في عالمٍ تكثر فيه الكوارث الكبرى الطبيعية (كزلزال تركيا وسوريا المدمر فبراير 2023)، وغير الطبيعية مثل الحروب والنزاعات الأهلية، والتي تفتك بالآلاف من الأبرياء، بينما ينجو آخرون بأجسادهم، لكن بعض هؤلاء لا تنجو أرواحهم ومشاعرهم كما نجت أجسادهم، ويظلون يعانون من اضطرابٍ نفسي يفسد عليهم حياتَهم وفرحة نجاتهم من الكارثة التي تعرَّضوا لها، إذا لم يتحركوا بالشكل المطلوب لعلاج هذا الأمر فكريًّا ونفسيًّا.

يشعر هؤلاء بألم نفسي عميق، وبتأنيب ضميرٍ قاسٍ، لأنهم نجوْا بينما لم ينجُ بعض أحبابهم ومعارفهم أو حتى الآخرين الأبرياء، وكأنهم كانوا مسئولين بشكلٍ أو بآخر عن وقوع الكارثة، أو على الأقل يشعرون في قرارة أنفسهم أنهم قصَّروا في إنقاذ حياة هؤلاء الضحايا، أو أنهم تخلَّوْا عنهم وتركوهم بمفردهم للمصير المؤمل. وقد اصطُلح على تسمية تلك الحالة بـ (عقدة الناجي)، والتي يمكن اعتبارها نوعًا خاصًّا من اضطراب ما بعد الصدمة PTSD، ويعتبره بعض الباحثين من أخطر أعراض اضطراب ما بعد الصدمة.

اقرأ: هل يمكن التعافي من صدمات الكوارث الطبيعية؟

ولا تقتصر الإصابة بعقدة الناجي على الناجين من الكوارث العامة والطبيعية، إنما شوهدت في سياقات أخرى شبيهة، مثل أفراد عائلات المصابين بأمراضٍ وراثية خطيرة، أو أسر المُنتحرين، أو بين الناجين من حوادث السيارات، أو أمراضٍ خبيثة مثل السرطان لا ينجو منها كثيرون في العادة … إلخ. على سبيل المثال، بيَّنت نتائج بعض الدراسات العلمية أن ما يتراوح بين 55-90% من الناجين من مواقف وأحداث صعبة فشل آخرون – لا سيَّما من معارفهم – في النجاة منها، يعانون من درجة من درجات عقدة الناجي وما يتصل بها من جلدٍ للذات.

ما هي أعراض الإصابة بعقدة الناجي؟

تتقاطع أعراض «عقدة الناجي Survivor Guilt» مع أعراض اضطراب ما بعد الصدمة، فهي تتضمن أيضًا إلحاحًا لذكريات الحادث على عقل المريض، واسترجاعها في أطياف خياله مرارًا وتكرارًا بشكلٍ يتعذَّر السيطرة عليه، وميل للعزلة عن الناس، والانفصال عن الواقع، وكذلك صعوبات في النوم، وفي التركيز، وفقدان الدافع للقيام بالكثير من أنشطة الحياة اليومية. وقد تصل في الحالات الشديدة إلى الإصابة بالاكتئاب، والشعور الجارف باحتقار الذات، وظهور بعض الأفكار الانتحارية، والتي قد تؤدي في نهاية المطاف إذا أُهمِل التعامل العلاجي الملائم إلى الإقدام على ارتكاب الانتحار.

وقد تتمثَّل تلك الحالة في أعراضٍ نفس-جسمانية (أعراض جسمانية ليست نتيجة مرض عضوي إنما نفسي) مثل تسارع ضربات القلب، والصداع، وآلام البطن، والشعور بالإجهاد الشديد … إلخ. وبالطبع تتباين الأعراض النفسية والجسدية المذكورة كمًّا وكيفًا من شخصٍ لآخر، وفق سمات شخصيته وخلفيته الفكرية والثقافية، وشدة الحدث، وطريقة تفاعله مع هذا الحدث.

ولا يُعرَف على وجه اليقين ما الأسباب المباشرة التي تؤدي بالبعض إلى الإصابة بعقدة الناجي، لكن يرجِّح العلماء والباحثون أن هناك دورًا لوجود اضطراباتٍ نفسية سابقة على الواقعة مثل الاكتئاب، أو التعرض لصدماتٍ وجراحاتٍ نفسية قديمة لا سيَّما في سن الطفولة والمراهقة المبكرة، أو لدى بعض أنماط الشخصيات لا سيَّما الشخصية التي تميل إلى الخضوع والإذعان لأنها ترى بشكلٍ لا واعٍ أن الآخرين أكثر استحقاقًا في العموم، وبالتالي كانوا هم الأجدر بالنجاة. كذلك تزداد احتمالات الإصابة بها لمن يعانون من نقص أو غياب الدعم الأسري والاجتماعي.

كيف يمكن القضاء على عقدة الناجي؟

بناءً على ما يتوافر بين أيدينا من أدلةٍ علمية وأبحاث طبية نفسية وملاحظات حياتية دقيقة، فإنه يمكن التخلص من (عقدة الناجي) بفاعلية، لكن يحتاج هذا إلى وقتٍ، وإلى جهدٍ ممنهج، وبعض الصبر بالطبع. وتخبرنا الإحصاءات المتاحة المبنية على أبحاثٍ علمية أن الغالبية العظمى من الحالات يمكن أن تتعافى خلال العام الأول، لكن هناك ما يقارب الثلث من الحالات يمكن أن يتأخر شفاؤها التام إلى 3 أعوام أو أكثر. وهذه أبرز النقاط التي تمثل أُطُر علاج ذلك الاضطراب النفسي المؤرِّق.

1. الاعتراف بالمشكلة دون مواربة:

لا يمكن لكبت المشاعر وتجاهل المشكلة أن يسمح للوقت بعلاجها، فقد يحدث العكس وتتفاقم مع الوقت. القاعدة في التعامل مع كل الاضطرابات النفسية هو الصراحة مع النفس، والاعتراف بأن هناك مشكلة، وأنه ينبغي السعي لحلها، وكذلك لا ينبغي الوقوع في جلد الذات نتيجة الإصابة بعقدة الناجي، فهي ليست مجلبة للعار أو علامة على الضعف والسقوط … إلخ، إنما تعبر بشكلٍ أو بآخر عن حساسية نفسية وعاطفية زائدة عند الشخص، يمكن أن تكون ميزة مهمة إذا أمكن ترشيدها. وفي حالة العجز عن التعامل الذاتي مع المشكلة وما يصاحبها من أعراضٍ سلبية، فيجب عدم التأخر في طلب المشورة الطبية النفسية.

2. تصحيح الأفكار:

يمكن للمعالج النفسي أن يلعبَ دورًا مركزيًّا في تلك المهمة، فعبر الحديث الصريح والمتكرر مع المريض، يكتشف المعالج الثغرات الفكرية، ونقاط الضعف النفسية، والمشاعر السلبية التي تؤدي إلى ظهور عقدة الناجي، ويبدأ عبر العلاج المعرفي السلوكي CBT وأساليب الإقناع المتناسبة مع الخلفية الفكرية والمعرفية للمريض في استبدال الأفكار السلبية بأفكار أكثر إيجابية عن النفس وعن النظر إلى النجاة من الكارثة على أنها هبة تستحق الشكر، وليسَ مثارًا لجلد الذات. 

اقرأ: عقدة المُنقِذ: شعرةٌ بين النبل والاضطراب.

3. الدعم الاجتماعي:

من أفضل ما يساعد على التأقلم ثم التعافي من الأعراض السلبية لتلك الحالة، التواصل الاجتماعي المباشر مع خاصة الأهل والأصدقاء، ومحاولة الاندماج معهم في أنشطة محببة كممارسة الهوايات أو السفر … إلخ. فإن تعذَّر هذا، فيمكن الانضمام إلى بعض مجموعات الدعم النفسي التي يشرف عليها الأطباء أو المعالجون النفسيون والتي تضم مجموعاتٍ ممن يعانون من نفس المشكلة ليتبادلوا الخبرات بطريقة إيجابية، ويفرغون طاقة التعبير عن النفس والمشاعر، ويبثون الهموم المشتركة بعضهم لبعض.

4. التفاعل الإيجابي مع الفقد:

بدلًا من الانكفاء على الذات، والاستسلام للمشاعر السلبية واجترار الأحزان، يمكن للتحرك الإيجابي أن يحدث الفارق، مثل دعم جهود إنقاذ ومساعدة الناجين من الكوارث ماليًّا وبالمشاركة في أنشطة الدعم المختلفة، فهذا يرفع الروح المعنوية، ويقلل الإحساس السلبي بجلد الذات.

اقرأ: فوائد التبرع بالدم: 10 أسباب ستحفزك على التبرع الدوري.

كذلك يجب بذل جهدٍ أكبر في العناية بالنفس جسمانيًّا ونفسيًّا، بدايةً من النوم الجيد ليلًا – في حالة تعذره، يمكن استشارة الطبيب ليصف عقارًا مساعدًا على النوم – والطعام الصحي المتوازن، وممارسة الرياضة المعتدلة كالمشي نصف ساعة على الأقل يوميًّا معظم أيام الأسبوع، وممارسة الهوايات المُحبَّبة مثل القراءة أو الرسم … إلخ. 

5. العلاج الدوائي:

لا يوجد عقار نفسي محدد مضاد لعقدة الناجي، والعلاج الدوائي في العموم ليس هو الخط العلاجي الأول لتلك الحالة، لكن يمكن أن يلجأ له الطبيب النفسي في حالة اقتران عقدة الناجي باضطراباتٍ نفسية أشد مثل الاكتئاب، لا سيَّما إن صاحبَه ميولٌ انتحارية، أو اضطراب القلق … إلخ.

6. التدين الإيجابي:

كثيرًا ما تُغفل دراسات الطب النفسي – لا سيَّما الصادرة في البلدان الغربية – دور التدين في التعاطي مع العديد من الاضطرابات النفسية، وليس هنا مجال الخوض في سبب تلك الظاهرة، ولكنني أرى أن عقدة الناجي تحديدًا ترتبط ولو بشكلٍ غير مباشر بقضية دينية مهمة وهي الإيمان بالقدر خيره وشره، وعدم جواز أو جدوى الإغراق في مساءلة الأقدار (لماذا حدث هذا، وماذا لو، وماذا كان سيحدث لو كان كذا … إلخ، وماذا لو كنت فعلت كذا، هل كان ينجو فلان أو علان … إلخ)، إذ كثيرًا ما يعاتب المرء نفسه تحت وطأة عقدة الناجي على تقصير مُفترض في تجنيب الآخرين الكارثة التي وقعت، أو أنه لو كان مثلًا منذ سنوات لم يسكن في المنطقة التي وقعت فيها الكارثة، لربما لم يكن قد فقد أبناءه مثلا فيها … إلخ. كلها نماذج جلد للذات غير العقلاني الذي يصاحب تلك الحالة.

 ولذا، فالتعاطي العلاجي النفسي التقليدي مع تلك القضية سيكون في رأيي قاصرًا بالأخص في البيئات التي تميل إلى التدين، إذا لم يصاحبه جُهدٌ موازٍ من مُنطلقاتٍ دينية، لا سيَّما ولدينا أدلة علمية عديدة على دور الدين والروحانيات الإيجابي  في مواجهة الضغوط والاضطرابات النفسية بوجهٍ عام.

اقرأ: هل يساعد التدين المكتئبين؟ العلم يجيب.

7. تجنب الممارسات الخاطئة في مواجهة عقدة الناجي:

أول ما ينبغي تجنُّبه هو الإنكار، لأنه كما ذكرنا يترك النار مشتعلة تحت رماده الكاذب، فيفاقم الحالة، ويؤخر التعافي كثيرًا. في المقابل، فإنَّ الاستسلام لجلد الذات أو لوم النفس بما لم تقترَفْ ليس حلًّا هو الآخر. ينبغي أيضًا تجنب الميل للعزلة، والانطواء على النفس، فهذا يؤخر التعافي.

ومن أخطر ما يلجأ إليه البعض للتخلص من المشاعر السلبية الناجمة عن عقدة الناجي – وغيرها – إدمان الكحوليات والمواد المخدرة، فمثل تلك الممارسات وإن أدت إلى بعض التحسن المؤقت بالهروب من النفس ومن المشكلات، فإن الأضرار الكارثية اللاحقة يعرفها الجميع.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.