, Dar el Kutub, 1998, P 124.
  7. ثروت عكاشة، “تاريخ الفن/ العين تسمع والأذن ترى: القيم الجمالية في العمارة الإسلامية”، القاهرة، دار الشروق، 1994، ص213.
  8. حسن عبد الوهاب، “تاريخ المساجد الأثرية في القاهرة: الجزء الأول”، القاهرة، مطبعة دار الكتب المصرية، 1946، ص 174-175.
  9. المرجع نفسه، ص165.
  10. المرجع نفسه، ص167-173.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.